ديمقراطية آخر موديل

د. محسن الصفار

[email protected]

سعيد مهندس عراقي غادر العراق في أواسط الثمانينيات لبعثة دراسية في إحدى الدول الأوروبية وكان طالباً مجتهداً ومتفوقاً ولم يكن له أي ميول سياسية وكان كل هدفه أن يحصل على شهادة يفتخر بها هو وأهله ويساهم فيها ببناء بلده العزيز العراق ولكن وفي يوم من الأيام إستدعاه القنصل العراقي في تلك الدولة طالباً منه بصريح العبارة أن يتجسس على زملائه وإبلاغ السفارة بذلك ولما رفض سعيد لأن ذلك ليس من شيمه وأخلاقه غضب القنصل وبدأ بإطلاق الوعيد والتهديد واصفاً إياه بالخائن وعرف سعيد أنه لو عاد للعراق فإن المكان الوحيد الذي سيراه هو السجن فلما إنتهت دراسته بقى في تلك  الدولة الأوروبية وساعده تفوقه على الحصول على وظيفة ممتازة ولم يفكر بالعودة الى العراق إلا بعد أن توفى والده ولأن نظام الحكم قد تغير فقد قرر العودة الى العراق للمشاركة في مراسم عزاء ودفن والده الحبيب.

أشترى تذكرة على إحدى خطوط الطيران العراقية وجلس في المطار بإنتظار إقلاع الطائرة تعجب من كثرة العراقيين المتجهين الى العراق تملكه الفضول فاستدار إلى الرجل الذي بجانبه وقال:

- السلام عليكم

- وعليكم السلام

- الأخ عراقي؟

- نعم

- أهلاً وسهلاً

- أهلاً بيك

- حضرتك تعمل في هذا البلد؟

- لا والله أنا مسؤول تسويق عقارات !!

- ما شاء الله يعني العراق صار عنده مشاريع عقارية ويتم تسويقها في اوروبا؟

نظر الرجل إليه نظرة إستهزاء وقال:

- أي مشاريع في العراق نسوقها؟ لا حبيبي أنا مسؤول تسويق مشروع الفلل الخاصة في دبي التي يملكها الاستاذ جبار الله يحفظه!!

 - ومنذ متى أصبح لديه مشروع فلل خاصة في دبي؟

- يا أخي سبحان الله يرزق من يشاء بغير حساب انت حسود؟!!

تعجب سعيد من هذا الكلام وظن أن الرجل ربما يمزح معه فمن أين لجبار الأموال الكافية لبناء مشروع فلل في دبي تكلف الواحدة منها الملايين من الدولارات؟

إلتفت الى الناحية الثانية وسأل رجلاً آخر قائلاً:

- الأخ يمزح أليس كذلك؟

- أنا لا أعرف ولكن الجميع يعرف بأن جبار  أصبح من اصحاب الملايين   إستولى على نصف العراق حتى المقابر  صادروها وأبلغوا أهالي المتوفين بوجوب نقل جثث أهاليهم الى مكان آخر !!!.

- الى أين يعني؟

- لا أدري هذه مشكلة الاهالي مع جثث أهاليهم لأن الاستاذ  جبار يريد أن يبني مجمعاً سياحياً فوق ارض المقبرة.

- سبحان الله ألم تكن عائلته تدعي الجهاد في سبيل الله؟

- كانوا!! اليوم أصبحوا رجال أعمال وأصحاب ملايين!!

- ياعيني!

-  أتعرف أين يسكن  ابوه؟

- لا, أين؟

- في قصر !! وقد جعله قلعة محصنة وصادر كل البيوت التي حواليه.

- ولكن هذه القصور هي أموال الشعب فكيف يحق له إلاستيلاء عليها وما هي صفته الرسمية؟

- والله تقدر تسأله شخصياً!!! وضحك بإٍستهزاء

- وحضرتك ماذا تفعل هنا؟

- أنا خبير مصرفي  وإدارة محافظ إستثمارية

- ما شاء الله هل تم تفعيل عمل المصارف والبنوك العراقية؟

- لا والله بس اني جاي حتى أعمل كشف على حسابات السيد.

- يا سيد؟

- يا سيد يعني؟ غير السيد ابو ندى  الله يحفظه!!!

- يحفظه وين؟ بمحفظة إستثمارية؟!!

- هاي شنو؟ جاي تستهزأ بالسيد؟ عيب عليك هذا سيد وحفيد رسول الله (ص)

- والله رسول الله(ص) قال ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وإنتو ما شاء الله محافظ إستثمارية ومشاريع عقارية من وين؟

غضب سعيد وقرر أن يغير محل جلوسه بعيداً عن هؤلاء اللصوص, جلس الى جانب رجل وما إن جلس حتى  إلتفت إلى الرجل وقال:

- سبحان الله وقاحة بهالشكل اني ما شايف تصور يسمون نفسهم محررين وديموقراطيين!! واحد عنده مشروع فلل بالملايين والثاني محافظ إستثمارية بأوربا الله يساعد الشعب العراقي.

- معك حق أخي هذوله حرامية بس احنا إلهم بالمرصاد, أعرفك بنفسي اني نائب بالبرلمان من كتلة ( كل من يأخذ أمي اصيح له عمى ) النيابية!!!

- أهلاً وسهلاً وتشرفنا ولازم البرلمان يوقف هالمهازل عند حدها.

- لازم وداعتك راح تشوف عندنا بيانات إستنكار مطبوعة على ورق فاخر راح تعجبك!!!

- وحضرتك شتسوي بأوربا؟

- والله كان عندنا إجتماع لكتلتنا النيابية!

