من قال إنها شفافة فقد كذب
عزيز العرباوي
كاتب وشاعر من المغرب
كنت
أقدر أن أعضاء المكتب كلهم سيكونون هناك ، يقومون بتجهيز مكتب التصويت على
الشكل الذي شرحته لهم البارحة . كنت أعلم علم اليقين أن اليوم سيمر على ما يرام
.
لن
يكون هناك أي اعتراض يذكر من طرف هؤلاء الشيوخ الثلاثة ، والذين لم تكن لي يد في
اختيارهم لمساعدتي . إنها رغبة السلطة المحترمة وتقديراتها الجيدة
.
استقبلني أحد الأعضاء ، والأصغر سنا ، كما جاء في مذكرة السلطة . مثلما
استقبل ممثلي الأحزاب السياسية المتنافسة ، وقد توافدوا على ذلك المكتب في ذلك
اليوم ، كي يراقبوا عملية التصويت . لم يعد يجمعني بهم سوى الصمت والنظرات
المتبادلة . لقد جاءوا من شتى الأنحاء والحواضر ، يحملون وجوها صارمة وقلوبا مليئة
بالرغبة في الاعتراض وإبداء الملاحظات تلو الأخرى
.
كانت الساعة تقترب من
الثامنة صباحا ، موعد افتتاح عملية التصويت ، لم يسمح لي الوقت ، ولا جدية الأشخاص
المتواجدين بنفس المكان ، بالتعرف على كل واحد منهم على حدة . ولكني وباللقطة
الخاطفة أخذت قرارات التعيين من كل واحد منهم ، وقارنتها مع النسخ المتواجدة معي
.
تمكنت من معرفة توجهات كل شخص بينهم ، والحزب السياسي الذي يمثله كل واحد . أمعنت
النظر في الأعضاء الثلاثة بجانبي . نظراتهم الشائخة ، تجاعيد وجوههم العميقة ،
كأنها أخاديد رسمت بفعل عاصفة هوجاء
.
كانت رغبتي العميقة في مرور هذا اليوم
على
أحسن ما يرام ، دون مشاكل واعتراضات ، كما جاء في كلام ممثل السلطة عندما قال
لنا
: "
يجب
أن ترجعوا هذه المحاضر نظيفة وخالية من الملاحظات ، فهو أفضل
لكم
جميعا ، حاولوا أن تحلوا كل مشكل اعترضكم بالتراضي
" .
ظلت
هذه
العبارة منقوشة بخاطري ، لم يطفئها مرور الساعات بجانب زوجتي
.
سحبت نظراتي
من
وجوههم بسرعة ، وأنا أتمتم الكلام الذي يقال في مثل هذه المناسبات . ثم تابعت
عملي وفتحت السجلات أمامي ، منحت نسخة لنائبي ، حيث جلس بجانبي ، وأخذت الأخرى ألقي
نظرة على المعلومات المسجلة فيها
.
صاحت ساعة المنبه المعلقة على الحائط ،
تعلن عن الساعة الثامنة ، وكررت صياحها مرات ومرات حتى وصلت ثمان صيحات . ألقيت
بالسجل جانبا ، سميت الله الرحمان الرحيم إعلانا بفتح عملية التصويت . أخرج
الممثلون الأربعة أوراقا بيضاء ، وانهمكوا في تسجيل بعض العبارات ، حاولت أن أقول
شيئا ، لكن الكلام دشن سدا منيعا على صفحة لساني الطرية ، واخرسني دفعة واحدة ، دون
عدل
وحكمة
.
تذكرت وأنا أمسك يد عجوز ، وأضعها في الحبر ، لوضع بصمتها أمام
اسمها ورقم بطاقتها لتكتمل العملية . تذكرت أمي وهي تمنحني يدها لتقبيلها كل صباح ،
اليد الرقيقة التي اشتقت إليها ، واشتقت لطبيخها . لم يكتمل الحلم الرائع إلى
النهاية المرغوبة . محاه صوت شخص يعلن إصراراه على التصويت رغم عدم وجود بطاقة له ،
وعدم تسجيله في سجل الناخبين . كان صوته هذا إعلانا عن رغبة في إظهار كبريائي ،
ورغبة مدفونة في إشهار رئاستي للمكان ، وأن القرقر يعود إلي ، وإلي فقط ، دون تدخل
من
أحد
.
