45 دقيقة

دقيـ 45 قة....

جمانة الجعبري - فلسطين/ الخليل

[email protected]

جاءها الصوت عبر الهاتف: بشراك!! وأخيراً حصلت على تصريحٍ للزيارة، وبعد عشر دقائق سأكون عندك... وانقطع الاتصال.

أمسكت الهاتف بذهول وتسمرت في مكانها لا تصدق ما تسمع... وأخذت تسائل نفسها: معقول وأخيراً سأراه بعد خمس سنوات... يا الله، سبحانك ربي ما أكرمك وأخيراً بعد كل هذا البعد والألم تُقدِر له من يخترق سياج سجنه وأكون أنا من تخترق هذا السياج... يا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك...

وصلها التصريح بللته بدموعها ضمته إلى صدرها حفظت رسم كل حروفه كان تصريحاً لمرةٍ واحدة ولكن لا بأس فعلى رأي المثل القائل: "الريحة ولا العدم"، كانت تتمنى أن تعلم كل الدنيا بخبر زيارتها القريبة التي ستكون بعد أسبوعين من الآن لتشاركها طعم الشعور بالفرحة الذي بات غريباً نادراً.

من لحظة استلامها للتصريح بدأت التحضيرات والزيارات والاستشارات والاستفسارات فهذه أول مرة تخوض فيها هذه التجربة التي طالما سمعت عن تعقيداتها، أرادت أن تعرف الإجراءات وما هي الأغراض المسموح بإدخالها من ملابس وخلافه، فالصليب الأحمر هو وسيلة التوصيل وفي كثير من الأحيان يستغرق وصول المستلزمات شهر أو أكثر وأحياناً لا تصل ولا تسترد!!

من خلال أسئلتها حصلت على الكثير من المعلومات مفادها أن الطريق لا تخلو من المفاجآت ولا يمكن التكهن بما سيحدث فالأمر برمته خاضع لمزاج الجنود الصهاينة وكانت المفاجأة الكبيرة بالنسبة لها أن مدة الزيارة لا تتعدى خمسةً وأربعين دقيقة فقط لا غير!!!!

كلما اقترب موعد الزيارة زاد قلقها واضطرابها فهي ستزور خطيبها الذي لا تعرفه!! خطيبها الذي اعتقل بعد شهرٍ من عقد قرانهما، والذي لم تره نهائياً خلال الخمسة أعوام الماضية ولم يكلمها عبر الهاتف إلا مراتٍ معدودة، وما كان يصلها من معلومات عبر المحامي لم يكن ليشفي الغليل أو يريح البال، فأي خطبةٍ مقطوعة الأوصال هذه... ولكن لا بأس فهي تحتسب أجرها عند الله تعالى وهي واحدة من ألوف النساء اللواتي يعانين ذات معاناتها ولا يمكن أن تكون أقل منهن خصوصاً وأنها آمنت بأن الحرية لن تتحقق على أرض الواقع دون ضريبة تدفع من الأعمار والدماء.

انطلقت تحمل قلبها الصغير الذي أتعبها بشدة خفقانه منذ عرفت بأمر الزيارة، وتحمل معها إضافةً لذلك حقيبة فيها أهم ما يحتاجه هناك وراء السدود الحديدية وكماً هائلاً من الرسائل الشفوية من أهله وأصحابه... وبدأت مراسيم الرحلة من الساحة السادسة صباحاً انطلاقاً من أمام مقر الصليب الأحمر، عجائز وشيوخ وصبايا وأطفال ما دون سن السادسة عشرة، انطلقوا وسط البرد القارص باتجاه السجن، كانت تجربتها الأولى وكانت طويلة معقدة مليئة بالمعيقات ونقاط التفتيش والتسليم، فمكان للتفتيش الإلكتروني وآخر للتفتيش الجسدي وثالث لتسليم الأوراق ورابع لتسليم الحقيبة ثم ركوب الحافلات الصهيونية ثم إعادة كرة التفتيش مرة أخرى حتى الوصول للسجن، وهناك تعقيدات أخرى ومن ضمنها تقسيم الناس أفواجاً أفواجاً لأجل الزيارة وكان نصيبها أن تكون في الفوج الأخير!!! ومرت الساعات بطيئة قاتلة ملأى بالهواجس والأفكار المزعجة والترقب...

