الحب الباكي
آمال مكناسي
قبل اليوم لم أدرك أنك المعركة التي سأترك فيها جثتي، و الورقة البيضاء التي سيستقيل أمامها قلمي... لم أع أن حبك محطة حزن و وسادة أحلام...؟!!
لكن معك - وكالعادة – تنحرف كل المجاري، و تنقلب جميع الآيات لأدرك فجأة أن الكون أضحى شكله لولبيا ، و أن الألوان اعتزلت مهنتها لتنوب مكان الرماد...
أشعر أنني اقتحمت أقصى درجات القنوت، فمنذ لحظات احتسيت كأس الحزن حتى الثمالة...تراك تعي اللحظة أن بركانا متثائبا يسكنني ، و أن مخاضه يمزقني لأطلق عنانه بعد خمود دام سنوات ،فكلما داهمني الحزن كنت أمارس حبك،...و ها أنا اليوم امارس حبك على طريقتي بعد عشرين عاما اعتزال...ها أنا أعلن هزيمتي لتكون الرابح و القلم .
لم يخطر لي يوما أن القلم سيكون و ليا لحرفه أكثر من صاحبه، أن اشتياق الورق المكتوم يستعر عطشا لك أكثر من اشتياقي، لكن كيف سأكتب و الكلمات تتلاطم بداخلي؟ كل منها مسرع بالخروج أولا، كيف و هي تتلاعب بي لأختار منها شاهدا على ترجمة احتضارات قلب امرأة مل المكابرة و ابتهالات الاغتراب.
هل أبدل الحبر دما كي يغدو وقع الكلمات أقوى على طبول التجبر،لعل حبك المسجون يستيقظ بداخلي كي يفك قيوده و ينير العتمة التي دفنت نفسي فيها يوم قررت الرحيل عنك...أم سأحنطك المرة بحروف من أمل غض ولد اللحظة في أن أرى و جهك من جديد، لما لا...أن أرتمي إلى حضنك عصفورة بللتها عواصف الأيام.
بزغ الفجر و لم ألملم أشلائي التائهة، و لازال لسان الحزن أخرصا لم ينطق بما أريده بعد...
أتذكر يوم كنا نستقبل الفجر سويا، و كيف كان نور الشمس يتسلل الغرفة مرافقا نسيم الصباح و هو يراقص خصلات شعري، فأحسك تحترق غيرة أكثر منه عندما يحاول طرد رائحتك التي كانت تغزو المكان.
(أم م م م م م ) رائحتك لازالت تلهبني، تداعب أنوثتي كعهدي بها أيام قربي منك، تدفعني لأبحث من جديد عن سرها، فأجده مرتبطا بسر عشقي لك ..
عشقك الذي كلما بحث عن نفسه جاءني، لتلقاني من جديد عيناك فأستسلم لأشجاني و أغرق بين يديك الغرق اللذيذ المحبب، فيصرخ القلب بأعماقي:
أكان لابد من الرحيل ؟!!.....
كم مرة رقعنا الوثاق، و في كل مرة كانت الريح تسعى بيننا، فباتت الهجرة أمرا مباح...كم مرة كتبنا تواريخ اللقاء، وفي كل مرة تتجاهلني لأنك لم تنس القطيعة، أنا التي أجبرت على القطيعة ، خيرت ما بين الحقيقة و الزيف، فقررت أن أواجه الحقيقة رغم إيماني الكامل أنها مخاطرة قد تسحبني إلى أعماق الضياع ...ضياع آخر غير الذي لم أألفه فيك.
يومها كنت تائهة أبحث عن دليل يرشدني ، أو يد حنونة تسكن نفسي الثائرة، لكن كل من حولنا أوصدوا باب الأمل بقربك، نفخوا النار التي بداخلي، فخرجت من وكر الزيف مودعة كل شيء، قاصدة الحقيقة في أروقة الإدراك، متخذة القلق و الخوف خليلين يتسكعان معي في زخرف الحياة الجديدة المبهمة.
