لقمة العيش
جمال بنورة
الساعة الخامسة صباحاً.
اغتسل، وشرب قهوته، وجلس ينتظر سيارة "الجمس" التي تقلهم يومياً إلى تل أبيب.
لا تزال آثار النوم تغشى عينيه.. أمامه مشوار طويل، سيحاول النوم ثانية خلال الطريق، وإذا استطاع ذلك فسوف يتخلص من الشعور بالخوف الذي يلازمه طوال الطريق ذهاباً وإيابا. فهم يخرجون صباحاً وهم يشعرون بأنهم يعرضون حياتهم للخطر من أجل الوصول إلى مكان عملهم، ولا يدرون إذا كانوا سيعودون سالمين إلى بيوتهم أم لا!!
قبل أن تصل الحاجز الإسرائيلي، خرجت السيارة عن الإسفلت، ومشت في طريق ترابي متعرج، شقته السيارات العربية التي تحمل النمرة الصفراء.
حالما يدخلون المنطقة الإسرائيلية، لا أحد يتعرض لهم أو يسألهم.. إلاّ إذا شاءت الصدف غير ذلك.. كأنْ توقفهم سيارة شرطة لسبب أو لآخر، فتمنعهم من الدخول، وتعيدهم من حيث أتوا.. وقد يتعدى الأمر ذلك فيتعرضون للضرب والإهانة والتحقيق.. وربما يُساقون إلى أقرب مخفر للشرطة حيث يجبرونهم على توقيع تعهد بعدم العودة مرة ثانية. وفي حالة المخالفة عليهم دفع غرامة بقيمة خمسة آلاف شاقل لكل واحد، أو السجن. ولكنهم رغم ذلك يعودون ثانية.. فسبل العيش ضاقت في وجوههم، ولا مناص لهم من المغامرة بالمجيء مهما كلّفهم ذلك.
كانوا يسمعون بدعم العمال ومساعدتهم. ولكن ما حصلوا عليه من مساعدات غذائية لا يسدّ الرمق.. وثلاثة أيام قضاها أمام مكتب العمل وهو ينتظر دوره لاستلام ستمائة شيكل –وعدوهم بها- على غير طائل.
أحس بذل الانتظار، كأنما هو يتوسل، وكأنها ليست حقاً له. فقرر التخلي عن المراجعة حتى يخف الزحام.. ربما..
ححتى الستمائة شيكل صارت بحاجة إلى واسطة لتحصل عليها. وماذا سيفعل هذا المبلغ مع عائلة مكونة من زوجة وأربعة أطفال؟!
***
أوقفتهم دورية حرس حدود ذات مرة أثناء محاولتهم اجتياز الخط الأخضر، وصلبتهم في الشمس أكثر من ساعتين. دقق ضابط الدورية في هوياتهم. راجع قائمة أسماء يحملها معه. ثم سألهم عن تصاريح العمل. فكان الجواب:
-كان معنا.. والآن أوقفوا العمل بالتصاريح.
-تعملون انتفاضة ضدنا.. وتريدون العمل عندنا؟
-لا علاقة لنا.. نحن نعمل لتوفير لقمة العيش لأطفالنا.
-عرفات معه فلوس كثير.. لماذا لا يعطيكم؟ أليس هو من يريد عمل انتفاضة؟
-لا نعرف! نحن لا نتدخل بالسياسة!
-من الذي يطلق الرصاص علينا؟
-كيف لنا أن نعرف؟
-لو كنت تعرف.. هل ستقول؟
-قلت لك.. لا أعرف!
قال الضابط مستفزاً::
-ليس لكم عمل عندنا. أوقفوا الانتفاضة، ثم تعالوا للعمل عندنا..
-وهل الأمر بيدنا؟
-بيد من إذن؟
-ما أدرانا!
بعد أن طال انتظارهم. تشجع أحد العمال، وتقدم من الضابط قائلاً:
-هل تسمح؟
نظر إليه الضابط مستفسراً، فأكمل:
-ما دمت لا تريدنا أن نذهب إلى عملنا.. دعنا نعود إلى بيوتنا!
ممن تعابير وجه الضابط، أحس على الفور أنه أخطأ فيما قال. فقد أدرك أن ذلك لن يغير من موقفهم. كان في لهجته نوع من الرجاء، وهو ما أسف عليه كثيراً، فلاذ بالصمت منتظراً.. حتى أشار الضابط بإصبعه –دون كلام- أن يعود إلى مكانه..
ارتفعت الشمس في كبد السماء. ضاع عليهم يوم عمل آخر، قبل أن يسمحوا لهم بالعودة إلى منازلهم.
***
اليوم، ها هي الدوريات تملأ الطرق. يسيرون في طريق، فيلمحون دورية عن بعد. قبل أن يصلوها يعودون أدراجهم باحثين عن طريق آخر.. حتى تمكنوا أخيراً من الالتفاف حول "المحاسيم" الطيّارة، والوصول إلى ورشتهم متأخرين بعض الوقت.
***
عدة شهور مضت منذ بداية الانتفاضة، لم يتمكن فيها من الذهاب إلى عمله./span>
كانوا يتشددون في منع العمال من الوصول إلى مكان عملهم..
