أمنيات رجل مختلف

م. زياد صيدم

[email protected]

مرت شهور عليه، وطيفها لا يزال يأتيه زائرا محببا على قلبه، يلازمه في حيرته، كان احمد قد رسمه لها في خياله من خلال كلماتها ،وأشعارها ،وهمسها ، وانفعالها وعنادها وضحكاتها.. كان يسارع إليها بمجرد إضاءتها لشرفتها، فينسكب عليه عطرها وشذاها في ليله ووحدته وينحسر ألمه وتغور كآبته وتنفر سعادته وراحته حتى تستحوذ على كيانه..

في ليلة مقمرة بسماء تزينت بكواكب تتلألأ ضياء ، رأى خيال يسعى إليه من بعيد ، يقترب منه بخطوات واثقة ، وما أن ظهرت صورتها جلية حتى اهتز كيانه .. ورقصت الروح على أنغام خاصة مميزة ، وتفجرت منه ينابيع من حنين وأمنيات.. فها هو الآن يحلق بعيدا في خياله اللام تناهى كمجرة سماوية ، ينشد فيها ما تنشده النجوم في عشقها السرمدي بهمساتها  التي لا يعيها سوى قلب متيم عاشق .. لقد كانت هي نفسها طيفه الجميل.. فقد استدل عليها بإحساسه وعمق مشاعره الصادقة نحوها على مر شهور طوال.. في هذه اللحظات توهج ضياء البدر بطلتها البهية ، كان ضياؤه يمنحها  رونقاً جذاباً ، وجمالية فائقة الوصف، ارتسم على فمها بابتسامته الساحرة، فبدا كأنه يداعب خصلات شعرها وجدائلها التي مزجتها بقطع من قماش مزركشة ألوانها، تتهدل مع أطراف شعرها ، ويتناغم مع طوق من حرير خمري على رأسها وقد التف يطوق جبهتها .. كان يعكس لونه مع توهج ضياء البدر على وردية شفتيها الجميلتين،ووجهها الأندلسي ذو ملامح البحر المتوسط، فيزيدهما حمرة طبيعية فاتنة ،فتوهجت في أذنه همساتها وأحس بأنفاسها الدافئة وقد اختلطت بهمس كلماتها كشدو البلابل، ليذوب اشتياقا ولهفة لنداء الكروان !..

ترك لنسائمها تعبث بكيانه وتزرع في دواخله أحاسيس تغزل ألحان من الجوى .. من أذنه يقترب صوت خلخالها بقدمها.. فيهيم كثائر عاشق يزداد ولها ، لا يليق إلا بغجرية فاتنة تأسر القلوب وتحطم الحدود كل الحدود .. وتستبيح الجنون كل الجنون..تخطو على الجراح واللامعقول غير مبالية ، وتقترب حد الامتزاج الكامل بروحه وتلابيب قلبه  .. فلما أطلت تنحى منها البدر وذاب خجلا فغطى وجهه بغيمة كانت تمر على مقربة منه ، مفسحا لها مكانه وقد اسلم حظه  للقدر.. من حولها كانت ثلة من عرائس النجوم تحتفي بقدومها ،وقد ألبستها ثوبها الغجري الذي انساب  على قوامها الممشوق بالونه الغجرية الساحرة الزاهية ..  وانعكس على ذالك الوجه النحيف مضفيا عليها ماكياج طبيعي، ساحر ألوانه وقد توسطته شفتان ياقوتتان كعنقود داليه قد اختمر على أغصانه فحان ميعاد قطافه..و لم تنسى عرائس النجوم وضع آخر لمسلتها بإلباسها خلخالها على رصغ  قدمها .. فأثارت في نفسه أشجان وأمنيات.. فبدت رعشات وخفقات قلبه بضربات هزته كعازف محترف يعزف ألحانه على وقع الوتر.. استعاد وعيه من لحظاته السعيدة جراء طلتها لأول مرة،  فكانت أن حملت معها نسائم عطرها فدفعت بها إلى خلجات قلبه المنقبض اشتياقا لها ،لتزيده تألقا وغراما بها على مدار زمن طويل لم يحسبه بعمر الشهور ولن يفعل !..

 كانت غجرية في لباسها .. حضرية في تعاملها ووعيها وشاعريتها .. تزيد من جنون أفكاره وتبعث في دواخله رسم اقر جميع مشاهديه بأنه مجبول من جوا وإبهام وجنون ..