وعلى الطرف الآخر كان ينتظر هو الآخر ويعد نفسه لهذا اللقاء الذي انتظره سنواته الخمس بأيامها ولياليها ودقائقها، لقد تعبت ساعته من كثرة نظره إليها وسئمت المرآة كثرة تلميعه لها ومطالعة وجهه فيها... وكلما طال عليه الوقت قطع الأمل واعتقد أن أحداً لن يأتي لزيارته وفي ساعات المساء قطع الشك باليقين عندما تهللت أساريره فرحاً بنداء الجندي الصهيوني على اسمه متبوعة ب لك زيارة أسرع...

خمسة وأربعون دقيقة كانت هي العمر الممنوح الذي تحركت فيه عجلة الزمن بشكلٍ سريعٍ مفاجئ مثقلٍ بالمشاعر المختلطة ...فرح حزن ... حب كره ... وعشقٌ ناله شيء من سقيا رحمة فأزهر وأورق في عز القحط والجفاف.

كان ينتظرها بشوقٍ وخوف، خشي عليها من نظرته الباردة وصمته الذي أزعج من قاسموه الشبح والتعذيب ورطوبة الزنازين... كان يخاف عليها من قلبٍ تعلقت به وظنّ أنه ما عاد موجوداً فإذا به يرفرف كعصفورٍ تفلت من بين يدي صياده... بمجرد رؤيتها كادت جفونه تتجمد في مكانها... كان ينظر إليها بملئ عينيه، يحاول منع جفنيه من أن تطرفا خشية أن يخسر جزءاً من الثانية لا يرى فيها من قاسمته كل لحظات الأسر الطويلة التي نازعت قلبه استئثاره حب الوطن... تلك التي كان ينظم لها أجمل الأشعار وكلما همّ بكتابة شيء على كراريس السجن المهددة بالإعدام تراجع، فمحبوبته أغلى من أن تسكن ورقة قد يطلع عليها طفيلي أو يحرقها سجان... مكانها الطبيعي قلبه وعقله ومسرى دمه...

انسابت كلماته عبر الهاتف والحاجز الزجاجي سائلاً: كيف حالك؟ ...

كانت تهم أن تقول له مشتاقة ولكنها أجابته على استحياء وعيناها تهربان منه إليه: الحمد لله وأنت كيف حالك؟ ...

فأجابها بملئ فيه وتعبيرات وجهه أكثر منه بلاغةً: مشتاق جداً...

سألها عن الأهل والأحباب وهي تجيبه باقتضاب محاولةً التمعن في وجهه، ثم سألها عن حالها فتركت الكلام وأسلمت زمام أمرها لعينيها ففاضتا بكل ما كانت تخبئه طوال هاتيك السنين...

جعل يخاطبها وهي تبكي بحرقة تارة تتعلق عينيها بعينيه وتارة تطرق فتروي الأرض بدموعها... ولا زال يسألها ما بك وهي لا تجيب وكم حاول التخفيف عنها وما من فائدة ويعود ليسألها مرة أخرى ما بك؟... ولكن ماذا تراها تقول... هل تقول له لقد قتلني شوقي إليك حتى هَرِمتُ قبل الأوان ولكن ما هَرِمَ القلب وما توقف العقل عن التفكير بك ... هل تقول له لقد أنساني البعد ملامحك حتى أصبحت أداوم النظر إلى صورتك صباح مساء... هل تقول له بُعدُك جعلني مستباحة الحمى حتى ضقت ذرعاً بلوم اللائمين وشماتة الشامتين ...

