أطفال أدباء

محمد محمد البقاش - طنجة

[email protected]

ضمّ سقْف خولة ابنة خالتها وابن عمّها. يجتمعون في آخر الأسبوع ويبيتون عندها. جلسوا في غرفتها ليلة اغتصاب هولاكو بغداد، احتلها نذل واشنطن وقد خلت إلا من  المجاهدين والمقاومين الأفذاذ، جلسوا تحت سماء تفيض بماء منهمر. الرعد يقصف للانتصار، والبرق يضيء لخطف الأبصار..

يتداولون دروسهم وينشطون لتمارين يكلِّفهم بها أساتذتهم..

عندما يفرغون يتحولون إلى مواضيع أخرى وغالبا ما تكون جلْبا للمتعة والطُّرفة، يَحْفِلون بالأدب، وينتخبون القصص والحكايات..

اقترحت خولة أن يتصدّر أحدهم ليشنِّف أسماعهم بقصة أو حكاية، طالبت خديجة بالمبادرة فلم تستجب، أعادت إلحاحها دون حصيلة، عندها تدخّل ابن عمها وحمل باللُّطْف على خديجة فلم تقاوم رقّة كلامه، ولا صفاء لهجته، فقالت: (( لا أحسن سرد الحكايات ورواية القصص )) فقال لها:

ـ بل تحسنين.

فقالت:

ـ أتقبلون مني؟

ـ نعم.

ـ إذن، تعوّد عباس في غُدُوِّه ورواحه أن يداعب كلبه. يشتغل دهّانا. تعرفه ساكنة طنجة كما تعرف أبناءها. رجل رقيق ودود يأْلف، وأمين حفيظ يُؤْلف. لا يغدر في بيت به عِرْض، ولا يركن إلى بيت به داعٍ إلى الفساد ولو أن يضيع منه عمله. يحبّ الأطفال ويأنس بحضورهم في محيطه. ينفعل لغياب صوت الصّبا والطفولة لعقمه ويبتئس لذلك..

صعد مرة سُلّمه يدهن سقْفا في بيتٍ كريمٍ فماد به السلّم ليلقي بسطْل الدِّهان أرضا فأُهرِق على الأرضية، ثم تبعه عباس بسقطة على قدميه سرعان ما مال بها على جنبه الأيمن، ثم زحلق به الدهان إلى الأسفل فتقلّب في تزحلقه وابتلّت ثيابه ولم يسلم بدنه..

بالكاد نهض. شرع يتوجّع في نفس اليوم الذي توجع فيه الطفل محمد الدرة (1)؛ وقد حضر

للتوّ ربّ البيت وزوجه آمنة، انسلَّت كالسيف من غِمْده ودخلت غرفتها بخطوات تحسب بعيون العنكبوت القافز (2)، ثم رجعت بأخرى تحسب بعيون النحلة (3) ومكوِّنات الماء (4)، جلبت ثياب زوجها ليستبدلها عباس بالتي ابتُلّت، تناولها ودخل غرفة أخرى وارتداها بعد أن عجز عن إزالة آثار الدهان من بدنه، ثم قرر الذهاب إلى بيته ليأخذ حماسا ساخنا يستعين به مع زوجه على تنْقية بدنه.

تعجّل الوصول، ثم اقتحم الممرّ المفضي إلى باب البيت دون أن يداعب كلبه كما عوَّده، وما كاد يخطو الخطوة الثالثة والمفتاح في يده للقفل الثاني حتى انقضّ عليه كلبه وشرع يعضّه من سِرواله ويجرّه يريد إسقاطه؛ ربما لقلته. عباس يصيح بأعلى صوته: طوني.. طوني.. وطوني لا يستجيب؛ إذ ما أسمعه. تماسك عباس واستمات واقفا على ترنحه خشية السقوط حتى لا يكون حتفه علي يد كلبه، لا يفتر عن تحريك لسانه، ينادي على كلبه الذي لا يشكّ في وفائه، ولا يهتدي إلى تفسير غريب سلوكه، انخرط الكلب كالمجنون يريد الانتصار على خصمه الواقف عنده، المقتحم بيته؛ والمنتصب أمامه، أُذُناه تتلقىّ أصوات عباس ونداءاته، ولكنهما لا تستطيعان التثبُّت؛ إذ غيض سمعه في صوت عراكه، ورُوَيْدا رويدا شرع ينصت إلى الصوت، فطفق يستبينه، وعندها ابتدأ يقلّ حماسه في القتال، وينزل إيقاعه في المنازلة حتى توقف خجولا مُنكَّس الرأس صامتا لا يحرِّك ساكنا..

