الضياع

مجدي السماك

عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا 

[email protected]

 ذات يوم كان الأستاذ منير جالسا في الشرفة يشرب فنجان قهوته المضبوطة بالهيل، وكانت الدنيا صباحا، وكان يرتدي بيجامته البيضاء الواسعة التي تشمل جسده الأصفر الممصوص، وما انفك جسده يتلوى بالنعاس، و بهدوء كان يتمغط، وراح يهدهد بكفه ويطبطب على فمه المفتوح على آخره بالتثاؤب، فيحيله إلى أصوات متقطعة كقرقرة النارجيلة، فينفث بقايا النعاس الذي يخدر جوفه المشبع بالكسل.. ثم راح يفرك عينيه الحمراوين لقلة النوم، ونومه كان بالمرة غير متصل، لأن زوجته المدام منال كانت طول الليل تزّن وتلّح عليه بطلباتها التي ليس لها أول أو آخر.. وكانت تلح بإصرار عنيد تريد شراء جهاز موبايل حديث، فيه كاميرا تصوير وفيه راديو. وكانت كل دقة من دقات قلبها تتحسر على جهاز الموبايل هذا منذ ستة شهور.. وفي الستة شهور هذه لم ينم بعلها الأستاذ منير من تحت رأسها بشكل كاف كما ينام بقية خلق الله، إلى درجة أنها في مرات كثيرة كانت تتمحك به وتوقظه بعد منتصف الليل، لتبدأ في ممارسة زنها وإلحاحها الذي عادة ما يأخذ من الوقت الكثير، وفي مرات كثيرة كانت تمتد المناكفات بينهما إلى أذان الفجر.. وما يعّقد المناكفة والمماحكة بينهما ويزيدها اشتعالا أن كليهما يؤيد حزبا سياسيا مغايرا للآخر، ولكل منهما ميول وآراء مختلفة كل الاختلاف، رغم أنهما لا يفهمان في السياسة، إنما يشعران بها، وبها يتخبطان، وبنارها يحرقان ويصطليان، خاصة بعد أن امتدت خلافات الأحزاب إلى بيوت الناس.

بالكاد رشف الأستاذ منير من الفنجان حتى رأى وجه زوجته قادمة نحوه، يتقصع جسدها السمين في دلال، وتهز مؤخرة أكبر من عجلة المقطورة. ووفقا لخبرته العريقة بمزاج زوجته وطباعها، رأى الأستاذ منير في ملامحها وداعة تدل على أن بالها فاضي ومرتاح، وهذا يعني له حين يفك شيفرة وجهها أنها تنوي على الشر.. فضم الأستاذ منير جسده أكثر وأكثر، وبسرعة كمشه في بجامته، وأبقاه مكموشا لوقت طويل، وأدار وجهه جانبا ملقيا نظراته إلى الخارج، تمرح وتقفز حتى تستقر في قعر المدى الغارق في الفضاء الكبير، وعبس واحكم العبوس بإلصاق شفتيه المتهدلتين أسفل شاربه الكثيف الأسود، الذي صبغه قبل عدة أيام، ثم استعاذ بالله خشية أن تجلس زوجته قربه وتبدأ معه الكلام والمناكفات.. واتكأ بمرفقه على حافة الشرفة، وبقرف حط رجلا فوق شقيقتها، وراح بغيظ  يتأفف وينفخ، ويحوقل.

جلست زوجته مقابله وهي تحمل فنجان قهوتها بيد، وتملّس على شعرها الكث غير القابل للتمشيط باليد الأخرى.. وقبل إكمال جلوسها، بل قبل أن تهبط مؤخرتها على سطح الكرسي، وسع الأستاذ منير تكشيرته وحاول مطها ليسحبها على كامل وجهه المربع.. ثم نظر إلى وجه زوجته منال بزاوية عينه من تحت إلى تحت، فاستبد به العجب والتوتر لمّا رآها على غير عادتها تبتسم، فدب في روعه القلق، فهو خير من يعرف ما وراء هذه البسمة من عواقب، ففيها مخسر وفيها خراب ديار. والذي زاد من قلقله وخوفه هو أن ملامحها بقيت هادئة بريئة كالقطة المغمضة، وفوق هذا لم تستل لسانها السليط كما تعودت، لتوبخه أو تعايره بمادة التاريخ التي يدّرسها في  المدرسة، والتي لا يوجد من ورائها أي فائدة سوى راتبه القليل، ولا يوجد منها أي دروس خصوصية، رغم أن مادة التاريخ يسقط فيها الكثير من الطلاب، وهي دائما تقول عن طلابه أنهم حمير. وللحظة ظن الأستاذ منير أن زوجته مريضة، أو أن الذي يبتسم هو جني تلبسها.. لكنه تخلى عن ظنه لمّا قالت له جهزت لك الفطور يا حبيبي.. فتوجس ذعرا ورجف من كلمة حبيبي التي لا يذكر أنه سمعها منها في يوم من الأيام.. ورغم أن زوجته بذلت أقصى جهدها لنطقها برقة ونعومة، إلا أنه أحسها تدق في أذنه مثل صليل السيوف أو قعقعة السلاح.. فأوقعت في روعه حنق ومقت وقلق.

