خُبزُ اليَتَامى..
ماجد سليمان
-1-
أجلس على مكتبي لأغرس قلبي بين سبابتي وإبهامي، وأجرح به ظهر الورقة التي بشَّت من جموع الأفكار الواقفة عليها، لأكتب:
( ما أمرَّ خبز اليتامى، وما أفجع اليتم المعصور في قدح الظلم والقمع الأسري والاجتماعي، وما أقسى غِصَّة الموجوع حين يُلقِمَهُ الأقارب أكبر حجرٍ ينتقونه له.
هي كشقة الذنب العظيمة في مجتمع يرى في نفسه أنه أفضل المجتمعات تديناً ومحافظة.
هكذا عرفناك يا مجتمع الآراء المفروضة رغماً عنَّا، حين تكبِّلُ أفواهنا عن المناقشة أحياناً، وينبح في قفانا كل كبيرٍ لا يخاف).
سألت نفسي على مضض:
- لماذا يقدم هذا المجتمع أبناءه لأفواه الهموم المصفرة؟ ولماذا يراهن على أنه أتقى وأنقى المجتمعات بينما تستمتع بالسعي في جسده جرثومة الرذيلة ودودة المعصية؟!
أزفر بشدة في نفسي:
- تباً لك يا مجتمعاً يقاضينا بما ليس هو من فعلنا.
زفرت للمرة الثانية:
- عذراً مجتمعي على كل الخير الذي يملأ جرارك إلا أنك لم تصادر أباريق وكؤوس العابثين في حياة أبناءك وبناتك.
نثرت ماد الموضوع على طاولتي، وأخذت أصابعي تلعق ذاك الرماد بحزنٍ عميق، وتحادثه بأناملها المجهدة،.. أتساءل...؟ وأتساءل...؟ وأرجم بحجر السؤال رأس الحيرة حتى ينصدع، فكم فتىً وفتاة قُدموا جثة لأكفان الظلم والغصب.
نهضت من مكتبي متجهاً إلى النافذة، دفعت بشباكها نحو الشارع المطلة عليه، فإذا بهواء الرياض يداهمني كجمعٍ من لصوص الليل.
- 2 –
الرياض.. بوابة حين تنفتح على مصراعيها تمج لك مآتم ومظالم يتاماها ومعذبيها.
الرياض.. سيرة طويلة لمقموعين ألهبتهم سياط الأقارب وأبناء العمومة.
هناك في أحد أحياء جنوبها يقع بيتنا المحشور في آخر زقاق الحي الضيق الذي ترتع فيه الحشرات وترد إليه الزواحف وتلُقى على قارعته الخردوات ومزابل أهل الحي المجاور علاوة على تكبر سيارة البلدية التي من واجبها نقل النفايات عن زقاقنا المنسي.
بيتنا .. جدرٌ تتألم كل صباحٍ من أحزان أمي المنكفئة على أماكن كثيرة من مساحه المتواضعة.
بيتنا.. صمت أمي المتآكل، ومظالم كثيرة لم يعد لبيتنا الحزين حلق صبر على ابتلاعها.. فقد غصَّ بها واسودت جدرانه المتصدعة من وبل بكاء أمي كل يوم.
ثمان سنوات من اقتران أمي بزوجها.. ثمان سنوات أزهق خلال أيامها ولياليها آخر نفسٍ لكرامة أمي.
ثمان سنوات.. كأنهن ثمان أحجارٍ ملتهبة ابتلعتها أمي رغماً عن أنوثتها.
ثمان سنوات.. ما ألذ الظلم على قلبه، كأنه يكرع قدحاً من الخمر.
أوقاتنا يمضغها الأسى وحاجاتنا لم نسطع إنقاذها من فك الحرمان.
آهٍ ما أقسى الحرمان.. لقد كبرت أمي في عامها الواحد عشر مرات بل أكثر من علقم الحياة معه.. تغص كل يومٍ بوجعها وحرقتها تجعدت بشرتها الطرية.. ترمد أملها.. تبعثر رجاءها إلا من الله سبحانه وتعالى..
زوج أمي لا شيء بين أضلاعه الجليلة غير الحقد والبغيضة المتراكمة فوق قلبه المتحجر، لا شيء على لسانه الغليظ غير البذاءة واللعان وترديد الشتائم لأمي، ولا شيء على كفيه الكبيرتين غير الإساءة والبطش والقسوة الجائرة، فحصان صبر أمي معه لا يشق له غبار، هذا ما رأيت أنا وأختي، وهذا ما أفجعنا وأوجعنا في الوقت نفسه.
