زائر في الخريف

م. زياد صيدم

[email protected]

أقلته عربة اليموزين التي طلبها من استعلامات الفندق ، إلى حيث عنوانها الذي يتذكره من ذاكرة قد شوش صفاؤها مرور السنين، و تفاقم الهموم، وزحام الأفكار والوجوه،  وصل إلى المنطقة، بحث عن محل يعلمه للزهور قريب،كان لا يزال في مكانه، فانتقى ضمة ملونة تتوسطها وردتها المفضلة ؟.. رتبها بنفسه  وأمر بكتابة بطاقة صغيرة كانت جملة قد لقنها للبائع  بعناية.. طالب بتوصيلها على الفور ترافقه وتسبقه إلى المكان.. قرع حامل الزهور جرس الفون على بوابة العمارة بعد أن استدل على اسمها ، كان احمد من خلفه ما يزال واقفا شبه متجمد، كان كل تفكيره قد تركز في هذه اللحظات بصلاة يتلوها في سره.. يستجدى أن تكون في سكنها ما تزال، فقد أرادها مفاجأة ، فلم يتصل مسبقا لميعاد أو يتأكد من وجودها على الأقل ؟... لحظات وانفرجت أساريره.. من الطارق ؟ نعم سيدتي نحن محلات " فالنتينو" للزهور لك باقة مُرسلة هل تأتى لأخذها أم احضرها إليك أجابها.. تفضل الدور السادس أجابته ... فتحت باب الشقة مد إليها باقة الزهور، نظرت إلى البطاقة فأومأ برأسه قائلا: نعم الرجل بقى بالأسفل ينتظر.. حدثه بما دار بينهما قبل أن يتركه أمام البوابة الرئيسية عائدا لمحله، بينما أحمد ينتظر لحظات هي سنوات طوال بدأت في المرور أمام ذاكرته...

