آخر صكّ في الدّفتر

ميزوني محمد البنّاني

ميزوني محمد البنّاني

[email protected]

 (1)

فتح الرّجل صحيفة " الانتصار" . تأمّل يعين راضية صورته الّتي كانت  تتصدّر صفحة " أخبار النّجوم" . مرّت إحدى نزيلات الفندق أمامه فطار بصره خلفها يتعقّبها حتّى غابت في الرّواق المؤدّي إلى جناح الاستقبال . عاد إلى الصّحيفة متمتما. اعتدل في جلسته ثم شرع يقرأ بزهو ما كتبه صديقه  الصّحفي عن إنجازاته .

>> * التّبرّعات والنّجوميّة :

كثيرة هي الجمعيّات الخيريّة الّتي ساهمت بتبـرّعاتها الماليّة في تقدّم التّجارب والبحوث القائمة على قدم وساق لاكتشاف دواء لمرض كان ولا يزال بدون وجه.

ثمّة تبرّعات أخرى زادت بعض النّجوم تألـّقا بفضل ما جادوا به على جمعيّات مكافحة السّيدا من أموال. وثمّة رجال ونساء من مختلف الجنسيّات ـ ممّن كانوا قابعين في الظلّ ـ وهبتهم تبرّعاتهم المالية الشّخصية نجومّية ساطعة آخذ كعبها في العلوّ يوما بعد يوم .

"عُمار الطّائي" عربيّ ثريّ هو الآن نجم ساطع في أوساط السيدا ومراكز البحوث العلمية ، فلتصدّق ، عزيزي القارئ  ، أنّ تبرّعاته الماليّة في شهر بلغت ضعف مجموع تبرّعات الجمعيّات الخيريّة والأثرياء ونجوم الفنّ في العالم طيلة العام الماضي .

تخيّلوا الأمر. إنّه  رجل كألف ، بل صندوق نقد منظّمة عالميّة قائمة الذّات.. <<

قرأ أيضا :

* >>

هل تمّ تخليق فيروس السيدا بواسطة أجهزة مخابرات بعض الدّول خصّيصا للرّدع وشنّ الحروب الصّامتةة ؟ 

وهل ؟ وهل ؟

في زمن الصّراعات الدّوليّة المعقّدة الّتي تباح فيها كلّ الأسلحة الممكنة وجدت بعض الدّول في نقل " فيروس الإيدز"  سلاحا فتّاكا يغرق بكلّ صمت أعداءها في مزيد من التخبّط في مستنقعات الفقر والأوبئة والتخلّف .

صحيفة عربيّة - مثلا-  أوردت أنّ سلطات  إحدى الدّول العربيّة الكبرى قامت بترحيل المواطن الأمريكي الجنسيّة  " وليام تشارلز" من ترابها بعد افتضاح أمره ، حيث تعمّد على مدى السّنوات الماضية استدراج مجموعات من الأطفال مارس معهم الفجور تحت إغراء المال ، وكان قد استأجر لهذا الغرض أربع شقق في أماكن متفرّقة من أحياء عاصمة هذه الدّولة . هذا وذكرت نفس الصّحيفة أن صديقة للسّائح الأمريكيّ تدعى " سارّة " حاملة مثله لفيروس السيدا  تمكنت من نقل المرض إلى عدد من الشّباب العربيّ .

 وتقول أقلام حسنة الاطلاع أنّ " تشارلز" و " سارّة " يتبعان شبكة لجهاز الموساد الإسرائيليّ .   <<

(2)

اقشعرّ بدن الرّجل . غمغم غير مصدّق . أخذ يردّد آليـّا ما سمعه أمس في ملفّ تلفزّي ساخن من أحد المحلّلين : " هل الحرب القادمة حرب الدّماء الملوّثة والأطعمة الفاسدة ؟ "

تنهّد عميقا قبل أن يعود مجدّدا إلى تأمّل صورته بغرور صبيانيّ منفلت. كانت هذه المرّة ،       بالألوان وفي إخراج لافت يتصيّد الأبصار مهما كانت كليلة أو شاردة .

