قصر وفقر

عصام أبو فرحه

[email protected]

شهر واحد فقط ,

شهر استطاع ان يرسم على وجه ( العم سمعان ) لوحة عجزت عن رسمها سنوات عمره الخمسين الماضيه ,

لوحة تبدي عجوزا غائر العينين , اجعد الوجه , أبيض الرأس ,

يخال لناظره ان الزمن تركه ليظل شاهدا على عصور خلت ,

جلس سمعان في كوخه مستذكرا ذلك اليوم الذي جاء به الى هذا القصر قبل خمس سنوات , ترك حينها ( سقيفته ) الآيلة للسقوط ليسكن هذا الكوخ الجميل الصغير الذي يتوسط حديقة قصر ( البيك ) ,

جاء مصطحبا زوجته وأطفاله الثلاثة , صبي رضيع , وصبي آخر في السادسة من عمره , تكبرهم ( زهره ) ابنة العشرة اعوام ,

في ذلك اليوم أحس سمعان بأن الدنيا – ولاول مرة _ تفتح ذراعيها لتحتضنه مع عائلته ولتنقله الى عالم جديد من السعادة , كوخ جميل وسط حديقة أجمل سيكون ( سمعان ) راعيا لها , يزرع الورود ويسقي الاشجار , اما زوجته فستعمل في مطبخ القصر , خمس سنوات من السعادة والهدوء نعم بها سمعان مع عائلته , عمل مريح  , طعام وفير , سكن دافىء صغاره يكبرون ويترعرعون امام ناظريه , ينعمون بخيرات ( البيك )

خمس سنوات من السعادة ما خطر ببال سمعان بأن لها ثمن , فليس عند البيك أي شيء بلا ثمن , ثمن اختار ( البيك ) ان يجبيه من تلك الزهرة المتفتحة ( زهرة ) , فاستباح جسدها مع اول تفاتيح  لبراعم الانوثة في ذلك الجسد , تذبل زهرة وتذبل وتذبل ,

بدأ اللون الاصفر بسرقة احمرار خديها شيئا فشيئا ,

وبدأت ملامح الخوف والذهول بأطفاء بريق العيون ,

عرفت ام زهرة ما حدث , فألقت على كاهل سمعان عظم الحدث ,

ثلاثون ليلة تشرق شموسها لتشهد جلسة سمعان تلك , ذهول , حيرة , حزن   ,,

تتقاذفه الافكار وتتخبط به صراعات العقل والقلب والعواطف وحسابات الآتي ,

كان اول قراراته نابعا من عاطفة الابوة :

سأقتله ,, نعم سأقتله ,,

سانتظر عودته لأغرس سكينا في صدره كما غرس في صدري الاف السكاكين ,

يثنيه عن ذلك تفكيره القلق على زوجته واطفاله والى أي مجهول سيؤول حالهم ,

تداهمه روح الانتقام من جديد ,,

يجب ان يموت , انه لا يستحق الحياة ,

بعض السم في طعامه الذي تطهوه زوجتي ,,

سيموت بعدها كما يموت أي بعير ,,,

لكنه  ( البيك ) صاحب الثروة والعز والجاه ,

فموته ليس كباقي الموت , انه ( موت الغني ) ,

ستعلم القرية بموته قبل موته , وسينكشف امرنا قبل التنفيذ ,

يصل مع افكاره الى طريق مسدود , فيحاول اقناع نفسه بأن النسيان والسكوت هما الحل ,

( فأن تبيت مغلوبا مع الستر خير من ان تبيت مغلوبا مع الفضيحة )

لكن عيون زهرة وشحوب وجهها يسدان الطريق على أي نسيان ,

وتلك العبرات الدائمة الانهمار من مقلتيها تمنعان الذاكرة من الجفاف ,

اما الستر فأين السبيل الى الستر  ؟

سيعاود البيك فعلته مرارا الى ان ينكشف ( المستور ) ,

وربما جلب معه ( بيكا ) آخر ( وبيوكا ) آخرين  ,

ثلاثون ليلة من الحيرة انتهت في تلك الليلة ,

ليلة باردة مظلمة ,,,

دفىء البيوت يحجب عن ساكنيها كل ما هو خارج الجدران ,,

في تلك الليلة وعلى مشارف تلة قريبة استقبل قلب زهرة طعنته بهدوء واستسلام ,,,

اسلمت روحها الى خالقها ,,

مغمضة عينيها عن هذه الدنيا بشرها وخيرها ,,

مطبقة شفتيها على سؤال يقول : من الضحية القادمة ؟؟؟؟؟؟

شريط مثقل بالاحداث والمشاهد استعاده ( سمعان ) من الذاكرة , استعرض احداثه مرات ومرات قبل ان يسلم رأسه الى  مخدته باحثا عن نوم غاب عن جفونه طويلا وأظنه سيغيب ,,

في الصباح كان البيك يجلس في ( البلكونة ) يشرب القهوة وينظف ( البايب )

وكان سمعان يعمل في الحديقة  بينما زوجته تقوم بعملها في مطبخ القصر ,

كل شيء في القرية يسير كما المعتاد ,

فما حدث ليس بذلك الحدث الكبير أو الامر الخطير ,,,

ليس اكثر من فاحشة قام بها غني فأدت الى موت فقير ,,,,,