نشوة العلم
محمد محمد البقاش - طنجة
انطلقت رغْداء تركض في مُنْتزهٍ جميل تجاري صديقتها حسناء.. تستلقي على البَرْوَق والعُشْب.. تقطع النباتات المزْهِرة، وتتسلّق الشُّجيْرات التي شرعت تلْقي نَوْرها.. تتلهّى بالحشرات ويَرَقات الفراشات.. تتناول النباتات الشائكة وتبحث فيها عن سرّ اهتمام طائر الحسون بها..
انحنت على نملة تجرّ حِمْلا ثقيلا فحملتها بما تنوء ووضعتها عند باب قريتها، حملت أخرى وما كادت تطمئن إلى استقرارها على مطيَّتها من كفّها حتى لسعتها حشرة، ركضت رغداء تصيح وتبكي وتتألم، تتوجّع توجُّعا لا تحدثه لسعات العقارب، أحاط بها أبواها وشرعا في تدليك موطن اللّسْع، يصبّان عليه ماءا باردا لتخفيف حدة الألم، آلامه مبرِّحة لا يطيقها الكبير فكيف بالصغير؟.
تنبّهت حسناء للحشرة وهي لا تزال تحوم في الموقع مدافعة عن شيء لم يستبنْ، تفعل كالطير التي يقترب من عشها متطفِّل، ابتعدت عنها وظلت ترقبها حتى حطَّت على الأرض قرب نفق صغير، ثم دخلته، علمت حسناء أنه بيتها، فالتمست لها عذر لسعها رغداء، وانطلقت تركض حيث تجلس مع أبويها وتقول: (( رغداء.. رغداء.. لم تلسعك الحشرة إلا لأنك أطبقْت بقدمك باب نفقها )).
فردت عليها وقد خفّ ألمها: (( وكيف عرفتِ ؟ )).
ـ رأيتها تدخل نفقاً في نفس المكان الذي لُسعتِ فيه.
ـ وماذا تفعل في النفق؟
ـ ربما يكون بيتها.
ـ سأذهب لأدمِّره فوق رأسها.
نشطت رغداء تجرّ معها بقيّة آلام خفيفة، وعندما وصلت النفق، ارتمت على جنبها مذعورة خشية لسعة ثانية للحشرة الخارجة منه، تناولت حجرا بقطر كتابة تـاريخ سقوط القدس (1)، وعودا يابسا بطول الخنجر الذي بقر بطون أهل صابرا وشاتيلا (2)؛ تنوي استعمالهما لتخريب النفق، وما إن همّت بذلك حتى عادت الحشرة هائجة، تنشط كحامل يؤزُّها المخاض أزًّا، دخلت نفقها وكان فرصة للقضاء عليها، ولكن رغداء استقامت هادئة قد نبت فيها الفضول نبْتاً، فأجاءها حبّ المعرفة، وأغراها لذّ العلم، فتخلّت عن عزمها.
خرجت الحشرة من نفقها وكأن قلقها وبدانتها قد أوشكا على الزوال، اعْتلتِ الفضاء والصديقتان تنظران إليها، انطلقت وانطلقتا معها، تعدوان لطيرانها وأعينهما في السماء حتى داستا بعض الماعون في طريقهما، نفر لعدوهما وضّاح فسقطت من يده مشواة سمك السردين، صاح برغداء لما فعلته بالغذاء والكؤوس والصينية والبرّاد.. لم تبال البنتان، ولم تتوقفا إلا عندما حطّتِ الحشرة على الأرض، اقتربتا منها فإذا بها متربِّصة بدودة تدِبّ مطمئنة، انقضت عليها ولسعتها، لم تستحسن البنتان سلوكها فأزاحتاها عن الدودة المسكينة وخلّصتاها منها وقد همدت، ظنتا أنها قد ماتت، ولكنها ما تزال حيّة، فعلمتا أنها لسعة مخدِّرة، وضعتاها على الأرض، ثم همّتا بالرجوع، ولكن الحشرة دنت فهاجمتهما، تريد صيْدها، فابتعدتا ترقبانها، حطّتِ الحشرة على الدودة وكأنها ستفترسها، ثم طارت بها، تعجبت البنتان وركضتا معها كالركضة الأولى، ثم حطّتْ على الأرض ودخلتْ نفقها تحمل فريستها، ولكن النَّفق خالٍ من الحشرات الصغيرات، وتزداد البنتان تعجُّبا من سلوك الحشرة، وفجأة صاحت رغداء: ((انظري يا حسناء.. تأمَّلي..إنها تضع بيضا..انظري إليها ))
فردت عليها:
ـ لذلك كانت قلقة، ولذلك هاجمتنا.