لن يعتب بعد اليوم على صحيفة " الانتصار" بل سيثني أكثرعلى " ميشال" رئيس تحريرها بعد أن يعتذر له عمّا صدر منه في الأسبوع المنقضي ، فلقد كان متوتّرا حين رفع سمّاعة الهاتف وأزبد :

" ميشال ! أهكذا هي مكانة نجم مثلي عندكم ؟ بالأبيض والأسود تنشر صحيفتكم صورتي وبالألوان تنشر صورة " مارادونا  !" .

هل هو أكثر كرما وطائيّة منّي ؟

هل دفع لكم ولو مقدار جزء ضيئل ممّا أدفع لكم ؟

ماذا سيقال عنّي في أوساط النّجوم ؟ بدأ نجمه في الأفول وكعبه في التآكل !. لن أقبل بهذا . أرجو إيقاف مثل هذه المهازل . إنّ غضبي لشديد !

لا تقل : التكاليف ..التكاليف ! إنّها أعذار أقبح من كلّ تلك الـــّذنوب . لماذا تحسب عليّ دون الآخرين ؟

في كلّ الأحوال ، سوف تصلكم منّي مساهمة ماليّة حتىّ لا تتعذّروا ثانية بكلفة الصّور الملوّنة".

أعاد الرّجل النّظر إلى صورته بنرجسيّة متنامية.

بدا أنيقا في بدلته البيضاء وشاربيه المعقـّفين وحاجبيه الكثـّين وشعر رأسه الأسود الرّطب .

تذكّر" فيتهام ". كانت تقول له كلّما التقاها في لندن : " آه كم أخشى أن تظل سمرتك الخفيفة هذه تأسرني إلى الأبد  !".

تذكّر" كاترين". كانت لا تتأخّر كلما رأته في " كرنفال نيس" في التقهقربحركات استعراضية مردّدة بإغراء :" كأني بك خارج لتوّك من ( كتلوق)  !هذه شهادة اقبلها كما هي ، لأنّها من عارضة أزياء  !".

تذكّر أيضا " فانيسا" و " فيكي" و " مورغان" و " كولات" . لئن كنّ يحتفظن بتعاليقهنّ فعيونهنّ كانت تطفح بمشاعر الإعجاب والاستحسان في صمت فاضح وهو يلتقيهنّ .

نظر الرّجل نظرة أخيرة إلى صورته قبل أن يطوي الصّحيفة ويضعها بجانبه على الأريكة الوثيرة .

إنّه لا يخفي إعجابه بهذا العدد ، لقد أحسن صنعا حين اشترى منه عشرات الأعداد .

عند العودة إلى موطنه ، ستكون كلّها هدايا إلى الأصدقاء والمعارف حتى يدركوا مدى شهرته في الأوساط الغربيّة.

 في البداية ، سوف تتملّكهم تلك المشاعر الغريبة التي سبق لها أن تملّكته وهو يقرأ لأوّل مرّة في حياته عن هذا الدّاء.

كان ذلك منذ سنة . يذكر إلى الآن كيف أغلق يومها مجلّة " الأكسبريس" وقد سرت بين عظامه وجلده قشعريرة انتصب لها شعر رأسه وكامل جسمه.

يذكرأيضا كيف راح يلعن القردة بعد أن قرأ عن الاعتقاد الرّائج  أنّ " فيروس " نقص المناعة لدى البشر ترجع أصوله إلى " فيروس " نقص المناعة لدى فصيلة من القردة تدعى المنجابية ( القرد الأخضر) .

حين يذكر تلك الحادثة ،لا يكاد يصدّق أنّه صار مدمنا على قراءة كلّ ما يتعلّق بهذا المرض وحريصا أيضا على الاحتفاظ بكلّ المقالات والدّراسات الطبيّة الّتي تصادفه.