تعرض الكثير منهم للضرب أو الاعتقال بسبب ذلك.
ككان الوضع يبدو مخيفاً.. لم يشأ أن يغامر بالذهاب.. ولم يَبدُ في الأجواء ما يشير إلى قرب إنفراج الأزمة.
ولم يكن من المعقول أن يظل بلا عمل، بعد أن نفدت مدخراته، ولم يجد عملاً بديلاً في مناطق السلطة.
أخذ المقاول اليهودي يُلح عليه باستمرار ليعود إلى عمله. فهو يتصل به يومياً طالباً منه إنهاء الشغل الذي بدأه. وقد أبقى بعض الأجور غير مدفوعة ليجبرهم على العودة إلى العمل.
قال له على الهاتف:-لدي اتفاقية عمل يجب أن أنجزها في الموعد المحدد. أنت لا تعرف كم سيترتب علي من خسارة إذا لم أسلم الشغل في موعده./span>
-ولكن الإجراءات العسكرية تمنعنا من الدخول!
--سأنتظرك عند الحاجز في سيارتي.. أحضر العمال معك.
***
تمضي الأيام في ترقب وخوف.. وهم يتعرضون لنفس المعاناة اليومية./span>
سمعوا صوت انفجار. في الحال خطر لهم أن الانفجار ناجم عن عملية فدائية.. وهذا ما تأكدوا منه بعد قليل من جهاز ترانزيستور يحملونه معهم. ولم يكن موقع الانفجار بعيداً عنهم.
سيطرت حالة من الفزع.. والناس يتراكضون هنا وهناك وقوات الجيش والشرطة تغلق الشوارع.
كان عليهم أن يغادروا المكان فوراً.. فقد أخذت تتشكل تجمعات عنصرية، تصرخ مطالبة بالموت للعرب.
جاء المقاول –االذي أنشأ معه علاقة صداقة على مدى سنوات طويلة اشتغلها معه- وجدهم يستعدون للرواح.. طلب منهم التريث، وعدم مغادرة الورشة ريثما يهدأ الوضع. غاب للاستطلاع، ثم عاد ثانية.
-الآن يمكنكم المغادرة!/span>
أأصرّ على توصيلهم بنفسه حتى يطمئن بأن لا يصيبهم سوء.
***
أكثر من مرة أبدى المقاول سخطه من تدهور الأوضاع إلى الأسوأ. فهي من ناحية تهدد مصالحه، ومن الناحية الأخرى كان يؤمن كما عبّر عن ذلك قائلاً: "لا يستطيع أحدنا أن ينفي وجود الآخر.. فلا بدّ لنا من أن نعيش معاً.. ما دام قدرنا أن نوجد كلانا على هذه الأرض". ثم يضيف بحركة هوجاء من يده كأنما يهدد أحداً: "متى يفهم الزعماء ذلك؟"/span>
وعبّر عن غضبه من نجاح شارون قائلاً:
-أعتقد أن الأمور ستزداد سوءاً.. كان هذا خطأكم.. لم تقبلوا بمقترحات باراك!
رردّ عليه قائلاً:-لماذا لا تقول إملاءات باراك؟
-ألم يكن ذلك أفضل مما يعرضه شارون الآن؟/span>
-وهل يجب أن نقبل بما يُعرض علينا؟
-هذا سيطيل أمد الصراع!
-هل بيدنا أن نمنع ذلك؟
-لا أدري.. ولكنني أعتقد.. أن كل ما يحدث الآن.. سينتهي في أحد الأيام.. وسنعيش معاً بسلام.. فليس أمامنا خيار آخر..
ثم يضيف متسائلاً:
-هل ترى غير ذلك؟
-ولكن كم من الضحايا سوف نقدم.. حتى يجيء هذا اليوم الذي تتحدث عنه؟
--هذا ما يستطيع الزعماء أن يجنبونا إياه ولكنهم لا يفعلون! وسوف تحاسبهم الأجيال إذا لم يفعلوا ذلك!
***
عندما يصل إلى مكان عمله يتصل بزوجته ليطمئنها بسلامة الوصول./span>
بعد أن يُجهزوا أنفسهم للعودة، يتصل ثانية ليخبرها بأنهم في طريق العودة. تحسب الزمن الذي يحتاجونه، ثم تبدأ بمراقبة الطريق.
عندما يتأخر عن موعده، يبدأ القلق ينهش صدرها.. وتطل –بين الحين والآخر- على الشارع، لترى هل جاءت سيارتهم أم لا!
حينما تلمح السيارة في طرف الشارع، تنـزاح عن صدرها غمة تلازمها طول النهار.
وزوجها يدخل البيت تقول في غمغمة على مسمع منه:
-الحمد لله على السلامة.. هذا يوم آخر مضى بسلام!
فيرد زوجها:
-من قال لك انه مضى بسلام؟ استمعي إلى الأخبار لتعرفي أنه لم يمض بسلام.
ثم وهو يخلع ملابس الشغل:
-نحن نريده سلاماً للجميع، وليس لنا فقط!