ـ ولكنها تضع بيوضها فوق جسم فريستها؟
ـ وبعد؟
ـ لنتابعها.
وضعت الحشرة بيضها في أمان، ثم نشطت في سدّ النّفق، تُغلقه بإحكامٍ على بيضها، وعلى الدودة الحية..
تحركت البنتان ممتلئتان بمعرفة سلوك الحشرة، تتساءل رغداء عن سرّ ترْك الدودة حيّة، وتتساءل عن الوقت الذي تقضيه حيّة في نَفَق الحشرة حتى يفقس البيض فتطعمه الأفراخ لحما طريّا. استدارت حسناء تلقي نظرة أخيرة على الحشرة المنشغِلة بسدّ نفقها، فرمقتها جامدة، تعجّبت لذلك وانطلقت مع صديقتها لتقف عليها فتجدها هامدة، لقد ماتت أنثى الزنبور، لقد رحلت بعد أداء دورها في الحفاظ على نوعها.
وفي الغد تحلّق التلاميذ حول رغداء وهي تحكي لهم ما جرى معها البارحة، شوّقتهم لنزهة يستمتعون بها فاقترحت نقل رغبة ثلاثة منهم بعد إذن ذويهم إلى أبيها، رغداء تسكن الجبل الكبير، وهو قريب من خميلة الرميلات، ثم كان لها ما أرادت..
وفي عطلة الربيع نشط التلاميذ لرحلة جماعية استمتعوا بها كثيرا، حُفرت صورتها في ذهن رغداء حتى باتت تحفظ تفاصيلها، وكلما أثار تلميذ أو تلميذة شيئا مما جرى في الرحلة نشطت رغداء تعيد تفاصيلها وكأنها شريط فيديو، لا تبخل عن روايتها بطلب ودون طلب، ترويها للتلاميذ، ترويها لكل من لقيها، ولكل من لم يلقاها، كتبتها قُصَيْصَة من الأدب المَمْدَري ووضعتها بين يدي القارئ، تحكي عنها بقولها:
ـ في نزهةٍ جماعيةٍ حملتني رفْقة أصدقائي وصديقاتي إلى منتزه الرّميلاتْ؛ تسلّق طفل حيّنا وتلميذ مدرستنا شجرة من فصيلة ما استُخرج من لحائها الأسبرين لأول مرة (3)، يريد عُشّا في أعلاها، حفر دُرْجاً وطئه بقدمٍ ثابتةٍ وأخرى متحرِّرة، وحفر غيره مستعملا حجرا صلْدا يفتِّت به لحاء الشجرة ويصنع موطئا لقدمه حتى تمكَّن بذراعه من التمسُّك بأقرب غصن الشجرة، وقف على غصن ناضج، ثم شرع يسلك أغصانا ويتجاوزها صعودا نحو ضالته، صعد وصعد حتى اقترب من العشّ، ولما وصله وجده فارغا، لقد غادرته الفِراخ، لقد كبرت وطفل حيِّنا ما يزال طفلا..
خاب ظنّه فقفل متوقِّعا عِتابا من أصدقائه، وتقريعا من أساتذته، وحيثما انتهت إليه الأغصان وقف يفكّر في تجاوز الجِذْع، لن تسعفه الأدراج التي حفرها في لحاء الشجرة إذ لا سند يسنده بعد الدُّرج الأول هبوطا، وإذا قفز فإن قفزته ستكون مؤذية لبعده عن الأرض بأكثر من طول ثلاثين كمانا للرسام الألماني مارْتنْ زالْ (4)، وإن لم يقفز فسيطلب عوْنا يرفضه عنادا، فماذا يفعل؟
بينما هو محاصَر بين نداء التلاميذ وصياح المعلّمين، وعند رفضه التظاهر بالضّعف وقلّة الحيلة؛ قفز لتتلقّفه الأرض.. لم يحسن القفز، ولم يحسن استعمال قدميه؛ فانكسرت ساقه اليمنى وعظْمة من كاحله، دمِيَ في جهة غُدّته النخامية (5)، وانغمس في بكاء شديد يئن له، ويتوجع لمصابه..
