نَجَاح
ماجد بن سليمان
تدوس "نجاح" بكعبها الإيطاليّ سيراميك البوابة رقم 7 لتلج إلى داخل السوق الكبير، تتبعها أو تكاد تلاصقها من اليمين صديقتها "نورة"، كلاهنّ تلبس عباية وطنية الصنع، يظهرن قليلاً من فتحة العينين، نستطيع القول أنهنَّ محتشمات.
ممرات السوق يملأها التشجير الصناعي، ويُقبل البخور عليهما من كل جانب، وذلك بعد أن عبرن ممر دكاكين البخور والعطور، لتنعطفا يميناً للبحث عن محلٍّ شهير للملابس النسائية الناعمة.
- هذا هو.
هذه الكلمة حلقت من بين شفتي "نجاح"، لتدقق "نورة" بعد ذلك بالإشارة إلى المحل قبل دخوله.
محلُ شهير تعلوه لوحة مسطيلة الشكل مصنوعة من المعدن القصديري الرقيق، إضاءتها متوسطة السطوع تملأ بروازها مصابيح صغيرة الحجم تشتعل وتنطفئ عشر مرات في الدقيقة الواحدة، باب المحل له درفتان زجاجيتان شديدتا الصلابة، أطرافها من الحديد الوطني المتين، تطلق لمعاناً خاطفاً كل ما أصابها شعاعٌ مضييء من أي جهة.
دخلت "نجاح" لتُنعِّمَ جسدها الغضَّ بما طاب لها من اللباس الدنيوي الفاني الذي قلَّ ما كانت تجده عند طليقها متوسط الحال "حسام"، كان المحل يغص بصنوف الألبسة الخارجية التي تعطي جسد المرأة عبوراً آخر إلى مزاج الأزواج اليائسين من جمال الخليجيات، وألبسة داخلية جذابة شديدة الإغراء، محظورة البيع بشكل علني بعكس الملابس الخارجية.
غمست "نجاح" يدها الحنونة بين الألبسة المعلقة على الشناكير المدقوقة في أحد جدران المحل الجانبية المقابلة للمحاسبة.. وأخذت تجوس بأصابعها الحليبية أنواع الأقمشة وطريقة موديلاتها.. بينما صديقتها "نورة" تحدق بعينيها الخاليتين من الكحل في أماكن متفرقة من زوايا المحل.
البائع العامل في المحل وهو هندي الجنسية له بطنٌ زائدةٌ بعض الشيء بالإضافة إلى قصرٍ في قامته العريضة، وله شعرٌ أسودُ يبدأ منبته من منتصف هامته الصلعاء يضع عليه كريماً آسيويّ الماركة تفوح رائحته بطريقة مذهلة في فضاء المحل.. يلبس قميصاً برتقالي اللون عليه خطوط سوداء اللون تتسابق من أعلاه حتى تتشابك في النقطة التي قبل الحزام.
يقف هذا البائع خلف جهاز الحاسوب المهترئ.. تتجول عيناه الشبقتان في عباءة نجاح التي تبرز القليل من جسدها الشهي لتستقر بكامل لهفتها على سيراميك المحل المضيء، وذلك بعد أن اصطدمت بأحد الزبائن الداخلين للتسوق.
وأخيراً.. وقعت يد نجاح الطرية على بلوزة فوشية اللون مليء بكشاكيش بارزة من أسفلها، يخترق ظهرها فتحة مثلثة الشكل مبتدأة من الأعلى حتى منتصف المقاس تماماً.. إلتفت له ليخرج صوتها كأنه تغريده:
- لو سمحت، بكم هذه؟
دفع البائع بصره اللاهث نحوها:
- بتسعين.
وماهي إلا دقائق حتى انتهت "نجاح" من شراء ما أرادت، ثم أهدت رخام إحدى محلات العطور قُبلةً من كعبها الأنثوي، وقد أحدث طرق كعبها ما يشبه الموسيقى الملقاة في غدران سمع العاملين في محل العطور.. لتلتفت الأعناق إلى حيث انطلقت الموسيقى من تحت أقدام نجاح.
من البوابة رقم 4 يدخل شابٌ حنطيّ البشرة .. متوسط الطول.. له عينان غائرتان كأنهما بئران ناشفتان.. هزيل الهيكل العام.. مصبوبٌ اليتم عليه حتى أغرقه .. تكاد الشفقة عليه تتقافز من أعين المارين به والمقبلين على نفس طريقه التي يتسكع فيها.
