أيام من دماء
أيام من دماء
مجدي السماك
عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا
جمّع الحاج أيوب شجاعته وشحذها كلها في ساقيه حين راح بشبشبه يحف درجات السلم، ببطء ، وتسلل في وهن صاعدا إلى الطابق العلوي من البيت.. يسبقه لهاثه المتقطع وهو يتكئ بإحدى يديه على عصا، وبشقيقتها اعتمد على جدار خشن غير مدهون.. و إلى جواره في صحبته كانت إحدى حفيداته التي لصغرها لا تستطيع مساعدته على المشي.
توقف الحاج أيوب للحظات يلتقط فيها نفسه الذي تهدج، فراح يتنفس هواء ثقيلا فيه برودة معطنة لها لسعة الثلج في الأنف، وشم بلا رغبة منه رائحة الدم والموت، رائحة عبقت المكان بشدة، وبشدة كانت تنبث من بين الركام وبقوة تفوح. ثم تسمر الحاج أيوب قرب جثث ابنه وزوجته وأحفاده الصغار، الذين مزقت أجسادهم وقطعتها عصر أمس قذيفة طائرة صهيونية، اخترقت الحائط بعنف وحولتهم إلى أشلاء تطايرت، وتناثرت في البيت ورصعت فتافيتها الجدران، وبعض الفتات تناثر في الشارع عبر النوافذ التي كانت مقفولة بإحكام كبير، فكسرها الانفجار لقوته وطيّرها إلى بعيد.. ومكث الحاج أيوب ساعة أو أكثر وهو يجمع بيدين راجفتين الأشلاء شلوا بعد شلو، وشقفة وراء شقفة، وكانت تساعده زوجته التي ما زالت عيناها إلى الآن تبقبقان بالدموع. ولم يستطع مع زوجته رغم الجهد المضني الذي بذلاه في تنظيف البلاط من الدماء، لانقطاع الماء منذ الساعة الأولى لبدء الحرب.. فبقي الدم على البلاط وتحت حطام الأثاث حتى جف بعد وقت وتجمد، كأنما تحول إلى رمز ثمين كي تدخره الذاكرة مع ما تحفظه من دماء قديمة، وتجلله القلوب.. أو ربما لينقلب إلى غصة تشتد وطأة لعناتها وتتعاظم مع الزمن في النفوس.
وأطال الحاج أيوب نظره الساهم مبحلقا إلى دمهم الذي سال بغزارة حتى نفذ منسابا من تحت الباب، وتشعب إلى سيول وبحور مالئا ردهات البيت والفناء على سعته من أقصاه إلى أقصاه.. وما زال صراخ زوجته الحاجة ونحيبها الساخن يتصاعد متدفقا إليه من الطابق السفلي، يشرخ أذنيه وهو يأخذ طريقه مندفعا إلى الشارع، إلى الحارة، إلى التاريخ.. وصار يتمنى في جد بالغ أن يكون هو الذي تمزق ومات نيابة عنهم.. أو نيابة عن غزة كلها.
تنقل الحاج أيوب متطوحا كالمضروب على رأسه بين الركام والأثاث المدمر، حتى بلغ الفتحة الكبيرة التي في الحائط المائل الآيل للسقوط، الفتحة المطلة على الشارع المجاور في حي الزيتون والتي صنعتها القذيفة وأتقنت صنعها، ثم توقف في فتور. وفي الحال عدّل ظهره المقوّس وصعد بهدوء ووقف على حجر صغير.. وبعد أن مدّ رأسه من فضاء الفتحة، زحف بعينيه التائهتين التي قلل ما بين رموشهما إلى الشارع، حيث الفراغ ألفاضي في الواسعة الممتدة أمامه الراكدة في ذكريات طوتها عشرات السنين.. وبعد الواسعة كانت تصطف بقية بيوت الحارة تحت زرقة سماء ملتهبة بالطائرات وحممها في شموخ عزيز له مهابة الزمن الآفل، ناظرا إلى الدور المهدمة فوق جثث ساكنيها بسبب قذائف الطائرات التي كانت كالمسعورة تلقي بوجبات حممها الصاعقة على البيوت، وتهدمها في ثوان فوق رؤوس العباد وأجساد الساكنين.. قذائف تفت وتفتك وتحرق وتنسف الحي والجماد في غير شفقة.. وبدت عيون أبي أيوب زائغة لا سكون فيها حين صعد ببصره في غير ذعر إلى السماء المشتعلة بفوهات البراكين، وراح بصره بعشوائية يتنقل بين الطائرات لينسفها، أو ربما ليثقبها ويصل إلى ما فوقها من فضاء رحيب، فبدا كأنما بطريقته الخاصة يحاور الطائرات في جنون وتحاوره.. ولما رآها كما هي كثيرة معربدة اشتعل قلبه الحزين بالحسرة والألم، فعاد ببصره ونزله بتؤدة إلى تحت.. وتطاير الغضب من بين جفونه الذابلة التي هدّل أطرافها قلة النوم، لكثرة ما تكدّس في قلبه من هموم وشجا، وقد تحول جسده لهول ما رأى إلى كتلة من جمر، حتى تراءى لحفيدته الغارقة في فزعها والتي رأته عبر سيول دموعها كأنه النار التي تحترق بالنار.. وعلى الفور تركته الصغيرة ونزلت مفزوعة تجري إلى الطابق السفلي.. وقد تحولت في لمح البصر إلى كتلة من خوف وهي تشرع فمها على آخره متفحمة في صراخ مستعر لا ينطفئ.