بعدها.. بعدها راحت زوجته بعد أول شفطة قهوة توسع من رقعة ابتسامتها بالتدريج شيئا فشيئا، فراحت تكشيرته هو أيضا تتسع مساحتها وتكبر شيئا فشيئا، وكانت تكشيرته قبيحة جدا كأنه انتقاها عمدا من بين آلاف التكشيرات، وبدأت حدودها تصل إلى بدايات جلد رقبته المكموش، وراح قلبه يزيد خفقانه وتتسارع دقاته مع كل توسيع جديد لابتسامة زوجته، التي يختلط في وجهها الشر مع البراءة مع الابتسام. وتمادت زوجته وظلت تبتسم حتى ظهر من لثتها السفلى ما يقارب قيراط ونصف، ولثتها العليا قد بانت كلها، فبدا ضبها كأنه على وشك الانزلاق من فمها ليقع على بلاط الشرفة، فحينها أحس الأستاذ منير أن قلبه سيتوقف عن الدق لشدة الوجل.. وتعبت أعصابه وحرقت، وبات يتمنى أن تكشر زوجته وتعود إلى طبيعتها، أو في الأقل تناكفه وتعايره أو حتى تزجره، ليرتاح وتعود إلى نفسه الطمأنينة وتدب في قلبه السكينة، فعلى أية حال وراء التكشير والنكد لا يوجد مخسر ولا مصاريف ولا نكبات.. ولا ضب قبيح يبتسم.

مدت زوجته منال كفها وأمسكت برقة أسفل ذقن زوجها، وجذبته بخفة وأدارت وجهه نحوها بهدوء..

- اشرب قهوتك يا حبيبي وافطر، كي تخرج لتشتري لي موبايل.

قبل أن تنهي زوجته كلامها، وقبل إطباق شفتيها لتغلق فمها، كان الأستاذ منير قد بدأ يتحشرج بالقهوة، وشرّق بغصة حادة وشديدة، أحس بها تجرح بلعومه وتحرق سقف حلقه المطعم بالمرارة، وجحظت عيناه إلى آخر درجة جحوظ تستطيعها العيون الآدمية، وراح يكح بشدة حتى كادت أن تطلع روحه، فصارت زوجته تضرب بكفها الغليظ على ظهره المعصعص، فزاد تحدبه، لكنه لم ينكسر.. وأخذت القهوة تسيل وتشرشر على فخذه من فتحتي أنفه الأفطس والمفلطح، أنفه المبسوط الممدود من الخد إلى الخد كأنه مضروب بمطرقة حديدية ضخمة، ومن عينيه كانت تسيل دموع الغصة التي ربطت لسانه.. ولمّا استرد الأستاذ بعضا من أنفاسه، انفك لسانه عن صوت به بحة قوية خشنة، وقلقلة فيها بقايا حشرجة، يتخللها استراحات والتقاط أنفاس..

- بعد.. بعدين معك.. قلت.. قلت لك الراتب.. الراتب خلص من أول أسبوع في الشهر.. وال.. والأسعار .. الأسعار نار.

مدت زوجته منال يدها وفكت سلسلة الذهب عن رقبتها الثخينة، السلسلة التي اشترتها لها أمها من القدس لمّا صلّت في المسجد الأقصى قبل عشرين عاما..

- خذها.. بيعها.. واشتر لي جهاز موبايل حديث.. فهو من الضروريات.

لغيظه نشب الأستاذ منير أصابعه وسط رأسه ليشد شعره، فلم تعثر كفه على شعر تشده، فراح يتحسس الشعر القليل القصير الذي ينبت على حواف رأسه، والذي لا ينفع للشد، والذي لم ينجح في مده ليستر بقية رأسه الأنعم من قشر الموز، والأستاذ لا يزال يمصمص حلقه الذي راح مرة يتمدد ومرة يتقلص ..

- يا ولية حرام.. الذهب لوقت الحاجة.. في حدا يضمن الزمن.

- يا راجل!.. وكلها لله.. ما تخاف.. عندنا حكومتين.. وليس فقط واحدة.

- يا بنت الناس حكومتين بلا دوله.. أو حتى نصف دوله.

- ربنا يزيد ويبارك.. يا رب يصير عندنا تسع حكومات، إن شاء الله.

- يا ولية يا مجنونة هي الأمور بالكثرة.. أكثر من حكومة يعني مصيبة.. مسخرة.

- طبعا. الكثرة تغلب الشجاعة. مفروض يكون لكل مواطن حكومتين أو ثلاث.

- يا مضروبة سلسلة الذهب فيها رائحة القدس والأقصى.. هذه ذكرى.