زوجته السّابقة ، لم تجد بدّا من ممازحته حين اكتشفت جبل المجلاّت والجرائد الذي كان يحتلّ ركنا من مكتبه . ماذا قالت له ؟ : " أنت بلا منازع  ، تستحقّ لقب دكتور سيدا كبير كبير ! " كلمات رددتها ، وقتها ، وطيور الخوف تحلّق في سماء عينها السوداوين. أمّا صديقه الأجنبيّ،  فلقد كاد يصرخ ملء فزعه عندما وقع بصره على تلك العناوين المختلفة للهلاك والفناء وهي بالبند العريض .

تنهّد الرجل بتعب ، صحيح أنّ نياط قلبه تتمزّق كلّما تصوّر المصابين بأعينهم الغائرة ونظراتهم الشّاردة وأجسامهم السّائرة نحو هزال فظيع ، وهم  في عزلة عن عالم خائف منهم ، يعيشون انتظارا مريرا لموت قابع خلف الأبواب الموصودة عليهم . وصحيح أنّه يساهم في دعم جهود مكافحة هذا الدّاء ، لكنّه لا يدري لم وعلام يريد مؤاخذتهم .

وضع إحدى رجليه على الأخرى وحرّكها باطمئنان وثقة بالنفس مفكّرا. لطالما شعر بأنّه في مأمن دائم من الإصابة بـ : " فيروس " نقص المناعة .

من ناحيته ، يرتاح إلى المتعفّفات ويعاف المومسات ويخشاهنّ ، ويشعر بالغثيان عند رؤية  القردة والشّاذين جنسياّ ومدمني المخدّرات ، ويريد دائما أن يعطي للأشياء حقّ قدرها ، فالوردة ينبغي أن توضع في مزهرية والفحمة مكانها الكانون ، والكلبة للكلب، والجورب البالي للحذاء البالي .

هذا ما عنده. لن يوضّح أكثر كيلا يدنّس حرمة هذه المسبحة التي يتسلّى بتحريك خرزاتها الفيروزيّة المطعّمة بفصوص الألماس والكهرمان الأسود النّادر. ومن أدرك مقصده سوف يعرف لماذا لا يخاف هذا الدّاء.

لماذا الخوف مادام "الأيدز" يسلك طريقا وهو يسلك طريقا ؟

لن يلتقيا أبدا كالخطّين المتوازيين اللّذين لم يدرك إلى الآن لماذا لا يتقاطعان .

نظر في ساعته. أحسّ بأنّه أعطى للمقال الصّحفيّ وقتا أطول من اللاّزم .

لتذهب إلى الجحيم القردة و كلّ غرّ يقع في شراك النّاقلين للإصابة ، وليشرع في إنجاز ما جاء من أجله إلى " ملهى كرايزي هورس" !.

(3)

عشرون سنة وسهمه لا يحيد عن الهدف أبدا، فماذا دهاه هذه اللّيلة.

أين فراسته وحسن تصويبه؟

خمس ليال- وهذه السّادسة- وهو يدقّق ثمّ يرمي ،  لكنّ السّهام تحيد كلّها عن المسار قبل الوصول.

يد خفيّة تعترضها فتغيّر وجهتها ، أم ترى المرأة جنيّة لا تنفع معها أساليب الترويض ؟ ليكن ذلك .

قليلات هنّ الجامحات اللاّتي التقاهنّ في حياته . لن ينسى واحدة منهم .

انقيادهنّ بعد عذاب كان لذّة لا يمحوها النسيان.

لتستمرّ – إذن-  في عنادها ومناوراتها. لتحتفل أكثر بكبريائها. لتحلم بأنّها هرم شامخ صامد في وجه الرياح ..

آتية هي السّاعة التي تقبل فيها عليه رافعة الرّاية البيضاء مبدية صنوف الطّاعة ككلّ سابقاتها.

