البستان

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

- جامعة الملك عبدالعزيز- كلية المعلمين - السعودية

قال صديقي: لم أكن قادرا على ابتلاع كافة التعليقات و التلميحات التي كانت تصدر عن أبناء حارتنا اتجاه خالتي،  فهي في نظرهم ذات قوة وصلف و مجبولة بالخبث والدهاء ، أو كما قال أحد المتفيهقين صماء رجلاء أي غليظة شديدة.كنت أرى خالتي إنسانة وادعة حنونة ولم أتخيلها كما يرجفون وحشأ ماكراً.

بدأت أبحث بحيادية عن قوتها الكامنة المزعومة و عن السر وراء سوء الفهم ، فبدأت زياراتي المكثفة لها وكنت أتفحص كل عبارة تتفوه بها .أنقضى اليوم و لم تسعفني أحاديثها وخطواتها و مواقفها في رصد أي شىء ذي قيمة يثير الشبهة أو يؤكد الحكاية.تأملت ملامحها من جديد و دققت في خفايا جريمة لم يرتكبها أحد. كانت مهمة صعبة، نظرت إلى زوجها فكان انسانأ طيب القلب ، طويل القامة ،مفتول الشاربين ، فيه شهامة و نخوة.كان كريم النفس ، و اذا ما ضحك بانت نواجذه و اغرورقت عيناه بالدموع و غمغم بكلمات مبهمة.غير أنه اذا ما استفزه أحد خرج عن طوره وأخذ يرغي و يزبد و كانت خالتي تدرك ذلك.

في لحظة ما تجاهلت بعض طباعه فأثارت غضبه ، و بدون مقدمات ألقى باتجاهها عكازته التي يتوكأ عليها ثم رفع سبابته بالهواء و نظر إلى السماء و كأنه يخاطب أحد الكواكب." و الله لن تنامي هذه الليلة في هذا البيت ! و حلف بأغلظ الأيمان و هدد بأبغض الحلال لو رآها تحوم في أطراف البيت.انطلقت خالتي على رؤوس أصابعها مثل حمامة برية ضلت طريقها إلى عشها. زمت شفتيها وانعقدت تكشيرة بائسة على جبينها واختفت وراءالازقة المؤدية إلى بيت أمها والشمس وراء الأفق تعانق الغروب.غمغمت بنبرات مهزومة و كادت تتعثر بفستانها العتيق.الذين شهدوا الواقعة قالوا إنها لم تنبس بكلمة واحدة وأن عينيها خشيت أن تذرف الدموع فاحتبست الى حين و شوهدت و هي تكفكفها بين يدي أمها العجوز.أما زوجها فقد جلس على أقرب كرسي و قد انتفخت أوداجه و اشرأب عنقه مثل ديك شرس فرغ للتو من معاركة دجاجاته في قن ضيق.أشعل سيجارة و طلب ابريقأ من الشاي. نهضت ابنته من جلستها كالملسوع و ماهي إلا دقائق حتى عادت بالإبريق. ظللت رأسه الصغير غمامة حزن. تناول كوبأ من الشاي الثقيل المعطر بالميرمية و قد مد رجله اليمنى على حصير ، و ما هي إلا دقائق

حتى غشيته سحابة نعاس فخيم الصمت إلى حين في لحظة غروب حزين لا يعكر صفوه إلا صفير و شخير.

عاودني السؤال مثل كابوس  يؤرقني: هل يمكن لخالتي أن تتصف بالقسوة؟ عندما كانت تجلس في حضرة زوجها كنت أتأمل عينيها الخائفتين و كنت أحس أجراس الخوف تقرع داخلها من خلال ارتعاشات أناملها و ارتجاف نبراتها.أحسست أنها ضحية حارة تلوك ألسنتها كل شيء و تتدخل و تتطفل فيما لا يفيد أو يعنيها من قريب أو بعيد. لم  أفهم سر حقدهم على خالتي فقلوبهم تنزف بغضأ لها. ليتهم كانوا يبغضونها فحسب بل أنهم يحقدون عليها و ثمة فرق بين الشناءة و الحقد. تناول طعام الغداء معها ,كانت هادئة كريمة و ما أن فرغنا من الغداء حتى استأذنت لقضاء بعض الأعمال في بستانها.يعجبني في خالتي أنها تعشق الأرض و دائما كنت أشاهدها وهي تارة تحرث الأرض وأخرى تقلم الأشجار.كان أهم شيء في حياتها بستانها، فقد اعتنت به بصورة استثنائية و ربما هذا سر اعجابي بها فهي لم تتعود التنقل من حارة لأخرى.كان البستان مثقلا بثمار أشجار التفاح و الأجاص و التين والليمون و الدراق و الكرمة.كانت في عمل دائب لا تكل منه حتى غدا مسرة للناظرين و حافزا للفتيان و المتطفلين لاقتناص حبة تفاح أو قطف عنب من فوق السور المرتفع بلا استئذان و هذا ما كانت تمقته خالتي و يجعل الشر يتطاير من عيونها الصغيرة. و أغرب ما سمعت بهذا الخصوص أنها ذات ظهيرة شاهدت أخاها و في يده كيس مملوء بحبات أجاص و كان قد دخل خلسة للبستان فما كان منها إلا  أن طردته شر طردة بعد أن فقدت صوابها- و صادرت المواد المسروقة !دون تفكير بنتائج فعلتها ، و عندما ناقشتها لاحقاً بعد مراسم الصلح قالت ضاحكة: كنت كالثور الهائج أريد أن أرمي به من فوق قرنيه.