وفجأة قطع حبل أفكارها وقال لها: يا بنت الناس أظن أني ظلمتك بارتباطك بي .. لقد بقي لي عشرة أعوامٍ أخرى ولك الخيار إما أن تبقي على ذمتي وهذا ما أتمناه أو أن تمضي في سبيل سعادتك وسأتمنى لك كل خير عن رضا و... فأسكتته بنظرة استنكار وغالبت نفسها على الكلام قائلةً: وهل اشتكيت لك... هل هكذا تُفهم دموعي...قالت له بعينين تفيضان دمعاً وثغرٍ يفتر عن ابتسامةٍ أثقلتها الدموع والألم المنبعث من عمق الروح: والله لن أكون أقل من أمينة قطب* حتى لو لم تجمعنا الدنيا لحظة واحدة... وفي تلك اللحظة فرق بينهما إعلان السجان عن انتهاء الخمس وأربعين دقيقة وغادر كلٌ منهما مكانه دون أن يدير ظهره للآخر حتى فرقت بينهما الأسيجة والأبواب...

غادرا وقد ازدادت جذوة حبهما اشتعالاً فالخمس وأربعين دقيقة هذه التي منحهما إياها السجان ليكسر روتين الزمن المتوقف منذ خمسة أعوامٍ خلون كانت كافيةً لتذيب جبل الجليد الذي غلف قلبيهما أو هكذا هيئ إليهما...غادر كلُ منهما إلى عالم الوحدة الذي يعيش يحمل بين يديه زهرة أملٍ جديد وُلد على أعتاب السجن رجع كلٌ منهما إلى حياته السابقة بروحٍ جديدة يحدث كلٌ منهما نفسه قائلاً ستدور عجلة الزمن وستنقضي السنوات القادمة كما السابقة وسيمضي السجان وسيبقى حبنا وسيبقى الوطن.

*أمينة قطب: هي أخت سيد قطب وزوجة كمال السنانيري الذي كان محكوماً 25 سنة مع الأشغال الشاقة المؤبدة بعد تخفيف حكم الإعدام عنه، خطبها من أخيها سيد قطب بعد مضي خمس سنوات على اعتقاله عندما التقاه في مستشفى السجن، فقبلت طلبه على الرغم من علمها بالمدة الباقية له في السجن والمقدرة بعشرين عاماً أخرى وتم العقد، ولما أحس بمشقتها جراء السفر إلى السجن خيرها بين البقاء على العهد أو الطلاق فاختارت أن تبقى على ذمته وفاءً له، وقدر الله تعالى لهما الزواج بعد 17 عشر عاماً على خطبتهما، وفي بداية عام زواجهما السادس اعتقل مرة أخرى ولقي من العذاب ما لقي حتى لقي ربه شهيداً فكتبت أمينة قطب تقول:

هـل  تـرانـا نـلـتقي أم iiأنها
ثـم  ولَّـت وتـلاشـى iiظـلُّها
هـكـذا يـسـأل قـلـبي iiكلما
فـإذا  طـيـفـك يـرنو iiباسماً
أولـم نـمـضِ على الدرب iiمعاً
فـمـضـيـنا  في طريق iiشائك
ودفـنَّـا  الـشـوق في iiأعماقنا
قـد  تـعـاهدنا على السير iiمعًا
حـيـن نـاداك ربٌّ iiمـنـعـمٌ








كانت اللقيا على أرض السراب؟!
واسـتـحـالت  ذكرياتٍ للعذاب
طـالـت الأيـام من بعد iiالغياب
وكـأنـي  فـي استماع iiللجواب
كـي يعود الخير للأرض iiاليباب
نـتـخـلى فيه عن كل iiالرغاب
ومـضـينا في رضاء iiواحتساب
ثـم  عـاجـلـت مُجيبًا للذهاب
لـحـيـاة فـي جـنان iiورحاب

مهداة إلى (D & N ) الذيْن ألهماني كتابة هذه القصة جمعهما الله عما قريب