بدأ يسير الهوينى ذهابا وإيابا على طول الشارع الفرعي، بدأ يستعيد كل متر بل كل شبر فيه بمحلاته، وواجهات مبانيه، وبالعربات المصطفة وهى الشاهد على مرور عقدين وأكثر.. كان متأكدا بان إحساسها الداخلي سيوحى لها بالزائر الضيف القادم من بعيد.. هكذا كانت البطاقة تقول وفى نهايتها كلمة لا تتركيني في الانتظار طويلا  على ناصية الطريق .. مرت فترة كافية لتكون قد رتبت أمرها على عجالة.. وها هي تشق البوابة الرئيسية، تلتفت يمينا ويسارا، تبحث عن الرجل الزائر من يكون .. كان هو في الطرف المقابل من الشارع في مقابلها تماما .. تقدم بخطوات بطيئة تجاهها كان يبتسم لها .. أخذتها الدهشة.. فقد بانت من حركات يدها وفاها، انتزعت من حقيبتها نظارات طبية لم تكن لديها من قبل.. نظرت إلى وجهه وقد اقترب أكثر.. كادت أن تختنق اللحظات من هول المفاجأة .. فلم تذكر البطاقة من يكون مُرسلها، ولم تتوقعه أبدا ولم يخطر ببالها حجم هذه المفاجأة ، أنت.. أنت احمد قالتها بصوت خافت ممتد بسنواتها التي فاقت العشرين الفاصلة بين آخر لقاء صاخب وحاسم في علاقتهما بوجود أمها!.. نعم كرستينا.. أنا هو أحمد .. لماذا لم تصعد فانا أعيش وحيده بعد وفاة أمي من خمس سنوات.. ادعوا لها بالرحمة يا احمد فانا أعلم بأنها كانت السبب في ما حدث ولكن هذا كان قدرنا جميعا...فتمتم وأومأ برأسه وقد حزن عليها.. تفضل سنصعد الآن قالتها ملوحة بيدها التي ارتجفت، كما حديثها المتلعثم وتقاسيم وجهها المبهور ما يزال من وقع المفاجأة.. أم من برودة أحمد في اللقاء ؟،مما أربكها ولعثم خطواتها..ثم أردفت قائلة: الطريق تعلمها جيدا لم يتغير شيء سوى بعض الألوان في الشقة وقد أزلت الحائط الفاصل بين الشقة الصغرى والكبرى لتصبح واحدة .. دخل إلى غرفة الصالون دون أن يتفوه  بأي كلمة ..كانت هي منشغلة في وضع باقة الزهور في كأس كبيرة،  وأخذت تعبث بها كأنها تبحث عن زهرة بعينها..!فوجدت ما خطر ببالها.. لم ينس أحمد تلك العلامة المميزة.. فهذه النوعية ولونها مفضلتها، والتي أصبحت مفضلته فيما بعد .. لم تستطع إخفاء ارتباك حديثها للحظات، ولا إخفاء رعش يديها وهى تمسك بوردتها المحببة لتضعها في منتصف الزهور..كان  يراقبها بإمعان في كل حركاتها، وهمساتها الغير مفهومة المنطلقة من ثغرها الجميل، فحتى الآن لم يتفوه بأي كلمة إضافية... شعر بشيء يثقل على قلبه لم يستطع المكوث طويلا .. شعر بالهواء ثقيلا يكاد يفقده أنفاسه في الشقة.. فكل شبر فيه يذكره بماض حافل بكل ألوان الطيف منذ أن كان شابا في مقتبل العمر..من شفتيه انطلقت جملة وحيدة: هل ترتدين ملابسك للخروج؟.. سنذهب لتناول الشاي في الخارج أيمكنك فعل ذلك؟ ..نعم احمد كما تريد أجابته وما تزال متسمرة بأفكارها..  تداعب وردتها المحببة من بين الزهور لابد وأنها في تلك اللحظات كانت تستعيد ذكريات لا يمحوها الزمن.. هكذا كان أحمد على يقين فبقى صامتا.. نظرت إليه ومضت لحظات تريد أن تقول الكثير .. تريد أن تسأل الكثير.. انه هو وحده الذي يستطيع أن يفهم تلك النظرات ..أعاد عليها السؤال بالخروج .. نعم أحمد هيا بنا ..  اصطحبته بعربتها، إلى أين تريد الذهاب سألته.. لا عليك  كرستينا  اسلكي هذا الطريق .. خمس دقائق وأشار إليها بالتوقف، اركني هنا لو سمحتي.. نزل من العربة يتفقد المنطقة محاولا أن يظفر بالمكان الذي أراد.. كانت تمشى من خلفه حتى لحقت به وأصبحت بموازاته، أشار لها بإبهامه هناك سنتناول الشاي !..نظرت إليه حيث يتجه فأدركت الموقف !.. فعادت بها الذكريات إلى وقت بعيد .. تناولت محرمة ورقية من حقيبتها ومسحت بضع قطرات من دموعها ..لاحظها احمد ولم يعقب واستمر بالسير نحو المكان.. دخلا .. نظر يتذكر تلك الطاولة المميزة لم يجدها فقد تغير ديكور المحل والأثاث فيه، لكنه اختار ذاك الركن فجلسا..