من ميزات خالتي عصاميتها و قدرتها على الاحتمال.يستشهدون على جبروتها حكاية ولادتها فعندما جاءها المخاض فجأة و هي في حقل الزيتون خارج الزيتون خارج القرية على مبعدة ثلاثة كيلو مترات ،لم يكن لديها متسع للتفكير و التأمل.تمنت لو كان بمقدورها الصراخ لينتقل صداه في السفوح والأودية إلى أذني الداية أم سعيد، ولكن لم يكن أمامها وقت للصراخ.كانت على مسافة خطوتين من الموت و الحياة ،فما كان منها إلا أن شدت على نفسها و تجرعت الألم مثل سلحفاة بحرية كبيرة تتهيأ فوق حفرة صنعتها لتضع بيضها فتترقرق عبراتها ثم تمضي في غياهب البحر تتقلب في ثنايا الموج.انزوت إلى جذع زيتونة رومية و استعانت بما تيسر لها من الخرق و أمسكت ببعض الفروع المتهدلة وأطلقت عبر خياشيمها أنفاسها حرى ملتهبة.ضرعت إلى بارئها طالبة العون فما هي إلا دقائق حتى كسر جو الرجاء صراخ مولود فكانت الحياة أقوى من الموت و الضعف والتلاشي.كانت رابطة الجأش، تلاقت دموع الفرح و الألم و تدحرجت ساخنة مستقرة عند شفاه تعاني من الجفاف.

بعد ساعة قال العارفون إنها شوهدت تمشي الهوينى ..تحتضن مولودها وعلى محياها ابتسامة غامضة تتحدى الألم بثقة و شموخ.

انبلج الفجر على القرية جميلا تتداخل فيه زقزقة عصافير الدوري و هديل الحمائم في البساتين مع خفقات قلوب العمال و لهاث المزارعين. عقارب الساعة تتحرك برتابة غير أن شيئأ من التوجس والترقب بدأ ينتاب أبناء الحارة مع زعيق سيارة الإسعاف و هرولة آخرين الى المركز الصحي. بدأت الدروب المؤدية للمكان تعج بالناس، أصبح الخوف غمامة سوداء تنذر بخطر داهم.عدد من الفتيان يحملون وهم في حالة صعبة، ترى هل أصابهم مرض غامض؟ هرع مختار القرية و تبعه أمام المسجد و هو يضرع بالدعاء.ظلت القرية تعيش حالة الترقب بعد أن حول الطبيب المناوب بعض الحالات للمستشفى للمتابعة، و تعامل مع بقية المصابين من خلال بعض الحقن والأدوية المتاحة. بعد ساعات تراجع الرعب الذي استوطن أزقة القرية بعد أن تبين أن ما جرى لم يكن سوى حالات تسمم غذائي، و كشفت عمليات غسيل المعدة أن الفتيان تناولوا فاكهة سبق أن رشت بمبيدات شديدة المفعول.

المتهم الوحيد هو بستان خالتي فهو الذي تميز بهذا الصنف من الفواكه و أصر المرجفون بأنها زادت نسبة المبيدات و درجة السمية ليكون ذلك رادعاً للمتطفلين. ظلت خالتي تنكر لأسابيع الواقعة و تنفي أن يكون لها صلة بما حدث. رحم الله حالتي في الذكرى الثالثة لرحيلها فهي لم تكن تماماً كما اعتقدت و ما عاد بستانها مثقلاً بالثمار كما كانت تحلم.