الليّلة ، لن يتسامح مع نفسه في صورة الفشل المستبعد فخبرته وانتصاراته وصولاته لن تغفر له أيّ إخفاق.

إنّه " عُمارالطّائي" الذي إذا تعلّقت همّته بأمر فلابدّ أن يناله.

هكذا فكّر وهو يفتل شاربيه بكبرياء ناظرا في كأسه .

رأى " كولات" أقصى الملهى ، تبحث لها عن طريق إليه بين الأجساد المتلاصقة المتمايسة على وقع نغمات موسيقية هادئة حالمة .

بدت له مستعجلة  . هل تمكّنت من فكّ طلاسم تلك الحسناء الجامحة ؟ .

لم تخيّب ظنّه منذ أن بدأت تشتغل بهذا الملهى. لقد نجحت في كلّ اختبارات التجسّس الّتي خاضتها حتىّ أطلق عليها لقب جاسوسة درجة أولى.

مطيعة هي " كولات" وخفيفة الظل لولا غيرتها المفرطة عليه..

هل بخسها حقـّها ؟

سيارة " مازدا" رياضيّة وبعض الحسابات البنكيّة . هذا كلّ ما منحها مقابل سنتين من الخدمات والمهمّات الصّعبة . هل أوفاها حقّها ؟ 

رمقها يعينين تفيضان امتنانا وهي تقترب من الأريكة الحمراء التي يغطس فيها جسمه الضخم . ولم يبخل عليها بابتسامة ظريفة قبل أن تنحني عليه لتمسح أرنبة أنفها الأبيض الدّقيق على أرنبه أنفه الأسمر الّطويل هامسة :

" أورسولا. هكذا تدعى . ألمانيّة . لا تتقن الفرنسيّة كما ينبغي . هذه هي الليلة السّادسة التي لم تكلّم فيها أحدا ولم تراقص أحدا،  حتىّ الشرب لاتزال تفضّله وحيدة. حسناء غير عادية . حياتها تتّسم بالغموض والطلاسم  " .

  كان يستمع إليها وحدقتاه تتّسعان دهشته واستغرابا . بادربتقبيل جبينها ويديها امتنانا عندما انتهت من سرد الـتـّقرير مداريا الإحساس بالضّيق الّذي بدأ يتفشّى في أعماقه.

نظرت في عينيه نظرة ممزوجة بالقلق والشّفقة.

لم يسبق لها أن رأته في مذلّة ومهانة وضعف واستكانة . تغيّرت أحواله منذ أسبوع بظهور " أورسولا " بالملهى .  صار كطفل مسكين يحاول التعلّق بتلابيب أمّه بعينين دامعتين وهي عنه لاهية جافية.

كان في ما مضى نجم السّهرات وفراشة هذا الملهى ومبعث الفرح والمرح فيه ، واليوم صار يميل إلى الانزواء والشّرود وفي عينيه مزيج من الحزن والوحشة والدّموع.

هل وراء هذه الحسناء أمر غريب ؟ لماذا صارت تتوجّس خيفة منها وتعيش أصعب اللّحظات على حافّة الأسئلة المفزغة ، منذ أن رأتها ؟.

تعقّب " عُمار الطائي"  " كولات ببصره الكليل إلى أن اختفت بين الأجسام الّتي كانت تتداني وتتباعد على الإيقاع الموسيقيّ الذي بدأت وتيرته تشتدّ .

تذكّرودّها وطيبة قلبها وغيرتها المفرطة عليه . تنهّد قبل أن يتجرّع جرعة مرّة من كأسه .

أرسل بصره إلى دكّة المشرب حيث كانت " أورسولا " تقف وحيدة تناجي كأسها.

بدت له بفستانها الأحمر مدجّجة بالفتنة والجمال وجميع أسلحة الغواية والاستسلام الشّامل.