ساد صمت بينهما حتى بدأت هي بالحديث والسؤال.. كانت تتساءل عن كل شيء وهو صامت لا يجيب إلا بنعم أو صحيح مكتفيا بابتسامة هادئة.. كان فكره الشارد في الزمن وفى عينيها وسحرهما الذي لا يزال تأثيره واضحا عليه، يحاول إخفائه خلف شعره الأبيض  وهدوئه المكتسب من تقدم السنين .. يجعلانه في وضع مختلف في حضورها، فهي الوحيدة التي أدمت قلبه فرحا وألما.. غبطة وسعادة.. هناء وتعاسة.. هي أساس الإحساس والشعور ، هي الحب الذي لا يموت.. هنا في هذا المكان كان اللقاء الأول والذي تكرر بعدها على مدار أكثر من ثلاث سنوات متتالية!.. دس يده في جيبه واخرج محرمته الورقية، وانزل نظارته وقام بمسح قطرات تهاوت إلى صحن خده.. وأعادها لينظر إلي عينيها الخضراوتان الواسعتان، والى وجهها  يتفرس ملامحها بعناية ..لا تزال سيدة جميلة متوهجة، أنيقة بشعرها الذهبي الناعم، وانفها الطويل، وسحنتها التي لا تزال نحيفة وان امتلأت قليلا.. لمست يده وتساءلت بإصرار على أن يجيبها: لماذا أتيت بعد هذه السنين ؟ ..ولماذا هذا المكان بالذات ؟ وماذا تعنى ؟.. لم يجبها.. واكتفى بالسفر في عينيها كعادته كأنهما بالأمس القريب.. فامسك بيدها ونظر إلى ساعته وقال: حان ميعادي مع احد الأصدقاء الذي حضر من بعيد لرؤيتي وهو ينتظرني الآن عند صديقي بلال أتتذكرينه.. آه نعم بلال أما يزال هنا ..نعم  وله أسرة وزوجة .. هل أوصلك إلى حيث تريد سألته.. سأكون مسرورا لكسب مزيدا من الوقت معك أردفت له القول ..لا أريد إزعاجك اتركيني في ساحة " الحرية " فقط وسأتدبر أمري.. فالمكان هناك أعلمه.. لكن .. ماذا كرستينا.. احمد أريد أن تأتى للعشاء الليلة عندي أريد الاحتفال بك وبما يليق بزيارة العمر.. سأنتظرك لان عندي كثير من الحديث إليك أضافت.. وهل بقى حديث بعد يا عزيزتي أجابها... نعم يا احمد سأنتظرك ولا تخيب أملى ... نظر إليها بحزن امتزج مع ابتسامته المعتادة ... وقبل أن ينزل إلى حيث يريد همس لها : أتعلمي باني حضرت إلى هنا خصيصا لأجلك لأني أنهيت مهمة عمل في مدينة قريبة .. فقلت لا يصح أن لا أعرج على مدينة فيها أحبة لي ولا تزال محبتهم في قلبي !.... فانفجرت بالبكاء وأخذت بالنحيب بصوت مسموع، تخفى وجهها المحمر بين كفيها خجلا .. فهدأ من روعها.. أرادت أن ترتمي على صدره.. إلا انه تدارك الآمر ولم يعطها مجالا؟.. وان كان قلبه يتقطع شوقا فما زال متمالكا لنفسه أمامها ... كانت شفتيها ترتجفان، وقد احمر وتورد خديها، إلا أنها لا تزال كالطفلة أمامه، يراها بعيون الزمن الماضي الجميل .. نزل من عربتها والتفت إليها قائلا: أعدك بالقدوم فإلى اللقاء هذا المساء .. فرأى ابتسامتها تلك الابتسامة التي لا تزال متوهجة ببراءة الأطفال..أحس بفرحتها وبراءتها كما كانت.. وان اقتربت على الخمسين من عمرها .. دخل احمد إلى المكان حيث الميعاد وغاب فيه أكثر من ساعة .. ثم خرجوا ثلاثتهم  وانطلقوا صوب المترو .. لكن زامور إحدى العربات الواقفة اقلق المارة.. فالتفت كل واحد معتقدا بأنها إشارة له.. فاستدار أصدقائه ولم يأبهوا بتلك السيدة الشقراء ذات الشعر الذهبي المتهدل.. لكنها كانت تشير بإبهامها إليهم نحو صديقهم احمد.. وخزه صديقه  إلى أن يلتفت خلفه، كان مستهجنا فلم يتعرف عليها بعد .. كانت " كريس " كما كان يحلو لامها تسميتها .. كانت قد نزلت مسرعة باتجاههم  تريد اللحاق بهم قبل أن يهبطوا في محطة المترو  الأرضي .. كانت من لحظة أن تركها أحمد قبل أكثر من ساعة قد تسمرت في مكانها ترقب خروجه.. فتوقف وبدأ يهز رأسه يمينا ويسارا وهى تزيد من سرعة خطواتها باتجاهه .. وهو يزيد من نبضات قلبه خفقانا وقد تحركت قدماه باتجاهها.. تلاحم الاثنان في عناق حميم ..كانا قد كبحا جماحه قبل سويعات قليلة .. صعد الاثنان إلى العربة.. فانطلقت كريس كالسهم، كانت عينيها تشع ببريق خاص !.. انه وهج لا يعلمه سواه، ويحس ما خلفه من أسرار..؟ وفى  طريقهما كان قد أدار هاتفه المحمول.. ليخبر صديقه بان لا ينتظرانه هذه الليلة.!!  

إلى اللقاء.