ابتعد الحاج أيوب بقلبه المشروخ عن الفتحة.. ومن بين الركام جذبته قدماه فاستدار مغيظا في حنق إلى طرف السلم.. يتأمل برهبة عجيبة هول ما شاهده، كأن عقله يأبى تصديق بشاعة ما رأته عيناه.. كيف سيقتنع بأن العينين التي شاهدت كلبا ضالا ينهش لحم طفلة صغيرة ميتة ويمضغه، هي نفسها عيناه الموجودتان في رأسه، وكان الكلب يهز ذيله فرحا وهو يرفع رأسه ويميله ليبلع لحمها الممضوغ في هدوء.. فألقى عليه الحاج أيوب حجرا صغيرا ليطرده عن الجثة.. لكن الكلب الجائع سحب جثة الطفلة وراح بها مطمئنا ليأكلها إلى بعيد.. بين ركام البيوت.. وفي لحظة كلمح البصر تكاثرت الكلاب وتجمعت على الوليمة الطفلة، واكلوها.. وبقيت عظامها في المكان.. كشاهدة بلا شاهد.
ورغم الحزن العظيم الذي لف به نفسه، برق في عقل الحاج أيوب السؤال الذي لم يبرحه البتة من أول لحظات الموت.. كيف سيدفن الموتى؟ آه صحيح كيف سيدفنها؟ فالطائرات الملعونة تطلق جحيمها على كل جسم يتحرك على الأرض.. ولم يسلم من شرها المستطير بشر أو حيوان.. أو حتى نبات.
عض الحاج أيوب على شفته في مرارة قصوى، ثم تركها، ثم عاد وعضها ثانية من جديد وكاد يقطعها.. وبغير وعي منه شدد من قبضة يده الواهنة على طرف عصاه.. وراح بما لديه من ضعف ينقر بها درجات السلم ويلهث، ومع كل نقرة وانية من نقراته كانت أنفاسه تتسارع كالمحموم، متوافقة مع صرخات مفجعة قادمة من الحارة ظلت ترن في مخه، وهو يحس بثقل قلبه الذي يحاول بقوة أن يقفز من قفصه ويتحرر، وأحسه يصل إلى حنجرته أو يبلغ منه البلعوم.
توقف الحاج أيوب في منتصف السلم، ولا يدري لماذا توقف فكانت وقفته بلا وعي منه ولا حكمة.. وغالب دموعا كانت تحاول الإفلات في عناد.. وكابد وهو يغالبها مستعينا بقسمات وجهه التي قبضها بإحكام وشدّها، لكن قسماته المشدودة خانته فجأة، فتبللت رموشه وشعر بكل ما حوله مغبشا وغارقا في ضباب كثيف، ثم تدفقت دموعه وملأت بطون الوديان التي صنعتها حواف التجاعيد ورسمت ملامحه الكئيبة.. ومن هناك طفحت الدموع وراحت تباعا تنهمر وتسقط على درجات السلم وتنقرها.. وعاد مرة أخرى يتلفت إلى أعلى كمن يتفقد شيئا ضائعا ولا يدري أين ومتى ضيعه.. ثم صحا ذهنه من شروده العميق فعاد إلى وعيه في خمول بارد.. فحرر شفته من بين أسنانه وأحسن إقفال فمه كأنما يقفله إلى الأبد، ومضى في ضعفه صامتا إلى أسفل كالمسوق إلى قدر محتوم، يمسح بكم معطفه غزارة الدموع مرة.. ومرة يتركها بحرية تسيل.
بالكاد وضع الحاج أيوب قدمه في الطابق السفلي حتى توجه إلى الغرفة الداخلية، التي تجمع فيها زوجته وابنه الثاني وأسرته.. وعلى الفور دس في لهفة بصره في وجوه القاعدين، وراح يحصي عددهم ليتأكد من وجود الجميع وسلامتهم.. وتأمل وأطال التأمل في عيونهم الخائفة.. فبدت له وجوههم العابسة وكأن يدا خفية امتدت إليها وجذبت منها ملامحهم، ورمتها في مكان قصي مجهول. وفجأة جرت نحوه حفيدته بصوتها الأرفع من صرير الباب..