في ليلة حملت في رحمها الفجيعة أغمد ظلمه في خاصرة أمي، أيقنت لحظتذاك أن الظلم بحرٌ هادرٌ سيكتسح تضاريس حياتي، وقف أمامي كالطود العظيم، له لحية كثَّة مختلطٌ سوادها ببياضها وجبهة عريضة كثيرة التجاعيد ومنكبان عريضان مخيفان، وطولٌ بالكاد يقف أمامه خصومه وأضداده، أخذ يحملق نظره في فقذفت وجهي أرضاً، وبدأت فكي تراقص أسناني رعباً ورهبه، ثم أدار وجهه العريض إلى أختي فتكورت على نفسها كقنفذٍ أحس بسبعٍ يترقبه، أخذ يحدق في وجهينا البريئين وكأن عيناه دبابيس محققٍ تدق سمرة وجهينا الضعيفين، لحظتذاك تمسكت أمي بطرف ثوبه وأخذت تجره لأسفل وهي تسعل بشدة:
- اتق الله فيني ما أنا إلا امرأة ضعيفة، لا تكن ظالماً.
ألقى إليها بنظرته الحادة التي لو كانت شفرة سيفٍ هندي لقسمت وجهها إلى قسمين، ثم أمسك بجديلتها الطويلة وشدّها إلى أعلى لترتفع أمي ككتلة لحم رفعها لحامٌ ماهر، ثم بصق في وجهها البدري:
- ما أنتِ إلا حذاء ألبسه ثم أرميه قبل أن يبلى.
كان كلامه سهام حقدٍ زُجّت في نحرها فأطلقها من يده الضخمة كما يطلق الصياد أرنبة برية من يده، نهضت ممزقة الثياب مسلوبة الكرامة.. محطمة المشاعر.. مبعثرة الروح.. مدهونةً بسواد قلب الرجل العربي المكابر، وقفت على باب غرفتها المتصدعة، أخذت تمور في بحر دمعها وحزنها، التفتت إلينا ورأتنا محشورين في زاوية المنزل كقطين مريضين، وأخذت تهذي بكلام حاولت أن أسمعه ولكني لم أستطع ذلك، فقد كانت شفاه أمي متورمة بعض الشيء وإحدى ثناياها تزخر بدمها الطاهر، لحظتذاك كان زوجها قد خرج تاركاً خلفه ضياع أسرة قد أقر وأقدم على وقوعه، فقد همَّش كل اعتباراتنا الأسرية.
ما زالت فرائصي تتراعد كما هو الحال عند أختي التي أجهشت ببكاء مرير بعد أن ألقت أمي بجسدها المتهدم على فراشها الرث المملوء بالتراب والقشور اليابسة، كأنها تعزي نفسها في كل عظمٍ من جسدها النحيل، اقتربنا منها فأخذتنا بين ذراعيها كجروين جائعين، لقد كان لها أنين لا ينقطع، وتأوهات مسكرة وبكاء مشحون بغصةٍِ بالغة.
أخذت أقرأ الجور الذي خطه على وجهها، جروح غمقت كأخاديد طويلة، ورضوض وزّعت على وجنتيها وأخذت أتأمل كحل عينيها الذي شارك دمعها السباق على خديها، فقلت في رعب:
- أمي، لماذا فعل عمي كل هذا؟!
- 000000000000
- إنه مخيف يا أمي إنه كالذئاب فعلاً.
- 00000000000
ثم عادت لمجاهدة أوجاعها الغفيرة دون أن تنبس بكلمة.
ليست أمي سوى واحدة من اللاتي عجنَّ تحت أقدام هؤلاء الجبابرة الذين يرون أن المرأة ليست إلا وسيلة لإفراغ الشهوة وبهيمة تكنس بيوتهم وترتبها
وبعد أيام وهناك بالضبط في محكمة الرياض ينفصل الظالم عن أمي شرعياً.
هناك في زقاق الحي الذي كنا مقبورين فيه كانت أمي زغرودة على شفاه نساء الحي اللاتي لا يرغبنها أبداً، وفي نفس الوقت كانت هناك زغرودة أيضاً تحط على فمها لخلاصها من كهوفه ومن سياط حقده وسوء تعامله.