- يا راجل القدس نفسها تضيع في كل يوم، على عينك يا تاجر، وعلى المكشوف.. هل ذكرى القدس أهم من القدس نفسها؟

أحس الأستاذ منير بضرورة شراء الموبايل لينتهي من هذه الخناقات والمناكفات ليتسنى له النوم، وكي يحس بالراحة.. ويتخلص من الإحراج مع الجيران الذين كانوا يدقون باب بيته بعد منتصف الليل، ليطلبوا منه خفض صوتهم..والبعض كان يطالب الأستاذ منير بشراء موبايل لزوجته كي يناموا هم أيضا، ويخلصوا من هذه الورطة التي كلها صراخ في صراخ. حتى إنه ذات ليلة طرق أحد الجيران الباب يطلب منهم الهدوء، رغم أنه لم يكن عندهم مناكفات أو صراخ.. لأن زوجته منال كان بطنها يتلوى بالنفخة والمغص الذي أصابها، بعد التهامها رأسين كبيرين من الكرنب، كان زوجها قد اشتراهما لطبخ احدهما، والآخر لإعداد المخلل بمناسبة قرب قدوم شهر رمضان، ولكن الصوت المرتفع ليلتها كان يصدر عن مكبرات الصوت التي كانت تدعوا الناس للصلاة، بسبب الخسوف الجزئي الذي أصاب القمر بعد منتصف الليل، وليلتها ربنا ستر وتعافى القمر من خسوفه، واسترد نوره، وصار يلمع كأنه مطلي بالزيت.

همّ الأستاذ منير للخروج، لكن زوجته منال أوقفته للحظة عند العتبة، واستحلفته بالله أن لا يستخدم الموبايل أو يلمسه بيده بعد أن يشتريه لها.. ثم خرج الأستاذ منير وهو يزمجر، ويدعو الله أن يدوس زوجته شاحنة كبيرة حمولتها ألف طن، تنطلق بأقصى سرعتها، يقودها سائق أعمى.

عاد الأستاذ منير بعد ساعة ومعه الموبايل.. على الفور باشرت زوجته الحديث مع كل من هب ودب من الأقارب والأصحاب والمعارف.. عندها خرج الأستاذ منير ليجلس على القهوة في الحارة المجاورة.. خرج وفم زوجته لا يزال يضخ الكلام ضخا في ثقوب صغيرة أسفل الموبايل..

- لالالا .. ما ينفع مع الفلفل.. آه.. لازم الليمون يكون كثير، والملح قليل.

عاد الأستاذ منير إلى البيت بعد الظهر، وكانت زوجته ما زالت تتحدث في الموبايل، فاضطر أن يسخّن الطعام بنفسه، لأن زوجته مشغولة.. كان في المطبخ يأكل وينادي عليها، وهو يمضغ، ليطلب منها خفض صوتها وهي تتكلم بصوت مرتفع يجيب التائه..

- آه .. مع الكم طويل ما أحلاه، لمّا يكون على لون احمر مع خرز اصفر.. بلا أزرار يا حبيبتي.. طبعا، مقّور من عند الصدر.. آه.. طبعا دانتيلا.

نام الأستاذ منير فترة القيلولة.. استيقظ بعد ساعة أو ساعتين على صوت زوجته وهي لا زالت تتكلم في الموبايل، ثم توضأ وصلى العصر.. بعدها خرج من البيت.. ثم عاد بعد أذان العشاء.. دخل إلى البيت فسمع صوت زوجته الذي كان يرن ويلعلع على الموبايل..

- طبعا.. ما ينفع أي تسريحة.. مع الشعر الطويل أحلا.. بلا صبغة شعر، ما في داع.. مرات ينفع مع الشعر القصير، حسب الشعر ولون البشرة.

تناولا معا طعام العشاء، تناكفا وزعقا قليلا.. ثم ناما، في نفس غرفة النوم وعلى نفس السرير.

استيقظت الست منال على صوت مرتفع بعد الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. شعرت بالخوف، وفزعت لمّا لم تجد زوجها في مكانه إلى جانبها.. تسحبت على أطراف أصابعها.. فاقتربت من مصدر الصوت..سمعت زوجها يصرخ وجهاز الموبايل على أذنه..

- أنا ما بعرف العب.. هو لولا الشيش بيش الأخيرة كان يقدر حدا يغلبني.. الله يلعن أبا الحظ وأبا الطاولة.. آه لو أنها كانت يك وجهار.

دب الخلاف بين الزوجين، نتشت الست منال الموبايل من يد زوجها وهربت به إلى غرفة النوم، وتسمرت قرب النافذة. فلحق بها الأستاذ منير غاضبا وهجم بكفيه على رقبتها ليخنقها ويخلص منها، ففشلت كفاه الرفيعان الصغيران في تطويق رقبة زوجته الثخينة، وهي بالفعل رقبتها أثخن من جذع النخلة. واستمرت زوجته تتملص حتى ملص الموبايل من يدها، وسقط على الأرض في الشارع وتحطم إلى قطع كثيرة تناثرت هنا وهناك. فعاد الأستاذ منير يبحث عن النوم والراحة من جديد.