حدوتة فلسطينية

مجدي السماك

عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا 

[email protected]

في مرة كنت ذاهبا إلى عملي، دهشت لمّا رأيت شابا مبتور القدمين عند الركبتين، وكان الصباح لا يزال طازجا لم يفسد رونقه وهج الشمس الذاهب إلى سخونة ما زالت في طور الدفء، ولم يعكر نقاءه زحمة صغيرة تحاول جاهدة أن تكبر ببطء، وعقارب الساعة لا تزال تكاتها تؤكد أنها لم تتجاوز السابعة وعشر دقائق على وجه التحديد. حينئذ سألت نفسي ما الذي يدفع شابا كهذا إلى الخروج في مثل هذا الوقت؟ وما الذي يمكن أن يفعله لنفسه أو للآخرين؟

ولفت انتباهي كثيرا، وأثار استغرابي أيضا قميصه المكوي بدقة عالية يعجز عنها أولئك الذين يمشون ويدبون على قدمين، ونظافته المبهرة، حتى ظننته اشترى القميص لتوه.. وكانت تنبث منه رائحة عطر تجذب إليها بشدة كل أنواع الأنوف، الرجالية منها والنسائية.. وتشبه رائحته تلك التي تهب من الأزهار وتفوح في غرة كل ربيع جديد.. وشعر رأسه مغرق في سواد براق ومصفوف بأناقة كبيرة ترتاح لمرآها العيون، بما يناسب أناقة ربطة عنق لونها احمر وتظهر أملس من خد العروسة، وطويلة تبدو وهي بأبهة تجتاز كل المسافة من رقبته هابطة إلى أسفل حجره حيث يتكوم طرفها ويستقر.

بقيت واقفا ووجهي نحوه انقل نظراتي بين ساعة يدي وبين وجه الشاب الأبيض الممتلئ المشرب بحمرة خفيفة، وبين الكرسي الذي يجلس عليه..هو كرسي له عجلتين يدفعهما براحتين غليظتين متصلتين بذراعين قويتين وسميكتين، وتكاد عضلات جسده المنفوخة لكبرها ومتانتها أن تمزق القميص.. وهيئ لي لو أنه دفع بيده الثخينة فيلا دفعة واحدة لا محالة ستبطحه على الأرض.

عبر الشاب بكرسيه الشارع خلال المارة والحافلات إلى الناحية الأخرى، فوجدت قدماي تتبعه بشغف دون أن يحس بوجودي.. أوقف الشاب كرسيه بجوار عجوز كفيفة مسربلة بالسواد، فهمت من حديثها معه أنها أمه، كانت قد خرجت مبكرا كعادتها لبيع ملابس مستعملة على الرصيف.

تناول الشاب العكاز من أمه وأسنده خلفه، أو بالأحرى هي عصا تشبه العكاز، ثم أعطاها يده وراح يقودها برفق.. وبدأ يدفع بسماكة يده أحدى العجلتين، أما العجلة الأخرى فأخذ يدفعها بطرف ركبته المبتور، فحدقت إليهما مبهورا وقد أخذني المشهد كله حتى امتص كل ما فيّ من أحاسيس.. وولد في مخي كلام بض ومات صمت ناشف.. عن كنه الحياة.

مشيا معا قليلا لمدة دقيقتين حتى وقفا قرب شيخ طاعن في السن، بدا كأنه كتلة غير متناسقة من تجاعيد مرصوصة بعضها فوق بعض، فهمت من حديثه معه أنه جاره، ويريد الذهاب إلى المستشفى بهدف الفحوصات الطبية والعلاج.

لفّ الشاب ذراعه حول ذراع الشيخ، واليد الأخرى للشيخ المسن أمسكت بطرف العكاز، والطرف الآخر للعكاز أمسكت به أمه.. ومشوا كلهم بقيادة الشاب.. وبقيت ألاحق الموكب محافظا على مسافة ليست كبيرة، ولدهشتي كنت مرة أتوقف متأملا ما أرى ومرات أتعجب.. ولا زلت أحدق إلى وجه الشاب الأملس الحليق الذي تنعكس عليه دقائق الضوء وتتكسر، وتمتزج مع ذلك الضوء المنعكس على حواف الكرسي الذي يلمع، ويختلط هذا كله ويتوه في بحر الفضاء الواسع الذي يغوص فيه الناس والبنايات.

وهكذا مشى الموكب لمدة عشر دقائق، حتى أول مفترق طرق.. هناك ترك الشاب الشيخ ليقعد ويستريح على حافة الرصيف.. ومشى في شارع فرعي يقود إلى بيته، حتى أوصل أمه.

ثم عاد الشاب وشبك ذراعه بذراع الشيخ المسن وقاده إلى المستشفى.. بعد أن مشيا معا ما يقارب خمسة دقائق.

ثم تابع الشاب طريقه، ولكن بسرعة أكبر لأنه صار يدفع العجلين بيديه معا.. وظل يسوق الكرسي حتى وصل إلى الجامعة.. نزل الشاب لوحده عن الكرسي بمساعدة ركبتيه، وقد أوكأ يديه على الحواف.. ثم ربط الكرسي بجذع شجرة زينة بواسطة سلسلة حديدية.

ثم صعد الشاب على السلم قفزة اثر قفزة، ودرجة وراء درجة، متكئا على قبضتيه، يمازح مبتسما الطلاب ويمازحونه، ويتبادلون معه النكات، حتى وصل إلى الممر الذي قطعه زحفا وقفزا إلى آخره، وكان وجهه لا يزال مشرقا بضوء بسمة صغيرة كانت تومض محاولة الانفلات عن شفتيه، لكنها فشلت وذابت في براءة ملامحه.

دلف الشاب إلى إحدى القاعات.. وبقيت منتظرا في الخارج قرب الباب أرقب ما سيحدث في الداخل.. ثم فجأة ولج إلى القاعة كهلا يضع نظارة ويلبس بذلة.. وأخذ يوزع أوراقا على جميع من في القاعة.

سمعت الكهل يتحدث بصوت مرتفع ورخيم: كل واحد يتأكد أنه كتب اسمه على ورقة الأسئلة وورقة الإجابة.. لقد بدأ زمن الامتحان.

سألت عن الشاب أحد الطلاب كان يتسكع في الممر، فأخبرني بأن إسرائيل قطعت إحدى ساقيه لمّا قصفت أحد المنازل المجاورة لبيتهم ذات يوم.. ويومها مات والده، وأخوه، وثلاث أخوات.. و أمه فقدت بصرها.. وكان وقتئذ صبيا في المدرسة الإعدادية.

ثم بلعت ما بقي في فمي من ريق وسألت..

- كيف فقد ساقه الثانية؟

- بالخطأ!

- كيف حصل ذلك؟

- أصابته قذيفة أثناء الاقتتال الداخلي.

بصقت.. ثم حدقت إلى ساعة يدي.. خرجت مهرولا إلى عملي.. فالساعة تشي بتأخير كبير.