دلف إلى أكثر من محل مخصص لبيع العود والعطور بُغيته لم يجدها عندهم فرمق آخر محلٍ علَّق على بابه الأمل في الحصول على ما يريد عندهم.
أقبل عليه من قريب، ووقعت عيناه الغائرتان على تلك الظبية ورفيقتها وكأنهما تذرعان المحل ذهاباً وإياباً.. أحس أن الظبية ليست بغريبة الحسن عنه.. رَكَّز نظره جيداً.. حدَّق طويلاً..
فجأة..!
ثار دخان الغيرة من صدره الفواح بحبها الشارد عنه..
إنها غصن البان.. إنها الماء الزلال.. إنها من فرَّت من فقره المدقع إلى غِنى أبويها.. إنها من حاول طمس غرامها من صفحة ضلوعه ولم يقدر.. إنها التي أهدته قدح الخلع ليشربه في محكمة الرياض الكبرى.
- نجــاااح ..!!
انطلق اسمها من بين فكيه كصقرٍ شارد.. وجعٌ يتربع على قلبه الصب.. أوتار الهوى تدندن مقطوعٌ أحد أوتارها.. الوقت يخلع عباءة الحقيقة أمامه.. بلابل روحه البائسة غَنَّت في مفاتنها الرقيقة.
- نجــاااح ..!!
مرَّة أخرى بالكاد انفكت حروف اسمها اللذيذ من بين فكيه البارزين لتعلن ميلاد الغرام من جديد.. اسمها أذاب شفتيه الغليظتين.. بلَّل رداء قلبه المصلوب على خشبة ذكرياتها..
تقدم خطوتين قصيرتين.. أيدخل المحل الذي أضاءته نجاح بوجوها بين جدرانه التي بدأ يشك أنها تغازلها، أم ينسحب بأذيال الخيبة والهزيمة كما حصل معه في المحكمة الكبرى قبل شهرين على الأقل..
نجاح.. طيفٌ لا يفارق أجفانه اليابسة، وحلمٌ عجز أن ينهض منه.
نجاح.. الزوجة/ الطليقة.. الوجع، والغرام.. الضمأ، والرواء.
أخذ يساءل نفسه:
- أتهرب الظباء؟! ... أيحطب الجذع الهزيل؟!
أيختبئ القلب اليتيم خلف غرام فاتنة ؟!
التردد بلله حدَّ الغرق.. تقافزت الأسئلة من رأسه على رؤوس أصابع أقدامه السمراء:
- أدخل.. أو لا أدخل.
أوجس الكثير من الرهبة المطلة عليه من باب المحل، وحين التقت العينان قبل القلبين المفارقين أثناء خروج "نجاح" من المحل.. دقَّ قلبها سهم الفجأة، وانتفضت شفتاها الشهيتان:
- حسااام..!!
الأرض تدور من تحت قدميها، والمكان يحمَرُّ ويخضَرّ، والأهداب تنقر بعضها بالعتاب. بينما صديقتها "نوره" لم تكترث لما يجري خلفها حين ابتعدت عن المحل قرابة العشرة أمتار.. حتى أحست بفقدها لنجاح.. لتلتفت لترى مشهد العتاب الطويل.
تسَمَّر كلٌّ منهما في مكانه.. مفاجأة نفخت حضرتها في فضاء المكان الصغير.. تكاد شفتا حسام تُطلقان حروف الشوق قبل الملام.. بعكس "نجاح" التي نطقت عيناها بدلاً من شفتيها قائلة في صمتها المثير:
- ((..كم كان صعباً خلاصي من كونك الفقير..))
بادرها حسام بصمته:
( ليلة الرحيل أمسيت أعض بأسناني على أسناني، ألعق لعاب الوجع المتصبب من ثقوب أيامي الداكنة.
الفقر.. لو كان رجلاً ألا يستحق القتل..
الهجر.. لو كان عِرقاً نابضاً.. ألا يستحق القطع حتى ينزف آخر قطرة دمٍ فاسدة منه.
أبكي يتمي وفقري، وهجركِِ مضجعي.. أسند ظهري إلى سارية الأمل الهزيل، أموت وأحيى ألف مرة ومرة، وفي يقيني أن الممات ألذَّ على الروح من حياتها من غير عينيك الساحرتين ).
رفرف الصمت بينهما لتدير بعد ذلك نجاح له ظهرها مدبرة إلى حيث لا يَعلم.. بينما تهاوت من بال حسام كل الأمنيات البيضاء، والآمال الخضراء محاولة أن تمسك بطرفٍ صغيرٍ من عباءتها الزكية قبل أن تلمس بعد هُوتها رخام أرضية السوق.