حاولت أن أجد التبريرات الممكنة ، لأوضح فعلا ما ، لكنني صمت ،
شعرت بالضيق يتسلل إلي ، وكان الجو خانقا ، والمكان مظلما ، والنوافذ كلها مغلقة
.
فكرت أنني تسرعت في قبول هذه المسؤولية الصعبة ، دون تفكير ونظر . رحت أفكر وأعيد
التفكير في إلحاح الشخص الذي كان غريبا وشديدا ، هل منعته من حق وواجب ؟ أم هي
المسؤولية التي أقعدتني فراش الضمير والصرامة ؟
.
رحت
على نحو غريب أنتقص من
مسؤوليتي هذه ، وتمنيت أن أخبيء وجهي تحت وسادة خشنة في تلك اللحظة ، وأفكر الآن ،
كيف
أنني تجاهلت حقا وواجبا منذ اللحظة الأولى ؟
.
همس
لي نائبي وسط الضوضاء
وحديث الأشخاص المزعج ، أن ذلك الشخص الذي طردته ، يتوعدني ويهدد بقتلي بعد مغادرتي
هذا
الفضاء اللعين . عدت إلى عملي وأنا لا أدري ماذا علي أن أفعل بالضبط ، ووجدتني
أفكر وأردد كلمات كسيحة . ثم ألقي بجسدي وبظهري على الكرسي . ليبدأ من جديد سكون
طويل بين الموجودين بالمكان . وعلى نحو غريب وقصد بعيد التفكير شعرت بالرغبة في
بقائي بهذا المكان دون أن أغادر حتى تأتي السلطة
...
ترجلت ، نهضت من مكاني
،
توجهت إلى خارج المكتب ، انعطفت ، ملت إلى جانب خفي وراء الباب ، أرقب ماذا يقع
بالخارج ، نساء كثيرات مجتمعات يناقشن بطاقات بعضهن . رجال وشبان يتراشقون
ويتضاحكون ولا يبالون بأي أحد . أطفال صغار متسمرون في مكانهم . الشخص الذي كان
يهددني لا يوجد بين هؤلاء . ندت عن ثغري ابتسامة وجهتها إلى الرجال والشبان
المجتمعين . أردفتها بتحية الإسلام . لم أتراجع إلى الداخل ، بل هبطت درج المبنى
وفي
قلبي رعشة غريبة تكاد تخلع فؤادي من فضائه
.
انتظرت أن يلتفت إلى وجهة
أخرى ، ويكلم أحدا ما بجانبه . ولكنه لم يفعل ! حاولت أن أستدرجه إلى التفكير معي
في
حل هذه الإشكالية دون أن يعرف أي أحد من الحاضرين . وفكرت أن هذا أول مشكل يمكن
أن
يقع فيه من هو في وضعي ، فرحت أحسب الأوراق الباطلة من جديد ، وأنا أنظر في وجوه
الممثلين الغريبة والذين مافتئوا ينظرون إلي ويراقبوا العملية بكل جدية ، ويتابعون
تحركاتي وعملياتي الحسابية . كان هذا طوق الاختناق الذي صنعته السلطة لي ، هي
بالطبع بارعة في هذه الحرفة
.
تناسيت أمر عدوي الذي ظل خياله يلاحقني طول
النهار ، وانهمكت في حساب المردودية التافهة لذلك اليوم . أوراق قد رسمت عليها
حيوانات وأشباح شبه عارية . ألوان منتقاة حسب طبيعة تفكير كل وكيل . علامات متشابهة
في
وضعها بين كل المصوتين . خرطشات بارعة في التعبير وإبداء الرأي ، تقفز وتنط من
مكان شاهق تريد الانتحار على مرأىً من أعين المترشحين
.
انطفأ نور الكهرباء
،
أظلمت الدنيا من جديد حولنا ، وسمعت ضحكات متتالية مختلفة النبرات ، كنت قد جمعت
الحصيلة في الصندوق الزجاجي الشفاف ، وأغلقته بإحكام . وسط دهشة الحاضرين فتحت
الباب وأعلنت عن نهاية يومي بخير وسلام . كنت أعتصر الدماء ، أفترش الهواء الشقي
المتبقي داخل المكان . أستحوذ عليه بقوة ، بصفتي رئيسا للمكتب
...
على
العموم من
قال
إنها شفافة فقد كذب
....