المحارب العاشق

م. زياد صيدم

[email protected]

انطلق بعربته مسرعا على طريق ساحلي يكاد يخلو من زحام العربات منتصف النهار من شهر ديسمبر، كان راديو العربة ينثر ألحانا وموسيقى هادئة رومانسية اختارها بعناية ..  أبطأ من سرعته يسترق بنظراته منظر البحر وموجه الذي يرمى بنفسه على رمال الشاطئ ، أحس فجأة بوحدة اجتاحت كيانه و بنبضات قلبه تخفق ، يرتفع صوتها حتى كادت تطغى على هدير الموج وصوت موتور عربته، توقف جانبا وأشعل سيجارته.. فتح باب عربته بعد أن خلع حذائه وحملته قدماه العاريتان إلى حيث لامست مياه البحر الباردة .. ما يزال شارد الذهن تمتزج عواطفه وأحاسيسه وتتزاحم لتعصف بفكره، تقدم بضع خطوات في الماء بعد أن رفع بنطاله ونظر إلى مستوى الماء عن ساقيه ليتأكد من عدم ابتلاله ، وهنا المفاجأة كانت في انتظاره ؟، لقد بدت له صورتها على سطح الماء من جديد هي نفسها ذاك الطيف الجميل الذي رسمه بخياله الواسع منذ زمن ، لقد كانت تلك المرأة الناضجة التي أيقن لاحقا بعدم  الاستغناء عن حديثها وصحبتها فهما يلتقيان بعلاقة روحيهما ونقاء سريرتهما ، لقد أصبحا مقربين لبعضهما مع مرور الأيام والشهور لا يستغنيان أبدا وان فعلا وقد حدث ذلك فالأشواق سرعان ما تردهما ثانية .. انه حب من نوع خاص، يذهب ويسافر بعيدا في فضاءات نائية ثم يعود ليكون حاضرا بينهما.. لكن لكل منهما حياته المستقلة تماما ، انتابه شعور بالبكاء لأنها ليست بمتناول يديه ولن تكون ؟..  لكل منهما ظروفه الخاصة ،لكنهما يجتمعان  ويبتعدان ، يتفقان ويختلفان في نقاشهما ووجهات نظريهما ثم يتقاربان و يلتقيان شيء غريب يجذبهما إلى بعضهما ؟.. شعور أكبر من صداقة وأقل من عشق لأن روحيهما صافية نقيه بعيدة عن حب الجسد ورغبة المراهقة .. وهنا تذكر بل تساءل أين صغيرته صاحبة العيون الساحرة، حبيبته  التي هبطت على قلبه منذ زمن قريب ، فاجتاحت عواطفه بسحر الكلمات وروعة الحضور ودفيء المشاعر المتفجرة المنهمرة كحبات مطر عذبة المذاق ، بصوت أنوثتها يداعب أذنيه، ورقة مشاعرها وبرائه طفولتها وعفويتها المحبة العاشقة ، التي لم يجد بد من مبادلتها عبارات الحب والاشتياق ..ارتعشت فجأة يده اليمنى فقد أحس بسخونة تلسع أصابعه المحتضنة لسيجارته المنتهية بين أصابع يده  دون أن ينفث دخانها ،  فانتفض واستفاق بعد أن ارتد إليه وعيه وتوجه صوب عربته  فقد تأخر على ميعاده مع صديقه حيث دعاه أمس على الغذاء في مطعم على شاطئ البحر، دخل عربته، انتعل حذاؤه بعد تجفيف قدميه  ،أغلق الباب وهم بالمسير ..

نظر إلى المرآة المستطيلة أمامه فأصابته دهشة مما رأى، لم يتعرف على صورته في المرآة  فارتعب للوهلة الأولى ، نعم لم يكن هو ! وإنما كان شخص وديع حالم يعطى للروح حقها ،كان إنسان واسع الخيال متزن العواطف يحافظ عليها حتى لا يفقد حبه الغريب بنوعه المميز، المتربع في جانب قلبه المضيء والنابض حياة  .. ففر كملهوف إلى المرآة المجاورة عن يساره ، وهنا لم يسعفه الحظ أيضا فلم يجد صورته !، فارتبك وأحس باختناق شديد ، لقد أطل عليه من المرآة شخص يلهث وراء ذكرياته التي لطالما بحثت عن الرغبة والشهوة ، ونهم الجسد ولا زالت تبحث عن شيء مفقود تطلبه بعنف شديد وحاجة ماسة ولم تجده في أجساد تنوعت ألوانها وأحجامها ، كانت حرارتها ساخنة نعم ولكنها بلا قلوب دافئة ؟،  فحاجته معها لم تكتمل فظل محروما من حنان خاص ونقص وغياب الروح ..  فانتفض مذعورا يبحث عن ذاته ، وبلمح البصر انتقل إلى المقعد المجاور ينظر في المرآة الجانبية على يمين عربته عله يجد نفسه التائهة ما بين الروح والجسد، ما بين الواقع والخيال، ما بين الحاضر والماضي ،ما بين ظاهره وباطنه ، ما بين سطحيته وأعماقه الدفينة ، كان خائف مرتبك، زائغة عيناه كهارب أو مطارد، كان كمن فقد بصيرته فبدا غير مستقر في مكان أو على حال ..