أحسّت بلسعات نظراته العاوية فالتفتت صوبه مبتسمة بسحر ثم رفعت كأسها الطّويلة وراحت تبادله النّظر من خلال بلّورها الشفاّف  شفيف بشرة وجهها وعنقها وذراعيها وساقيها.

أحسّ الّرجل بنسائم أمل ليّنة الملمس تهبّ على قلبه بعد طول قيض و يأس فابتسم ابتسامة أمل ورواء.

تمتم بزهو والفرحة العارمة تأخذه إلى بعيد ، أبعد من الرّكن الذي كان يجلس فيه في مؤخّر الملهى :

" أورسولا ؟ إلى أين المفرّ ؟

ستكون ليلتك حمراء أكثر احمرارا من فستانك ومن أيّ حمرة فاقعة بهذا الملهى الملتهب !."

(4)

توقّف العازفون فجأة عن العزف ، فتباعدت الأجسام وخمدت الأضواء الرفـّافة وساد الملهى سكون بارد .

حين يعنّ الكلام لـ :" عُمار الّطائي" وهو في ذروة سكره فلابدّ أن يجد آذانا صاغية لكلماته .

" لا اعتراض !

" لا تبرّم !

" السّمع والصّبر والشّرب واللّهو على حسابه حتىّ مطلع الفجر !".

وقفت " كولات" بجانب مراقصها الشاب  مصعوقة وهي ترى " أورسولا" تتبع الرّجل كظلّه..

تمتمت ملء دهشتها وغيرتها المستعرة : " ياله من عنكبوت ماكر يعرف كيف يلفّ خيوطه على الفريسة في الوقت المناسب  !".

تأمّلتها  باستغراب وهي تقف بجانبه تلتهمه بعينيها الكبيرتين وتبتسم له برقّة متناهية كأنّها ما جافته طيلة أسبوع ،  أمّا هو فلقد كان يرمقها بحنوّ مداريا تعب الأيّام الفارطة .  

فكّرت " كولات" بارتياب :

ما الذي قلب جفاءها عليه إلى وصال في السّويعات الأخيرة ؟

هل حقـّا وقعت في شباكه من عليائها الزّائفة في آخر لحظة؟

لا تكاد تصدّق عينيها وأذنيها .  إحساس قويّ بأنّ أمرا ما ليس في مكانه بدأ في السّيطرة عليها .

هيّا ! ماذا سيقول في خطابه الذي اعتاد أن يتمرّن عليه.

حتما سيحدّثهم للمرّة العشرين عن خيمة " حاتم الطائي" الذي كان عابرو السبيل يستدلّون بضوء نارها ليلا فيقصدونها ليأكلوا ويشربوا ويستريحوا مجّانا تحت مظلّة الكرم العربي .

ليته لا يعيد حكاية ذلك الفرس العربيّ المسكين فبدنها يقشعرّ ونياط قلبها تتمزّق لحكاية ذبحه وتقديمه طعاما للعابرين حين لم يجد ما يقدّمه لهم ! .

إنّها تعشق الخيول .  كلّما خلدت إلى النّوم حملتها الأحلام على ظهرأحد الجياد الّتي  تزدان جدران غرفة نومها بصورها  البهيّة . كم تمّنت أن تمتلك ولو مهرة صغيرة !.

هيـّا ! ماذا سيقول بعد أن يذكّر الجميع بأنـّه سليل " حاتم الطائيّ" وأنّ الكرم يجري في عروقه وعروق كلّ العرب ؟

هيّا ! ماذا سيقول وليس في الملهى هذه الليلة لاعب كرة قدم حتّى يعلن بالمناسبة أمام الروّاد عن عزمه صرف مبالغ مالية لفريقه كي يتمكـّن كلّ لاعب من اقتناء سيّارة  " كادات" رياضية مساهمة منه في ترقية أدائهم الكرويّ والنّهوض بكرة القدم الأوروبيّة .