غاص احمد ما بين حاضره وذكرياته ،وقد انتابته أحاسيس لا تخفى نار ملتهبة اضطرمت في صدره، شعور بالحنق سيطر عليه ! فهي القريبة البعيدة .. إنها الواقع والخيال ..  الحاضر بسحره  والماضي المعتق بخمر الليالي وإبداعات الخالق.. هذا الشرود الذي اكتنفه وأحاط به، كمتأبط تماما  بذكراه العذبة التي لا تموت ، فهي عصية على الانقراض أو التلاشي  ..لكنه بالتأكيد لن يعترف بحكم الواقع ؟.. انه الإصرار الذي ينبع من عنف رغباته وبحثه عن شيء ما..  اهتدى إليه بعد إحساسه بنقص ما..؟ بالتأكيد كان يوقن  بأنها ليست بشهوات رجل لأنثى فهي بعيده عن لغة الأجساد في حالتها هذه ؟؟!! وان توهجت عواطفه كالبرق الخاطف أحيانا، لكنه سرعان ما تتلاشى وتهدأ رغباته..  ليبقيه حيا في أعماقه كشعور دائم ، يحافظ عليه عبر الزمن بلا انقراض أو إهتراء أو ذوبان ...

لحظات صعبة مرت على قلبه..  يملؤه الشوق وتسرى به أحاسيس عبر أوردة وشرايين جسده، فتهمس كما دوما لحن من جوى يعطر الفؤاد برائحة البنفسج.. اقتربت منه فأمسك بكتفيها ، قبـَّل يدها، لمس خديها،ضمها ، فاضت عيناه بدموع ملتهبة.. وفجأة تراجع للخلف، وقد اعترت تفكيره في هذه اللحظات أفكار وهواجس غريبة، فلو أنه يستطيع تدمير كل صروح الحب التي مر بها، أو التي بناها في قلبه وأفكاره وقصصه .. ومن شفتيه نطق بصعوبة بضع كلمات تدحرجت متلعثمة من بين شفتيه كان يلعن قسوة الأيام وحدة القدر.. فتساءلت أفكارهما المضطربة والمرتجفة ، لماذا يحدث هذا كله طالما المستحيل يقف بالمرصاد لكلاهما وهما لا يريدان تخطى حدود الجنون ؟.. فالخوف قد تلبسهما برداء الحذر والرهبة من المجهول ،الذي رسم ملامحه بقوة ،عبر حدود وهمية وان كانت حقيقية قائمة ؟..  إنه صراع أزلي بين طلاسم الأرواح ورغبات الأجساد وطبيعتها.. إنها قصّة عشق من نوع خاص، من نوع قل وجوده بين ملايين القصص ، ولدت برعمًا ونمَت وترعرعت في ظلّ المستحيل الّذي يباعد بينهما، فهذه الأشواق وصخب الأمنيات تحترق بين الضلوع وأوجاعها .. تنتحر على أبواب موصدة مفاتيحها ملقاة في وادي سحيق..   وبين ألم البعد، ولهفة اللقاء ولو بشكل عابر..أو نتيجة صدفة يتم برمجتها مسبقا عن غير قصد ؟؟، للتحايل على المستحيل وقهره .. فلا بد وللقدر أن يقول رأيه ، فصمته ولامبالاته يمزق شرايين تتجه إلى تغذية شق قلبه النابض بالحب والخير، فهل يتآمر عليه قلبه ليغدو قاحلا فيتآخى مع شقه الآخر قاتم السواد ميت الأحاسيس..!

فجأة يغيب القمر خلف غيمة ، وتنفض النجوم غاضبة ؟..  فعاد إليه وعيه، ليجد نفسه من جديد يعيش الواقع .. ولكن ما تزال قبضته ممسكة بوردتين مختلفتين بلونهما الأبيض والأحمر، يتوسل فيها أمنياته ما بين حب الروح  وعشقها الأبدي، و بين حب الجسد ورغباته القاهرة.. فتمنى قبل أن يستيقظ من حلمه الجميل لو أنه استطاع منحها وردته البيضاء من الياسمين .. لتبقى في يده وردته الحمراء لتكون هدية أول نجمة متلألئة تقترب من رجولته ..

لكنه تنبه في آخر لحظة عن تساؤل لا يزال يبحث عن إجابة شافية في أعماق كيانه الحالم ؟.. فلو يجد إجابة عليه ..  لكان حينها من أسعد البشر !!.

إلى اللقاء