مات ولدي وعاش

إيمان شراب

[email protected]

مات ولدي..مات الوحيد...مات من أحبه كثيرا كثيرا..مات وترك فراغا كبيرا كبيرا .

مات وغابت الشمس، مات وأظلمت الدنيا ، مات الجمال..مات الربيع..ماتت الألوان..ماتت الكلمات.

مات وقد كنت أستعد لتزويجه عندما يعود من سنته الأخيرة في الجامعة..مات وقد كان سيعالج آلامي وأوجاعي..مات دون أن أراه يلبس سماعة الطبيب..مات حبيبي في غربته .مات وماتت الحياة كلها معه.

أتاني زوجي يوما بعد عام من رحيل حبيبي، ينتقي الكلمات- ولم يستطع لأنها ماتت- : لدينا من البنات ثلاث ، وتعرفين، تحتاج البنات إلى أخ، ووالله لو كنت تستطيعين الإنجاب لحاولنا فقد يأتي الأخ ، و...

قاطعته: تريد أن تتزوج يا أبا مازن؟

قال: في الحقيقة...

قاطعته ثانية: ربما غيري يقول لك  ( يكفي أم مازن مصابها في فقد ابنها، وتريد أن تضيف إليها مصابا آخر ! ) وقد يقول (وما أدراك أن الأخ سيأتي؟!)

ولكنني أقول لك : ليس بعد فقد الغالي مصيبة، فافعل ما بدا لك . أعطيته التصريح الذي – ربما – لم يكن في حاجته .

خطب ، ورأيت نشاطا وحيوية ظهرا عليه ، مع محاولة  إخفاء ذلك عني وعن بناتي وأزواجهن .

 عكفت على مصحفي، وصلاتي، وكتابتي، وتطريزي. وانتظمت بالذهاب إلى المسجد المجاور أحفظ القرآن وأعيش في ظلاله  وأستأنس بالقرب من الله أحمده

و أناجيه ..... فهدأت نفسي كثيرا، وسمت وارتقت..

يوم زواجه، اجتمعت بناتي حولي محاولة منهن التخفيف والتسلية، ولمست بحاسة الأمومة أن كلا منهن تكتوي بما يفعله والدهن.

في يدي قطعة قماش، أرسم عليها وأطرّز، وأتأمل ما تصنعه يداي، فأبتسم سعيدة، وأتابع عملي بنشاط لأنني قررت أن أنهي ذلك المفرش الجميل في تلك الليلة، وإذ بالباب سيدة تريد مقابلتي! أدخلتها ابنتي حيث أجلس، جلست ، نظرت إلى ما بيدي، فقالت : إذن، أنت هي فعلا ! أخرجت من حقيبتها مصحفا مغلفا وناولته لي .  تأملتُه، نظرت إليها مندهشة : هذا الغلاف! أنا طرزته بيدي! وكتبت عليه بخيوط الحرير (مازن) !!

إنه هو فعلا ، من أين حصلت عليه ياابنتي ؟

قالت: انظري ياخالة إلى هذا الصغير، ألا يشبه.....

قاطعتها: بلى ! إنه كثير الشبه! بل هو مازن في طفولته!!

إحدى بناتي همست في أذني: يا أمي قد تكون محتالة!

قلت للسيدة الشابة الجميلة: من أنت بالله عليك؟

قالت: أنا زوجة مازن، تزوجنا في سنته السادسة في الكلية، وسكنا مع والديّ. كان رحمه الله يحبني كثيرا وأحببته ولا زلت كثيرا، وهذا ابننا محمد.

قمت من مكاني أكاد أفقد وعيي ، ذهبت إلى الصغير، ونزلت على ركبتيّ- وقد نسيت ألمهما – ضممته، شممت رائحته ....أطلت في ضمه وأنا أردد: يا غالي يا ابن الغالي، يا حبيبي يا ابن حبيبي ....

ماأعظمك يا ألله! جبرت كسري ، أعدت لي الحياة...

نعم الآن عادت الألوان وعاد الجمال وعاد الربيع .... الآن فقط.

 دخل عليّ محمد مازن، سألني مشفقا : ألا زلت تكتبين يا جدتي ؟

أجلسته في حجري وأجبته : نعم يا محمد، لازلت أكتب، أكتب كرم الله معي، أكتب وأكتب.... ولن أستطيع، فهو سبحانه أعاد لي الحياة .

فعندما مات أبوك لم أر مصيبة بعدها، وعندما أكرمني الله بك لا أرى سعادة بعدها.