لماذا التّساؤل وهي تعرف كيف يتصرّف " عُمار" كلّما التقى حسناء جديدة مثل هذه الحسناء ؟

لن تجد من سبق لها أن عاشت مثلها هذه  اللحظات الّتي تعيشها الآن " أورسولا " صعوبة في تصوّر سلوكاته وأفعاله المنتظرة .

في البداية ، سيرمق " عمار" كل الواقفين يعينين قد طوّحت بهما الخمرة ، وإذا ما سرّه انضباطهم وحسن إنصاتهم فتح ربطة عنقه المكتنز وتجشّأ، وإذا ما تجشّأ ، حاول التحكّم في توازنه ، وإذا ما تحكّم في توازنه ، أدخل يده في جيب سترته الداخلي ليخرج دفتر الصّكوك  ، وإذا ما أخرج دفتر الصّكوك اقتطع منه صكّا ، وإذا ما اقتطع الصكّ وقّع عليه على بياض، وعندها يرفعه إلى أعلى بقدر ما تسمح له يده المرتعشة ، فترتفع معها الأنظار ، وإذا ما تيقّن من أنّ العيون تعبت من الارتفاع الشّاهق  ، رطن بلسان متعلثم ثقيل مردّدا نفس تلك الكلمات التي سبق لحسناوات كثيرات قبل " أورسولا "  أن يسمعنها :

" عزيزاتي أعزّائي .

لا نملك في حضرة هذا الجمال الصّارخ الصّاعق إلاّ أن ننحني بنبل  ونجزل العطاء عليه.."

على هذا النحو تصّرف " عمار " لكنّه سريعا ما خرج  ،لأوّل مرة عن النصّ ، حيث أضاف فجأة وهو يفتح دفتر الصّكوك ثمّ يرفعه أمام العيون .

" كما ترون لم يبق في الدّفتر إلا صكّ واحد سيكون عطاء لجمال أورسولا. إنّه بصدق آخر صكّ لأخر حسناء في حياتي . "

قال ذلك بصوت بدا متهدّجا على غير عادته  ، وما لبث أن اقتطع الصكّ الأخير من الدّفتر ثمّ راح يدسّه بلطف في صدر " أورسولا" وأكفّ رواد الملهى تلتهب بالتّصفيق .

انحني الرّجل والحسناء أمامهم انحناء تين قبل أن يتخاصرا نحو باب  الخروج .

وفي الخارج وجدا " كولات " قد سبقتهما إلى مرأب السيّارات ، وحين رأتهم هرولت نحو " عمار" وقبل أن تتمكّن من استرداد أنفاسها لتسرّ إليه بأمر ما  كانت " أورسولا" قد خاصرته مجدّدا ومشت به نحو باب سيّارته. وما هي إلاّ لحظات حتىّ كانت المركبة تغادر المرأب  وتتوغّل في الطّريق المزدحم بالسياّرات والأضواء الليليّة الماجنة.

(5)

تمطّي " عمار الطائي" حتّى ندّ عن عموده الفقريّ صوت طقطقات متتالية ، وتثاءب إلى حدّ ظهور لهاته اللّوزيّة الحمراء ، بعدها،راح بيده الكبيرتين يفرك رأسه وجبينه ووجهه فرقبته وكتفيه وظهره.

لابد أن يتخلّص من هذا الخدر الذي مازال يأسر رأسه ويثقل عظامه ويلوى عنق الرّغبة في مواصلة النّوم .

سوف لن تجده " أورسولا" يغطّ كالـثّور في سبات عميق . لايريد أن يعتريها أدنى شكّ في قدرة بدنه على تحمّل السّهر والشّرب والمجون  وتتراجع في الإيمان بكفاءاته العالية.

هي الآن ، دون شك ، تحت زخّات الماء الدافئ تستمتع باسترجاع تفاصيل البارحة وتحلم بأكبر مبلغ ماليّ ممكن تملأ به فراغ الصكّ الممضى على بياض .