هُرع إلى طلب الإسعاف، ثم حُمل نجيب إلى المستشفى.
أتى الربيع على عطلته كما يأتي الاصفرار على زرعه، وهاجر وركب دورته مودِّعا، ولكن الفصل الدراسي لم ينته بعد، وامتحانات الدورة الأخيرة على الأبواب، رجع التلاميذ إلى مدرستهم سالمين إلا التلميذ نجيب، رجع بُعكّازيتين تذكِّرانه فراخ الطير، وأنانية طلب النجدة.
(1) تاريخ سقوط القدس مفتوح على تأويلات عديدة، فعبارة: (( تناولت حجرا بقُطْر كتابة تاريخ سقوط القدس )) عبارة ذات رحم ولود تختبئ فيه أجنة كثيرة؛ على القارئ اكتشافها. فيمكن اعتبار قطر كتابة التاريخ الذي سقط فيه القدس بقياس المسافة التي تقف فيها الأرقام مركزا للقياس، ويمكن اعتبارها الخط المستقيم الذي يقسم الدائرة ومحيطها إلى قسمين وفيه تقف الأرقام الدالة على زمن سقوط القدس، ويمكن أن يكون القياس لأقطار الأرقام، ويمكن اعتباره جانبا وناحية بقياسه من زاوية واحدة، ثم إن التاريخ لا يقف على رقم محدد إذ ليس هناك سقوط واحد للقدس، فقد سقطت في يد الصليبيين سنة 492 هـ الموافق 1099 ميلادية، ثم حررها صلاح الدين الأيوبي سنة 583 هـ الموافق 1187 ميلادية، وسقطت في سنة 1967 م في حرب رسمت على الطاولة وتآمر فيها بعض من أبناء الشعب الفلسطيني والعرب، ثم حرّرها الذي سيحرِّرها...
(2) مجزرة مخيمي صابرا وشاتيلا وقعت سنة 1982 لبنان، قامت بها القوات الإسرائيلية والكتائب المسيحية المارونية راح ضحيتها 3500 لاجئ فلسطيني، وكان المسؤول المباشر عن هذه المذبحة رئيس وزراء إسرائيل السابق أرييل شارون تسانده حكومته سرا وقد احتالت على الرأي العام الإسرائيلي والعربي والدولي فأدانته حينها وعزلته عن منصبه في الجيش لاحتواء الانتقادات التي وجهت للحكومة الإسرائيلية. بقروا بطون النساء وقتلوا الناس والأطفال بسادية فظيعة.
(3) استخرج الأسبرين أول ما استخرج من شجرة الصفصاف ( الكليبتوس ) وبالتحديد من لحائها. والإنجليزي ( إدوارد ستون) هو أول من اكتشف مزايا هذا اللحاء العلاجي، وكان ذلك في سنة: 1758م.
(4) كمان الرسام الألماني مارتن زال هو أصغر كمان في العالم، إذ يبلغ طوله 14 ملم، أي أقل من سنتم ونصف، وقد استغرق صنعه 8 شهور ويضم 15 قطعة مختلفة.
(5) الغدّة النخامية توجد في قاعدة الدماغ في تجويف خاص وتتكون من فلقة أمامية وفلقة خلفية ولكل من الفلقتين وظيفة خاصة، وتتصل بالدماغ بواسطة سويقة مجوفة، وهي في حجم الفولة، وتسمى أيضا الغدة الرئيسية لأنها تنتج الهرمونات التي تسير سائر الغدد الصماء، إنها القائد، ( سميت الغدد الصماء بهذا الاسم لأنها تضخ ما تفرزه مباشرة في الدم). تسيطر على النمو، وتتحكم بآلية الحيض وحماية الطفل الجنين في فترة ما قبل التمخض للولادة، وتنظم نماء أنسجة الجسم، وتتحكم في الغدّة الدرقية الجنسية إلخ. والجهة المعينة بمكان الغدة النخامية ليست جهة واحدة، بل هي جميع الجهات وللقارئ أن يتأوّلها كيف يشاء لتكثير الصور الذهنية وتنويعها لأنها مفتوحة، فلك أن تشير إلى إصابة نجيب في الجهة الأمامية لرأسه أو الخلفية أو ...