أحبك مهما يكن
إيمان شراب
دخل عاصم على والدته في حجرتها ، ألقى عليها تحية الصباح وقبّل يدها ورأسها جلس عند رجليها ، ووضع رأسه على فخذيها. شعرت به طفلا صغيرا يريد الحنان والدلال ، فأخذت تمسح على شعره . رفع رأسه ونظر في عينيها، دهش لما رأى دموعهما...
- أمي ؟ لم الدموع والبكاء؟ إن الطبيب لما فك ضماد عينك بالأمس ، أوصى بعدم إجهادها وعدم البكاء!
الأم : أعرف يا عصام، ولكن ذلك رغما عني يا بني.
عصام : ولم البكاء يا أمي؟
الأم : لقد اشتقت لبيتي وأحبابي.
عصام : ما هذا الكلام يا أمي، أو ليس هذا بيتك؟ ثم من أعزّ من أبنائك وأحفادك؟ نحن هنا كلنا حولك، فمن لك هناك ؟
الأم : جعل الله بيتك عامرا بالإيمان والحب والخير يا بني، ولكن لا يمكن أبدا أن أكون في بيتي كما في بيتك، فأنا هناك ملكة وبيتي مملكتي. وهناك أختك والأقارب والجيران.
عصام : يا أمي، أختي متزوجة ، فهي ليست في حاجتك، ومهما كان قرب الأقارب هناك، فنحن الأقرب!
الأم : افهمني يا عصام...
عصام : ماذا أفهم ؟ أتريدين أن تعودي للحصار والضيق؟
الأم : يبدو أنك اعتدت على الغربة يا حبيبي .. إنني أشعر هنا بالغربة، أشعر بعدم الانتماء ... أشعر بأنني دائما رقما متأخرا ...
عصام : طبعا، أمي متعلمة.
الأم : المشاعر لا علاقة لها بالتعليم يا عصام . صحيح أن الحصار ضارب هناك وخانق .. ولكنني مع ذلك حرة، فالبلاد بلادي ، والشوارع والطرقات ملكي، والهواء هوائي .. أحس بالصبح يتنفس ، وبالليل يعسعس.
ألمس الفصول فصلا فصلا ، أرى نور الشمس وأتلذّذ به وهو يدفّئ عظامي ، أفتح نافذة غرفتي ، فتؤنسني زيتونتي وليمونتي .
قلوب الناس حولي ، كل الناس ، أتفهمني يا عصام ؟
لي هناك أهداف وهنا ضاعت أهدافي .
عصام : لعل أحدنا أو إحدى زوجاتنا أزعجك!
الأم : أبدا والله .. ولكنني هنا غريبة ، غريبة البيت والوطن .
عصام يتنهد : يعني لا فائدة ! تريدين العودة.
أحببنا بقاءك معنا بدل وحدتك هناك بعد وفاة أبي - رحمه الله-.
الأم : لست وحيدة ، أنا كثيرة هناك بجيراني وأحبابي .. بل أعانكم الله أنتم على غربتكم ووحدتكم .. كل شيء لديكم صناعي حتى المشاعر!!
سبحان الله ! كل الناس مبتلًى ، ولكنني لم أتحمل ابتلاءكم هذا !
عصام : مادمت مصرة فلا بأس .. ولكن المعبر مغلق ، انتظري حتى يفتح .
وأخيرا أخيرا أخيرا .... فتح المعبر لفترة يسيرة .
ومضت بنا الحافلة ساعات طوال ، لم تجف دمعتي خلالها . مرة أبكي فراق أبنائي ومرة أبكي زوجي ، ومرة أبكي شوقي لمدينتي ، ومرة أبكي حمدا وشكرا لله أن أعادني لبلدي أقضي فيها بقية عمري ، وأدفن تحت ترابها ، ومرة أبكي الوضع كله.. إيه ..
وصلت بيتي ، وضعت المفتاح في ثقب الباب فلم يدر.. خفت وكررت المحاولة .. وإذا بي أسمع صوت رجل في الداخل يسأل : من؟ من بالباب؟
قلت وجِلة : هذا بيتي ، أنا أم عصام ، من أنت؟!
وإذ بالباب يفتح ، وأمامي ابن جارتي مؤهِّلا ومرحِّبا !!
سألته مندهشة : ماذا تفعل هنا ؟!
قال : معك حق يا خالتي .. لا تخافي لست أنا إلا حارسا ، فقد سمعت أمي بمداهمات للبيوت في المنطقة ؛ فخافت أن يرى اليهود بيتك دون سكان ، فيحتلونه أو يهدمونه أو أي شيء آخر، فحضرت مع الجارات ، ونظفن لك البيت ، وطلبت مني المبيت هنا بالتناوب مع بقية الجيران حتى تعودي ..
وما إن أنهى كلامه ، وقبل أن أرد عليه ، إذ بجاراتي وابنتي وأقاربي يتوافدون مهنئين بسلامة الوصول وسلامة نجاح العملية .
محمولي يرن، أجبت: وصلت يا بني، أنا بخير، هل أسمعك زغاريد جاراتي فرحةً برجوعي؟ هل أسمعك الحياة حولي؟ هل أريك ابتسامة زيتونتي وليمونتي؟ هل ...
عصام : أعرف يا أمي وأفهم ، وكم أحب أن أكون معك ولكن لا حيلة لنا... لا بأس ، هنيئا لك .
الأم : سلامي للجميع .. وأحبكم حبيبي مهما يكن.
عصام : أتدرين يا أمي؟ سأفتقد وسيفتقد صغاري صوتك الدافئ وأنت تنشدين:
أحبك بما فيك من محن ...... يا وطن أحبك مهما يكن