أمعن النظر.. وقرب أكثر ليرى حقيقة هذا الوجه ، تفرس في معالمه وتقاسيمه أكثر ،في هذه اللحظات تبدل حاله بلمح البصر وكاد أن يطير من فرحته،  لقد وجد نفسه أخيرا نعم هذا هو عائد بشحمه ولحمه وتقاسيم وجهه ، وأخيرا تدخل في اللحظات الأخيرة جانبه الآخر من قلبه فلم يخنه ولم يخذله ولم يتركه وحيدا تائها عبر تقلب الزمن ، ومرور السنين ، وصخب المشاعر، وعصف الأفكار والأشجان ،وفقدان البوصلة .. نعم هذه هي ملامحه الحقيقية ، فهذا هو لباسه المفضل ذات يوم ؟، وهذه هي حاجياته وأغراضه الشخصية كما تركها منذ سنوات مضت.. هذه صورة عشيقته الأولى والأزلية محمولة بحبل مجدول متين من الحرير الأسود،  بشكلها المستطيل ومعدنها النفيس من الذهب ،إنها هي عشيقته التي يضعها على صدره ويعلقها في رقبته.. نعم وهذا شعار محبو بته الثانية وقد نُقشت على لوح نحاسي براق في واجهته الأمامية بشعار رُسم كقلب إنسان ، بداخله خريطة وبندقيتان وقنبلة وفى الجهة الأخرى نُقشت عليه كلمات  القسم والعهد .. اقترب أكثر فرأى محبو بته الثالثة !، لم يتمالك نفسه ابتهاجا حتى انهمرت دموع الفرح غزيرة من عينيه ، إنها لا تزال مدللته الصغيرة  تفيض بسحرها الأخاذ الذي لا يراه إلا ثائر عاشق للأرض والثورة والشهادة المؤجلة بعلم ربها .. فهو ما يزال المتيم  بها إلى اليوم لأنها ذكرياته الجميلة منذ شبابه الأول وحتى رجولته حاليا،  لا سواها تأسر نظره بمفاتنها ونعومتها ورقتها بالرغم من قلبها الملتهب وشفتيها المرسومة كدائرة  التي تقذف حمم من سموم ونار، وصوتها الأجمل في الدنيا بالرغم من جبروته الذي يشبه صوت الرعد حين يدوى .. إنها معشوقته الأبدية التي لن ينزعها من بين ذراعه غير الموت ، إنها السمراء ممشوقة القوام  كأميرة تختال فى أدغال إفريقيا يتدلى منها  زنار أسود و بخزائنها التي تحوى جواهر بلون الذهب اللامع، نعم انه يراها حقيقة ، يلمسها ، يتحسسها ، يحتضنها برأفة وحب وحنان بمقبضها العاجي البرتقالي ، يشتمها  يناجيها كعائد إلى أحضان حبيبته بعد سنوات الهجران ، آه يا حبيبتي كم أحبك لقد هجرتك ودارت بى الأرض ، فرائحتك ليست هي رائحتك المعتادة فهذا لا يروق لي، لقد ابتعدت عنك ردحا من الزمن فسامحيني واغفري لي خطيئتي .. هم بتناولها بكل حنان وعطف واشتياق، فأصابته رعشة ..  وارتد إليه وعيه فأشعل سيجارته وانطلق إلى صديقه مسرعا فقد تأخر على ميعاده ..

وصل المطعم متأخرا ، كان صديقه بانتظاره ممتعضا وقد قطب ما بين حاجبيه من شدة الجوع والانتظار، أما عائد فقد كانت البسمة على شفتيه  تنعكس على صفاء في تقاسيم وجهه وتملكه هدوء واتزان في كلامه وحركاته، فاعتذر لصاحبه وجلس وما يزال يحس بهدوء وسكينة في أعماق نفسه والبسمة لا تفارق محياه .. قضى وقته مستمتعا وبشهية مفتوحة للطعام فقد كان صديقه يعلم جيدا حب عائد للقدرة الغزاوية ، المطهوة بوعاء من الفخار داخل فرن من الحطب بكل مكوناتها الشهية ، وما زاد من روعتها هو منظر وسحر البحر الذي يظهر من خلف الواجهة الزجاجية الكبيرة من ناحية الغرب باتجاه الأزرق الممتد جمالا ورونقا لا ينتهي أبدا ..قضى وقتا من أجمل أوقاته بحديث دار بينهما تنوعت مواضيعه بكل صفاء وود وانسجام ، ثم افترقا على أمل اللقاء ثانية..

وفى طريق عودته أدار الراديو فقد التقطت أنامله اسطوانة ما ، اختارها عن رغبة جامحة واشتياق فريد من نوعه ، كانت أغنيته التي عشقها طوال حياته، تمنحه الدفيء والأمل والإرادة له ولكل الأجيال القادمة .. عندما وصل عائد إلى بيته ،كانت  فيروز ما تزال تغنى للقدس برائعتها زهرة المدائن.!!

إلى اللقاء.