وقال الرجل العجوز

وقال الرجل العجوز

(3)

عادل العابر - الأحواز

[email protected]

دق جرس الباب وكنا قد تغدينا ورحنا نستعد لقيلولة الظهر،

ظننا الطارق متسولاً، فأخذ ولدي الأكبر خمسين توماناً وراح يتمشى متثاقلاً نحو الباب ليعطيه له.

نظرت زوجتي نحوي وهي تدلك آخر صحن في مغسلة المطبخ فقالت:

هؤلاء المتسولون لا يعرفون ظهراً ولا مساءاً، أقسم أنه جمع أكثر من راتبك اليومي منذ الصباح!

ثم تابعت تأنيبها وهي تموص الصحن بماء الحنفية الشديد الملوحة:

والله أنهم لا يستحقون الصدقة.

ثم سكتت هنيهة وقالت تكلم نفسها بصوت خفي: هذه تجارة وليست تسولاً!

وقبل أن أعلق على كلامها جاء صوت صديقي الرجل العجوز وهو يمشي أمام ولدي:

يا الله ... يا الله.

فرحت لرؤيته واستقبلته مهللاً:

أهلاً وسهلاً، كل خطوة بـ أهلاً وسهلاً، شرفت.

قال قبل أن يعانقني: صباح الخير!

ضحكت بصوت عال ثم قلت:

لقد فات الصباح وصلينا صلاة الظهر وتغدينا وها نحن نستعد لقيلولة الظهر.

قال: صباح الخير هذه تعني أني لم أفطر ولم أتغد بعد!!

عجبتني صراحته،

تجمعنا حوله بعد أن أعدت له زوجتي طبق الطعام وطلبنا منه أن يتكلم لنا عن الماضي.

قال وهو يلف الخضرة في قطعة الخبز: بعد القيلولة ليس الآن،

ثم غمس لقمته بالمرق وملأها بملعقة من الرز ووضعها في فمه.

وبعد أن أتم طعامه صلى الظهر والعصر سوية ونام دون أن يخلع كوفيته!

أخذت زوجتي الأطفال في حجرة أخرى لتدع الشيخ ينام مرتاحاً فلعله يحرج من وجودها،

ولكنه لم يخلع كوفيته بعد!

خاطبته مستغرباً: ألم تخلع كوفيتك؟! … الجو حار؟!

قال بكل تأكيد: كلا! … ثم واصل كلامه وهو ينظر نحوي:

الكوفية هذه لا أخلعها حتى في بيتي … حتى في منامي!!

ولما رآني مستغرباً أضاف:

وزوجتي لا تخلع حجابها في البيت … وحتى في وقت النوم!!

قلت: ولكن يجب أن تسترخيا وتكونا مرتاحين.

قال بعد أن هز رأسه رافضاً: نحن مرتاحان بكوفيتي وحجابها!

ثم أضاف قائلاً:

كوفيتي وحجابها كانا يقيانا من البرد في الشتاء ومن الحر في الصيف حيث كنا نبللهما ونتلثم بهما حتى تعودنا على إرتداءهما في كل الأحوال.

وبعد ساعة استيقظنا، وطلب منا القهوة.

قالت زوجتي: اكتف بالشاي، لأننا لا نشرب القهوة ولا نشتريها.

نظر إليّ نظرة متعجب وقال: أي عربي أنت ولا توجد في بيتك قهوة؟!

قلت مبتسماً: إحك لي القصة وسأعاهدك أني سأشتري القهوة في المرة القادمة.

  فقال دون مقدمات:

كانت الشمس تميل إلى المغيب وقد احمر الأفق تماماً، وما هي إلا لحظات حتى اختفت الشمس وراء الأفق وبدأ الظلام يسدل ستاره على الصحراء رويداً رويداً.

سمع "مران" عوي الذئاب ونقيق الغربان التي تحوم حول أطلال الطين التي تركت منذ عامين، تركها أهلها لقلة المطر وشحة المياه، وهاجروا إلى كوت الشيخ ليعملوا في معامل التمور.

ولم يخف مران من الأشباح والأصوات المخيفة التي تأتي من جهات الصحراء الأربعة وكان يعرف طريقه من النجوم اللامعة في السماء!

لكن الظمأ والجوع أخرّا قواه فصمم أن يضيف في أول بيت من القرية التي سيمر بها.

وعند وصوله إلى القرية هجمت نحوه الكلاب بنباحها الذي كان يشتد كلما تقرب إلى البيت الأول، ففهم أهل البيت أن غريباً قادم فأرسلوا أحد أولادهم ليستقبله حتى وإن كانوا لا يعرفونه! ... إنه ضيف وهذا يكفي ليحل في الدار مكرماً معززاً.

ولم يكن للبيت جرس ليدقه ولا حتى باب ليطرقه! فاكتفى بالدعاء الذي ينبه أهل البيت أنه قادم إليهم ...يا الله.

وسمع من الطرف الآخر المهللين ... أهلاً وسهلاً، فمر من بين الغنم حتى دخل دار الضيافة.

  وكان أحد رؤساء القبائل خارجاً للصيد ترفقه زمرته، ولما أخذهم الليل ضافوا في نفس البيت الذي ضافه مران!

ذبح رب البيت خروفاً و طبخت النساء الرز والمرق وخبزن الخبز بتنور الطين ليرضى عنهم الشيخ أو ربما ليكفوا شره ويسلموا من حقده!

وبعد مغيب الشمس بلحظات، صل الضيوف صلاة المغرب والعشاء ثم مدّت المائدة ووضع عليها الرز والمرق واللحم والسمن والروبة والشنين ثم صاح رب البيت بصوت مرتفع: بسم الله .. تفضلوا.

 وبدأ الشيخ ينهس باللحم ... وينظر إلى مران بعين شزرة!

وكلما مد مران يده صوب اللحم، ضربه الشيخ على يده مؤنباً:

أأنت باز لتأكل اللحم؟!

فيجيب مران خائفاً: كلا يا سيدي، لست بازاً وسأكتفي بالخبز والشنين.

ولم يدع الشيخُ مرانَ ليأكل حتى وذرة صغيرة من اللحم!

وعندما شبع الشيخ وزمرته، أمر ربَ البيت أن يحتفظ بما تبقى من اللحم ليتغدوا به غداً هو وحافته عندما يواصلون صيدهم في الصحراء!

ونظراً للسلطة التي كان رئيس القبيلة يتمتع بها آنذاك، فليس أمام رب البيت إلا التنفيذ بما أمره الشيخ!

فصر اللحم في صرة وعلقه على حبل قرب فراش الشيخ.

 ولم ينم مران تلك الليلة من شدة غضبه على الشيخ!

فانتظر حتى غرق الجميع في سبات عميق، ثم نهض من فراشه وسرق اللحم وتسلل في ظلمات الليل وهرب.

إستيقظ الشيخ وزمرته من نومهم عند الصباح ولم يجدوا اللحم، فعرفوا أن مران هو من قام بسرقته، فغضب الشيخ ولام بعض زمرته قائلاً:

ما لكم تنامون نوم الأموات ولا تحسون بما يجري حولكم؟!

ولم يلم نفسه وقد نام موت الأموات وما حس بمران وهو يسرق نصيبه الذي حرم منه البارحة!

وأما رب البيت فكان يلوم معهم تقية ويحتفظ برضاه لما فعله مران في قلبه.