دخل عباس على زوجه فاقتادته إلى الحمام، ثم عالجته من جراحات كلبه ووضعت عليها ضمادات، وحين اطمئن إلى سلامته خرج إلى كلبه يداعبه وكأن شيئا لم يحدث، اهتدى إلى خطئه الذي لم يقصده، واهتدى إلى خطأ الكلب الذي لم يقصده هو الآخر، ولكن الكلب لم ينقلب إلى السرور، ولم يبد أيّ حركة مما تعودها منه عباس، لا ينشط ذيله بالحركة، ولا يرفع وجهه للنظر في وجه عباس، فانحنى عليه وشرع يمرِّر يده على ظهره، ويُربِّت على رأسه، ولكن الكلب لم يستحب، احتار في أمره، ثم ظهر له أن يفتح له الباب كما يفعل معه عند كل رَوْحة ليخرج للركض وقضاء الحاجة ففعل..

راح الكلب رائحة الدِّهان فتبعها ليجد لباس ربّ البيت المخضَّب بالدهان قد رمت به أمّ وِِجْدان، فحمله بعيدا، ثم شرع يُقطِّعه ويبْتلعه دون قضْمٍ حتى أتى عليه..

تأخّر الكلب عن اللِّحاق ببيت صاحبه فخرج يبحث عنه ليحده متوعِّكا مما  فعل، حملـه إلى

بيته وشرع يُسْعفه، وفي الصباح الباكر ذهب به إلى الطبيب البيطري ليعالجه، وحين وضعه على سُدّته للفحص قضى..

قضى الكلب منتقما من اللِّباس والدِّهان الذي حجب عنه رائحة عباس. قضى معاقِبا نفسه على ما فعل، ولكنه لم ينتحر.

................

ـ استمري.

ـ انتهت القصة، والآن دوْرك يا مراد.

وانطلق لسانه:

ـ اصطحبني والدي معه؛ ترافقنا " لايْكة ". توجَّهنا في مَجْمع البحرين إلى " لَلاّ جميلة ". نصطاد الكمْبري ونتّخذه طعْما لسمك الشَّرْغو الذي يهيم بصيده والدي، وينتشي بمشاغبته حين يقع في صنّارته..

حين نتحرّك من مسقط رأسي؛ يعلم الشباب جهتنا. وحين نطل على شاطئ مرقالة يدرك من يستظل بسمائه ممن يعرفوننا؛ وِجْهتنا، فإذا نوى الشباب الصيد اصطحبونا ليعينوا أبي على صيد الكمبري حتى يكتفي.. وعندها يتناول الفأس ويشرع في تفحُّص الصّخْر وهو يتنقّل من صخْرة إلى أخرى بحدْس عجيب، وفِراسة لا خبرة فيها، أو ربما نجهلها، فيشرع في تكْسير الصّخور وتهْشيمها متتبِّعا آثارا تنتهي إلى مساكن الديدان السمينة، يجمع الشباب "أمّ أحناش" بلهف وأبي مبتهج لبهجتهم وهم خلفه يجمعون حتى يتخموا، ثم ننقلب إلى بيتنا لجلب قصبة الصيد وما يلزم لذلك..

وبعد سبعة عشر عقدا من دعوة نابليون بونابرت اليهود إلى العودة إلى فلسطين باعتبارها وطنا قوميا لهم (5)؛ تفقّد أبي كلبته، فلم يجدها، وتذكّر أنه قد تركها خلفه مطمئنّا عليها لشهرتها بين روّاد مرقالة، ومحبتهم لها، لا يشكّ في عودتها سالمة، فهي أشهر من علَم بين روّاد البحر والشاطئ، ولكنها تأخرت كثيرا، وحان موعد الذهاب على ساعة المدّ البحري في يوم حار..

انحدرنا من بيتنا في "غَرْسة الأعراب" نتعجّل الخطى نحو البحر، لا نريد  للبحر أن يمدّ مياهه إلا ونحن في مُصْطادنا، نريده أن ينشر مياهه، ويدفع أمواجه بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ونحن واقفين على صخرة وسط البحر. شغلت أبي كلبتنا لتأخُّرها، ومُصْطادنا بعيد عن مكان جمع طُعْم  الكمْبري، فقرّر تفقّدها حيث كنا في الصباح عندما كان البحر منشغلا بجزْره، ولما أطللنا من مشْرفة "العَدْويّين" شرع نباحها يصل مسامعنا.. فقد راحتْنا.. هرول والدي نحوها يسبقني لشفقته عليها ليجدها رابضة على حقيبته وموج البحر يدفعها للتخلي عنها. "لايكة" تستميت في التمسُّك بحقيبتها وموج البحر يرفعها يريد سلبها منها أو تتخلى عنها وهي في غاية الانزعاج، لا تريد أن تضيع منها وديعة سيدها.

تهللت أسارير أبي وهو يشاهدها تكافح موج البحر، فتقدم فيه وحرّر حقيبته من تحتها، فانطلقت تجري فرحة مسرورة تحرِّك ذيْلها على صوت: عُرْعُرْعُرْ.. عُرْعُرْرْرْعُرْ، تلك لغتها التي يجهلها، وذلك منطقها الذي يعرفه. فرح بها وأثنى عليها وهي تعرف في صوته ووجهه وحركته ثناءه، ثم شكر لها صنيعها وأكبر فيها وفاءها، وانقلبنا إلى مُصطادنا رفقتها.