- جدو.. جدو.. قالوا في الراديو أن الصهاينة قصفوا سيارة إسعاف، ومات كل من فيها.. كلهم ماتوا يا جدو.. يا حرام.
ظل الحاج أيوب ساكتا في وجعه المكتوم ولم ينبس ولو بحرف واحد من كلمة، واخذ يحسس على طول شعرها بباطن كفه.. ثم أدار عينيه إلى زوجته التي تيممت لتوها وراحت تضرب في خشوع صلاة العصر.. وما زالت آثار غبار التيمم باقية في حافة جبهتها ووسطها قرب الأنف.. فتذكر الحاج أيوب ريقه الناشف منذ الصبح.. لكنه لم يجرؤ على طلب الماء، بل إنه لم يفكر فيه لأنه في عداد المستحيل.. وجلب الماء من الخارج فيه مغامرة قد تساوي حياة الإنسان ذاته، أو حياة الآخرين.. فبقي محاطا بصمته بفم مطبق لا يتزحزح.
لكن حفيدته لم تتركه وشأنه.. فعادت تحدثه في انفعال كبير، فبدت كأنها تعمدت أن تزيد من نشاف ريقه.. حين انطلقت كلماتها من فمها كرصاصات لها أزيز
- سمعت أيضا يا جدو أن احد أفراد عائلة السمّوني الذين قتل الصهاينة منهم أربعين شخصا أثناء قصف بيوتهم.. سمعت أن احدهم قسمته القذيفة إلى نصفين.
- وبعدها.. ماذا حدث؟
- حصل إرباك في عمل سيارات الإسعاف.
- ما الذي حصل؟
- إحدى سيارات الإسعاف نقلت بالخطأ نصف جسد شخص منهم، وسيارة أخرى حملت نصفه الآخر.. ثم بعد هذا قصف الصهاينة سيارتي الإسعاف وقتلوا جميع من فيهما.
ترحم عليهم الحاج أيوب بالجهر والعلن، وجرجر ساقيه وهو ينظر إلى ظله الذي يترنح على الحائط، ظله الذي كان مع كل خطوة يصغر وينقص، حتى وصل الحاج أيوب إلى الفراش، فاختفى ظله تماما كأنما ابتلعه حين جلس.. واسند ظهره إلى الحائط ومدد ساقيه في وجوم على الحصير.. وبدأ على الفور يجأر من وجع مزمن داهم مفاصله.. والسؤال ما زال يلح في نفسه كيف سندفن الموتى؟
قطعت زوجة الحاج أيوب صلاتها، وراحت من خلال لهفتها ودموعها تسأل الصغيرة عما حصل مع عائلة السمّوني.. ثم بكت، ونهنهت، وعادت لتكمل صلاتها، فنسيت إلى أين وصلت فيها، فعادت وبدأت ركعاتها من جديد.
تناول الحاج أيوب الراديو.. واخذ ينصت إلى المذيع وهو يروي تفاصيل قصف مدرسة أقام فيها ناس تركوا بيوتهم المنسوفة.. وأدار كل واحد من الموجودين أذنيه باهتمام بالغ، واخذوا يتسمعون من خلال الحوقلة التي بدأت تروح وتجيء محلقة في فضاء الغرفة، محدثة أصوات سميكة تلاقت كلها في السقف، فصنعت لها سماء بلا زرقة غير تلك التي في الخارج.
أغلق الحاج أيوب الراديو.. وحدق إلى طفلته الجالسة في حجره، ونطق بكلام كأنما جمعه وادخره منذ النكبة الكبرى حين خرج وتدفق كسيل جارف من فمه
- الاستهتار بالأوطان تدفع ثمنه الأجيال المتعاقبة دما جيلا وراء جيل.
لكن الصغيرة فتحت فمها ولم تفهم كلامه الأكبر منها.. وأردف ستفهمين حين تكبرين.
أنهت زوجة الحاج أيوب صلاتها.. وبعد أن فكت قمطتها لتعيد ربطها ثانية، طلبت من الصغيرة أن تتناول إبريق الماء وتذهب لتملأه.
نهضت الصغيرة وتركت الدفء في حجر جدها.. وخرجت.
ما إن ابتعدت الطفلة عدة خطوات حتى سقطت قذيفة صاروخية في الغرفة.. فقتلتهم جميعا وهدمت فوقهم البيت.
وما هي سوى لحظات حتى جاءت عربة الإسعاف.. جلب احد المسعفين يد الطفلة التي طارت وسقطت بعد عدة أمتار.
ثم قرّب المسعف أذنه من صدرها.. وفجأة صاح كمن اكتشف سرا عسيرا: في قلبها نبض.. فحملها ملهوفا إلى العربة. لاحقت قذائف الإجرام سيارة الإسعاف.. لكنها لم تصبها.. إنما سقطت فوق البيوت.. واستطاعت عربة الإسعاف الاختفاء في العتمة.