- وين؟ بأوربا؟

- نعم

- وكتلتكم النيابية ما يحلالها الاجتماع غير في  ما وراء البحار؟ ماكو مكان بالعراق تجتمعون بيه؟ وأكيد سفرتكم على حساب الحكومة؟

- طبعاً هذا من حقنا كنواب برلمان!!!

- لا أكيد حقكم!! شلون يصير؟!! كتلة نواب عراقيين ويجتمعون بالعراق؟ عيب تصير فضيحة دولية!! وبقية النواب وياك راجعين؟

- لا بقية أعضاء الكتلة نازلين على بيروت بعد أسبوع حتى يجتمعون بنواب كتلة ( اللي ييجي من ايده الله يزيده ) اللي متواجدين بيروت من حوالي شهر!!!

- ما شاء الله ما شاء الله

كاد رأس سعيد أن ينفجر مما سمع ورأى ممن يدعون انهم جاءوا لنشر الديموقراطية في العراق ومحاربة الفساد, وبينما هو في أفكاره أعاده الى الواقع صوت يقول:

- لو سمحت أستاذ ممكن تساعدني أملي هذه البطاقة بالإنجليزية؟

- نعم تفضل اعطيني جوازك حتى املي المعلومات منه

- تفضل

- لما فتح سعيد الجواز دهش لرؤية أن الجواز ديبلوماسي فإلتفت الى الرجل وقال:

 - حضرتك دبلوماسي؟

- نعم اني السفير العراقي الجديد في احدى الدول الاوربية ونازل على العراق أستلم أوراق الإعتماد

- سفير العراق في بلد اوربي  وما تعرف إنجليزي؟

- ما بيها شي نتعلم!!!

- ممكن أسأل حضرتك شنو كان عملك قبل ما تصير سفير؟

- والله اني كنت أحسن بياع حلويات في بغداد بس صادفت طلعت لكتلتنا النيابية كم سفارة فقلت لنفسي أروح أصير سفير باوربا واخدم وطني!!

- الله يبارك فيك!!! ما شاء الله ديبلوماسيين بياعين حلويات أكيد راح تصير علاقاتنا مع اوروبا حلوة وعسلية!!

نهض سعيد من كرسيه من شدة العصبية من هذه المهازل وأخذ يتمشى في الصالة حتى رأى رجلاً يقف في الزاوية ويسبح بيده ويتمتم بأدعية وتعبد وعليه علامات الزهد والتقوى, سلّم عليه سعيد ووقف أمامه وقال:

- حضرتك رايح على العراق؟

- نعم يا أخي العزيز

- بالسلامة إن شاء الله

- بارك الله فيك وفي مسعاك وجعل الجنة مثواك وحياك وبياك!

- شكراً شكراً

- لا شكر إلا لله يا أخي

- هل إستمتعت بوقتك في هذه الدولة الأوروبية؟

- أعوذ بالله أنا لم آتي لمتعة أو لهو كما يفعل السفهاء أجارنا الله منهم!

- أعتذر جداً لم أقصد الإهانة.

- لا عليك أنا هنا ترانزيت قادماً من احدى دول أوروبا الشرقية في مهمة رسمية فيها خير كثير للشعب العراقي وقد أنجزتها بعون الله على اكمل وجه!

- بارك الله فيك وما هي هذه المهمة إن لم تكن سراً من أسرار الدولة؟

- لا يا أخي لقد كنت هناك لشراء شهادات دكتوراه لعدد من السادة الوزراء!!!

- ماذا؟ أعد لو سمحت؟

- شراء شهادات دكتوراه لعدد من السادة الوزراء اللذين منعهم الجهاد والعمل السياسي من الدراسة فقررت الدولة ان تكافئهم بشراء شهادات دكتوراه لهم كي لا يصابوا بعقدة النقص لدى لقاءهم مع نظرائهم من الدول الأخرى!!!!!

- يعني احنا لما نسمع السيد الوزير الدكتور فلان هو في الحقيقة دكتور بشهادة مشتريها من دولة أخرى؟

- لا مو كلهم.

- الحمد لله.

- اكو بيهم مزوريها بداخل العراق وهذوله ما يخافون الله.

- وجماعتك اللي عندهم ضمير؟ لأنهم ما زوروها بالعراق واشتروها مزورة من أوروبا؟  ما شاء الله وكم تكلف كل شهادة؟

- حسب نوعها الطب شي الهندسة شي علوم السياسة شي قانون شي.

- وإنت أكيد اشتريتها بسعر الجملة؟

- إيه والله وأخذت خصم جيد لأني وعدت مسؤولين الجامعة أنه كل مجلس النواب العراقي راح يشترون شهادات دكتوراه!!!

وهاي خطة الحكومة لرفع المستوى التعليمي في العراق!!! يعني بعد سنة حتى الزبال راح يكون معاه شهادة دكتوراه في العراق.

حمل سعيد حقيبته وقرر الخروج من صالة المطار عندما إستوقفه مسؤول شركة الطيران قائلاً:

- هاي وين رايح؟ الطيارة راح تطير؟

- والله راجع على بيتي اني كنت ناوي أروح للعراق بلدي وارضي, بس أشوف ما شاء الله العراق كله موجود هنا!!! لعد اني عايش بالعراق وما أدري!! وجثة أبي هم سأطلب شحنها الى هنا ما دام حتى المقابر صادروها وباعوها. ومبروك علينا هالديموقراطية والحرية اللي جابوها الأمريكان. هاي يقولون في قرية كان حرامي يسرق أكفان الموتى ويرمي الجثة على الأرض غضب أهل القرية وعملوا كمين ومسكوا الحرامي وشنقوه بعد فترة اجا حرامي ثاني يسرق الكفن ويشعل النار بجسد الميت فصارت الناس تترحم على الحرامي الأول وهذا صار وضعنا بالعراق حسبي الله ونعم الوكيل وخرج سعيد عائداً الى بيته.