ما كاد مراد ينهي قصته حتى حضرت أمّ خولة تدعوهم لمائدة الطعام، ولكن ابنتها لم تحك حكايتها. تحرّكت خولة متملِّصة للذهاب إلى المائدة فمنعها مراد وخديجة وهما يترجّيان أمّها أن تنتظر قليلا، ((ولكن الطعام سيبرد))، تقول الأم، ((ولكن خولة لم توف معنا والوفاء لا يمكن إدفاؤه خلاف طعامنا))، يقولان، وعندها جثت أمّ خولة قرب ابنتها وضمّتها إلى صدرها وطالبتها بسرد حكايتها بسرعة، شجّعتها على استحضار ما كتبه الأديب البقاش في الأدب المَمْدَري، دفعتْها: ((هيا يا ابنتي فأنا أيضا في السماع))، وتشجّعت خولة، واعتدلت في مكانها كراوية للشعر، ثم استرْسلت: 

(( حدَّق طفل إلى قِنّينة الشامبو الصفراء، أطال التحديق حتى سها عن تلبية حاجة الزبناء الذين تزاحموا في حانوته، كان من بينهم رجل من قوم هم أول من اتّخذ المقاهي (6)، لفت ذلك انتباه جاره الذي يقابله.. وحين كان الغد شكاه إلى أبيه..

عندما همّ إبراهيم بالذهاب إلى فراشه وقد فرغ من تناول عشائه دعاه أبوه إلى المطبخ وقد هيّأ ما يلزم لما بَيَّت خُفْية، ثم كسح شعر رأسه وتركه دون غطاء، جرّده ومسحه ولم تنفلت من موساه شعرة واحدة، تركه أقرع يشفق على نفسه ويخشى قسوة الأطفال في لَمْزه وهَمْزه..

حضرت أمّ إبراهيم متأخّرة، ثم شرعت تهدِّئ من روع ابنها وكأنها تواسيه في مفقود عزيـز، تطمْئنه وتشجِّعه على مواجهة الواقع وتشرح له أن الأمر عادي وليس فيه ما يعيب.  لم يهدأ

الصبي، ولم تضرب غُدّتا دمعه عن تدفئة وجنتيْه، وحين وجد إلى زوال القهر سبيلا؛ سألته أمه قائلة: ((لماذا صنع لك أبوك ما صنع؟ ماذا فعلت حتى يعاقبك؟)).

فأجاب:

ـ لا شيء.

ـ لا يمكن.. فأنا أعرَفُ بأبيك منك.. ماذا كنت تفعل؟

ـ لقد شكاني إليه البقال حمّو.

ـ لماذا؟

ـ رمق باب حانوتي مزدحما بالزبائن؛ وأنا ساهٍ عنهم.

ـ وفيم كان سهْوك؟

ـ كنت أحدِّق إلى قِنّينة الشامبو الصفراء وهِمْت بها، وقد تصوّرتُني أغسل بها شعري في حمام البيت.

ـ هو ذاك يا بنيّ، لقد فهم أبوك قصْدك، وأحمد لك الله أن لم يضْبِطْك تُحدِّق إلى معجون الأسنان، فلو فعلت لكان فمك الآن منزوع الأسنان)).

امتلأ البيت بالضحك وماج بالقهقهات حتى ثرّت له الغدد وتوجّعت له البطون، نهضوا جميعا لنهاية الحكاية الطريفة وانتقلوا إلى مائدة الطعام لا يفترون عن الضحك.

              

(1) توجع الطفل الشهيد محمد الدرة وهو يبلغ من العمر 11 سنة عندما أصيب في رجله بالطلقات النارية من طرف الجنود الإسرائيليين قبل موته بتاريخ: 30 شتنبر سنة 2000م. كان الطفل عائدا مع والده من سوق السيارات المستعملة في غزة، كانا متوجهين إلى مخيم البريج، احتميا بكتلة خراسانية تجنبا للإصابة بالطلقات النارية، ولكن الوابل كان غزيرا واستمر مدة ساعة كاملة أصيب به الأب في اليد اليمنى التي كان يلوح بها طلبا للنجدة، ثم أصيب صغيره في رجله وتوجع لذلك وبكى وهو يقول لأبيه ببراءة الصبيان: (( احمني يا ابي )).

(2) للعنكبوت القافز 8 عيون.

(3) تملك النحلة 5 عيون.

( 4 ) مكونات الماء 3 ذرات هي: ذرة من الأوكسيحين، وذرتين من الهيدروجين.

(5) في سنة 1798 م دعا نابليون بونابرت اليهود إلى العودة إلى فلسطين باعتبارها وطنا قوميا لهم، أطلق دعوته لتصدير المشكلة اليهودية.

(6 ) أول من اتخذ المقاهي هم العثمانيون في تركيا.