هل كانت البارحة ليلة ليلاء بكل معنى الكلمة ؟ لماذا يحسّ بأنها لم تكن تشبه كلّ ليالي اللّهو والمجون الحمراء التي جمعته سابقا بحسناوات أجمل حتىّ من " أورسولا".

صحيح أنّه كان من فرط السّكر يكاد لايميّز بين فمه وحذائه لكنّه عموما يستطيع تذكّر بعض الطرائف بما في ذلك طلب " أورسولا" اللّطيف لطف روحها.

لكنتها المستحبّة وهي ترطن بفرنسيّة ركيكة ، نظراتها الّتي كانت تتقاطرغواية  وحمما بركانيّة ،أنوثتها الصّارخة ، دلالها ، رقّتها ، كلّها عوامل جعلته البارحة يستحسن ركوبها على ظهره وهو يذرع بها أرضيّة الغرفة  على أربع ، واللّجام الّذي هو فستانها الشفّاف بين فكّيه ، تجذبه تارة وترخيه طورا مستصرخة إيّاه بنبرة متوسّلة :

" حمحم أرجوك . اصهل أكثر. لله ماأعذب امتطاء صهوة الجواد العربيّ !  "

إنّها لا تعلم بالمفجأة التي أعدّها لها هذه الليلة بملهى  " كرايزي هورس" سيظلّ يخفيها عنها طوال الليل ، وعندما يحين وقت الإعلان عنها ، سوف يطلب من كلّ رواد الملهى الاستعداد لتقبّلها وسيشير بعد ذلك إلى مربّي الجياد الذي سيكون واقفا حينذاك  عند الباب ، بالدّخول.

سيكون المشهد أخّاذا بل صاعقة من الفرح تنزل على قلب " أورسولا" وهي ترى المربّي يقترب منها بجواد عربيّ حقيقي ثم يضع بين يديها البضّتين لجامه الجلدي ، ليصبح منذ تلك الليلة ملكا لها يملأ أذنيها طوال الوقت حمحمة وصهيلا ، ويشبعها ركوبا وركضا.

" كولات" سيفقدها المشهد الصّاعق الصّواب وهي التي  تعشق الخيول العربيّة حدّ الهوس ، وستصرخ ملء غيرتها ممطرة إياه  بوابل من الشّتائم .

لا بأس عليها ! سيعرف حتما كيف يرضيها في الليالي الموالية .

لماذا تحبّ نساء ما وراء البحار الأحصنة العربية الأصيلة كلّ ذلك الحبّ الجارف ؟

هذا ما سوف يطرحه على " أورسولا" في الوقت المناسب.

نظر في ساعته قبل أن  يتحامل على نفسه مغادرا غرفة نومه إلى غرفة الاستحمام لاستعجال " أورسولا" . في الممرّ، خطر بباله بيت من الشّعر يحبّ في ساعات الحبور الترنّم بكلماته فأخذ يدندن :

وجد نفسه ينقر الباب نقرات استئذان خفيفة  قبل أن يدير الكوبة ويدلف إلى غرفة الاستحمام ..

اصطدم بصره بالحوض الورديّ الذي كان فارغا ببشاعة هذا الصّباح، وفي غمرة دهشته ، وقع بصره على صحيفة " الانتصار" وكلمات كانت قد خطّت بأحمر شفاه فاقع  على تلك المرآة الورديةّ الكبيرة . خطرت بباله " كولات" وهي تهرع البارحة نحوه وعاوده ذلك  السؤال  فتساءل مجدّدا لكن بعبثية  ،هذه المرّة  : لم يحببن ركوب الأحصنة العربيّة الأصيلة ؟

أطرق قليلا قبل أن يستجمع أنفاسه وشجاعته  ويشرع في قراءة ذلك المكتوب الأحمر:

" شكرا على الصكّّّّ ّّّالأخير من دفترك "

" مرحبا بك مصابا جديدا بفيروس الإيدز"

"  غيبوبة سعيدة !!!"

 الإمضاء: سارة