حين أعددت حقائبي للسفر و حزمت معها حقائب القلب، و وضعت ملابسي و كتبي و عطوري، لم أتوقع أنني أحملك معها!!،أنك تسكنها !! و تسكن كل زوايا الأرق بداخلي...
بعد رحيلي غفا الأرق و ما غفوت !!
تساقطت مني السنين و لم أرث سوى الأحزان، و لازلت أرقب الجنوب أحمل الطيور المهاجرة سلامي ،..هل حملت لك كل احتضاراتي المؤجلة ؟
أم كانت ثقيلة في وريدك كثقل بعدي عنك ؟...تذكرني حالتي هذه بقول الشاعر:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي فقلت ومثلي بالبكاء جـدير
أسرب القطا هل من يـعير جناحـه لعلي إلى من قد هويت أطير؟
أطير إليك على أجنحة الشوق الجارف إلى حيث اللا أنت !! خلف بحر بحجم أحزاني يفصلني عنك....أين أنت؟ لتكمل الحرف الناقص في أبجدية نجاحي ،...نجاحي الذي لن تعترف به بقايا ذاتي المذبذبة ما دمت أوقعه خارج إطار لوحتك...
لم أشته يوما الأضواء، فقط كنت أحلم بمنصب في الحرية لامرأة عربية تهوى مراقصة الحرف بعيدا عن حلبة العرف و التقاليد، أن أرتدي الرجولة و أسهم بمسح تجاعيد و جهك الطفولي كطفولتي المغتصبة على يد الوعي و الإدراك ، حين أدركت انك كنت بردا لي، في حين كان غيرك معطفا طوال سنوات الشتاء.
ها هي "باريس" تحنو علي كما تفعل مع كل مغترب، تقدم لنا في كل يوم قطعة شوكولاطة تزودنا الطاقة كي لا نشعر بلسع صقيعها، و ندمن نكهتها، فلا نرضى بغير الشكولاطة و غير باريس...
صحيح أنني تناولت أكبر قدر ممكن من قطع الشكولاطة حتى صار برصيدي ما يعادل نصف عمري، إلا أنني لم انس طعم "الكسكسي" و شخشوخة" أمي،لازلت أضعف أمام "البقلاوة" و "المقروض" اللذان لطالما كانا سببا في زيادة وزني..لازلت على عهدي أن تكون محور محاضراتي،أن أنقش اسمك على كل محافل باريس و قاعاتها وجامعاتها،و طرقها، و تعاسة جرائدها،و استفهام تاريخها، فمنذ أبدلت كنيتي و صار اسمك جزءا مني، بت أولد مع كل صوت يناديني حين يهفو به اسمك.
أضحت شوارع "باريس" تحتفل بنجاحك..أنت ؟ و اندثرت أنا بين ثقوب النسيان، فاسمك كعادته يريع الميزان، لم أسمع أحدا حتى اللحظة إلا و ينادني "دكتورة أحلام جزائري"...جزائري جزائري جزائري جزائري...
وطني أودعتك كل مفاتيح ذاكرتي و مت في عراء من الوقت، حولتني من ظل امرأة لقنبلة نساء ، موقوتة المشاعر، تصاحب الحرف في مملكة الكلمات لتنحر به الحزن، وتنحته في صفحات تاريخ أدب كئيب لم يعرف سوى الخيال،معنا فقط "طيور الجنوب" أدرك معنى الأوطان، فنحن من نكتب بدمائنا و نعري الحقيقة من كل زيف لنوشمها على خدود أرواحنا المرتحلة صوب الآمال.
أعترف أن حبك بلا قوانين، بلا مدى، بلا كلمة أوطان، أعترف أن طيفك يسكن أعماق الغروب بداخلي، وأنك أضحيت ملاذي و احتراقاتي، فأمسيت حلما كرزيا يداعب جفني المبلل بدموع حبنا الباكي ....
فنكون أول عاشقين يحلمان أكبر مما يسع الحلم ....!!
-"الكسكسي"و"الشخشوخة" : اكلتان تقليديتان مشهورتان في المجتمع الجزائري.
-"البقلاوة"و"المقروض": نوعان من الحلويات التقليدية الجزائرية .