أخرج القاضي ورقة كتب عليها بحبرٍ أزرقٍ متقطع (مطلقة) حتى طلاقها كُتب بحبرٍ ضئيلٍ كجسدها، حتى في طلاقها لم يحترموا ورقتها، فقد كتبوها بحبر الاستحقار والانتقاص، يا لفرحة أمي أصبحت مطلقة، وعادت إلى أهلها بلا أغراض لأنها لم تكن تملك حتى أبسط الأغراض.
"أمك مطلقة"... هكذا كان ينعتني الصبية الذين في سني.
"يا ابن المطلقة"... هكذا كانوا يتفوهون علي.
أصبحت ألوك حزني بعد ذهاب أمي إلى أهلها، لقد مدت لنا فنجال الرحيل باكراً ونحن في بحر سنواتنا العشر أو أكبر قليلاً.تسابقت السنون، والحزن يلفحنا كل ليلة..أمي.. وجه الحقيقة النحيل.. قنديل الصبر الخافت، لقد اغتسلت من كل جروح حياتها مع أبي وانسلخت تماماً من كل شيء يذكرها به، فقد نزعت ثياب رائحته ولون أيامه وقذفت بها في سلة النسيان.
لقد سافر خنجر الحيرة في صدري فلم يعد أمامي إلا المسافات السمراء أقطعها إلى حيث أخوالي
لقد تدحرج رأس حيرتي حتى وصل زاوية العجز عن وجود من تشابه أمي ولو برأس الأنملة، لقد كانت تصوغ لنا حلل الاهتمام وكنا نرضع الهدوء والسكينة من حنانها.
تدافعت الأيام بالأكتاف وانهمرت الليالي كشلالات التلال، وها أنا اليوم أقف عازماً على مغادرة حارتنا العتيقة موجهاً هدفي ونفسي إلى حيث أمي وأخوالي،كم قلت في نفسي مراراً:
"أمي.. كيف لي أن أشد من عزيمة النسيان وأنساكِ"
التفت إلى حارتنا بعد أن ابتعدت عنها حوالي الكيلو لأوقف إحدى سيارات الأجرة فصحت بأعلى صوتي الأجرب منتقماً:
- بؤ بذنبك يا مجتمعاً يركل النبلاء ويفرش الورد للمنافقين.. بؤ بذنبك يا مجتمعاً رحب بالخزي ووسَّد المنكر ريش النعام.. بؤ بذنبك يا مجتمعاً ألقى بابنة المعروف في معرة الجحود.
عند هؤلاء القوم قد ذبح كبش الأدب والاحترام على صخرة التهاون واللامبالاة.
أخذني سائق الأجرة في قلب الصحراء على الطريق السريع المتجه إلى مبتغاي ، فالنهار ما زال رمحاً يخترق السماء ولا تزال الطريق تتوعدني بالمكائد والمفاجآت السارة لها.
الصيف يجلد بسوطه الحار ظهر البيداء الطويلة فقد فل ثلاثة أرباع حرارته حتى الآن والربع الباقي ليس بالبعيد.
لم يكن على جسدي الهش غير ثوبٌ تملأه الرقع الملونة التي فُقد نصفها وثُقب النصف الآخر، وهو ثوبٌ ليس بالمخبون كما يجب، وطوله لم يتعدى نصف ساقي النحيلة السمراء التي توزعت عليها الجروح والكدمات المتفاوتة في الحجم والشكل.
ما زالت الروح ممتلئة بلهاثي وضمئي القاصم لرؤية أمي.
قطع بي سائق الأجرة مسافة ليست بالسهلة، تراكاً خلفه الرياض الظالم أهلها.. ذابت في الغياب أو ذهبت في ركب البعاد.
دنت الشمس من غيابها قليلاً .. نسنست برودة المساء فأخذ قلبي يخفق هلعاً ويرتد خوفاً من مجيء الظلام، إن النهار سيكون مقبوضاً عليه من رقبته بعد سويعات ليست بالبعيدة، بدأت أحث السائق على الإسراع ليقطع أكثر من نصف المسافة على الأقل.
بعد ساعتين وخزت شوكة الجوع معدتي الفارغة الملتصقة أسفل ضلوعي الهزيلة، وبدأت عروقي تستجيب لحرقة الظمأ فقلت في نفسي:
- سأنحر هموم المسافة بلا زاد ولا ماء؟
ثقلت حركتي وبدأت رأسي تدور واستسلمت لإغفاءة ثقيلة