حنين

سامح عودة/ فلسطين

[email protected]

 استيقظَ مبكراً ، وفي عينيهِ نظرةُ حنينٍ وأملٍ ، وشوقٍ لغد قادم ، يحمل بين طياته سعادةً وحباً ، فلم يكن يبالي بما يخَبئُ له بين ثنايا القدر ، عيناه تناجي َضْوءَ الشمسِ الذي اخترقَ زجاجَ نافذةِ غرفتِهِ ، كسهامِ القدر .

كأنه خيلٌ شاردةٌ تجوبُ الأرضَ ، تدهسُ رمالَ الصحراءِ غيرُ مباليةٍ ، لم تحسب حسابَ الزمن ....

ظلَ يرى الحياةَ حق رؤيتها ، بلا زيفٍ او رتوشٍ ملونه ، لم يحاول الهربَ منها أو الانفصالَ عنها ، إلى عالمِ الخيالِ الأبدي ، ظلَّ قلبه معلقاً بحلم راودَهُ طويلاً ...

ترى ، أيُ حلمٍ هذا الذي غزا فكرَهُ واحتلَ قلبَهُ وعقله ؟!

حلم ، بشمسٍ مشرقةٍ ترتسم على حدودِ الوطنِ ، غيرِ خائفةٍ من قطاعِ الطرقِ أو لصوصِ التاريخِ وحتى لصوصِ الجغرافيا ، الذينَ تمرسوا في فنِ تقسيم الخرائط بالألوانِ القاتمةِ .

كبرَ معه الحلمُ ... ترعرعَ في طفولتِه .. نما مع أيامِ شبابهِ ، تغلغلَ في ذاتهِ ، لم تصرفْهُ الدنيا وملاذُّها ، أن يقتحم ممالك أخرى حتى يعيش لحظاتِ ذلك الحلم .

نهضَ كالصقرِ الجارحِ ... إرتدى ملابسَهُ رزمَ حقيبتَهُ ، كأنه مسافرٌ إلى عالمٍ آخر. قَبّلَ يَدََيْ والدَتِهِ ، التي إنسكبَ من مقلتيها سيلٌ من الدمعِ على الفراق .

تلك اللآلئ التي انسكبت على وجنتيها ، أيقظت الحلمَ الذي راوَدَه منذ زمن ، فامتدت يديه الطاهرتين تمسحها برقةٍ وحنانٍ .

بسرعةٍ فاقت الخيالَ ، غادرَ منزلَ الأحبةِ ، كأنما الساعاتُ ساقت جيوشَها إلى الحافةِ التي تريدُ .. إلى مدائنَ جديدٍ مجهولةٍ .

وصل إلى مكان عمله مبكراً...

كان الأسرى الفلسطينيون يخوضون معركتَهم داخلَ السجونِ بأمعائِهم الخاويةِ ، وبعزيمتهم التي لا تلين ...

أعلنوا إضراباًٍ مفتوحاً عن الطعامِ ...

البلادُ تعجُّ غضباً كأنما هي على فوهةِ بركانٍ مشتعلٍ ، المسيراتُ والتظاهرات ، الإطاراتُ الِمشتعلةُ تغلقُ مدخلَ المدينة ِ ، ورصاصُ الغدرِ يهطلُ من السماءِ ، وعلى غيرِ موعدٍ سمعَ استغاثاتِ الصبيةِ الذينَ بدأوا يستنشقون الغاز المدمع ...

يتساقطون على الأرض واحداً تلو الآخر ، كما هي الأسماكُ في الشباكِ ، كان صيداً وفيراً لقطاع الطرقِ ، الذين يغلقونَ الطرقِ ، بآلةِ حربِهمُ المسعورةِ .

سيارات الإسعاف تهرع مسرعة ، لنقل الجرحى والمصابين .

كان يعلمُ أن حَظُّهُ من الدنيا ، إنما يكون على قدرِ حظِ إخوتِهِ الذين يستقبلونَ الرصاصَ بصدورٍ مفتوحةٍ ، كأنهم على موعدٍ مع الموتِ الذي اقتحمَ حجراتِ نومهم .

إرتدى بزتَهُ العسكريةَ ، حملَ بندقيتَهُ ... صاحَ برفاقهِ :

هلموا إلى هناك حيث المواجهات ، فانتم تشاهدون ماذا يحدث نفد الصبر وما عدنا نحتمل هذا الظلم ، الذي يشنقنا بسلاسلِه ، التي تكسرُ الكرامةَ فينا ، وتكسرُ إنسانيتنا .

بدا انتماؤه للوطن أسمى الأشياء ..

لم يفكر بشئ ما .. حتى دموع أمه التي انسكبت على الفراقِ

كان يعزف ألحانَهُ الحزينةَ في أروقَةِ ذاكرتِهِ

وكأن الحلمَ القديمَ قد استيقظ من جديدٍ

ردّدَ هو ومن معه بصوتٍ كسرَ الصمتَ من حولِهمِ

لحنَ الحنينِ الى الوطن ( فدائي .. فدائي .. فدائي .. سأمضي فدائي )

على التلةِ المجاورةِ شاهدوا الجندَ والعسكرَ ، الذين شحذوا أسلحةَ الغدرِ ،

وتفننوا في قتلِ الصبيةِ الذين واجهوا الحديد والنار ، بصدورٍ عاريةٍ عامرةٍ بالإيمان .

لم يدع لليأسِ مكاناً كي يسكنَ في قلبِهِ ولم يترك مجالاً للتساؤلِ عن الماضي والحاضر ، ولا حتى عن غدٍ غامضِ الأسرارِ ، وما مر عليه من أمسٍ مجهولِ المعاني حافلٍ بالأحداثِ والعبر ..

ومره أخرى ، وكأنه لا يشعر بالعالمِ من حوله .. فتح نيرانَ رشاشِهِ الآلي ، نحو الجنود الذين كانوا يطوقون الصبية ، فخرجت " صلياتُ " رصاصِهِ مدويةً تعزفُ لحنِ الانتقامِ الذي إشتهاه طويلاً... ترسمُ الحلمَ الذي راوده منذ زمن .

فأمطرَ الصهاينةَ بوابلٍ من نيرانِهِ ونيرانِ زملائِهِ .. التي انهالت فوقَ رؤوسهم ، وكأنها انفتحت عليهم أبوابُ جهنم ..

جعلتهم يغرقونَ في دمهم العفنِ ، يتدحرجونَ على الأرضِ .. كما تتدحرجُ البهائمُ في المذبحِ ..

لقد كبدوهم ما لم يكن في الحسبان .. فولوا مدبرين .. عبر أجهزتهم اللآسلكيةِ يستغيثون بالدباباتِ والطائراتِ علها تخلصهم من مأزقِهمِ هذا .

وما هي إلا لحظات حتى باغتتهمُ الطائراتُ الغازيةُ ، بأمواجٍ عاتيةٍ من الرصاصِ .. لم تترك مكاناً على ارضِ إلا وطاله رصاصُها الغادرُ .

كانت الرصاصةُ الأولى قد إخترقت جسدَ زميلِه يوسفَ ، الذي لبى نداء الوطن شهيداً ، ... ولم يمهلهم القدرُ كثيراً فرصاص الحقدِ بالمرصاد ، فكانت الرصاصةُ الثانيةُ التي إخترقت صدرَه .. أوقعته على الأرض ... والدم يغمر جسده وملابسه التي اكتست باللون الأحمر ..

لقد صارَ في عالمِ الموتِ المرعبِ .. ليكتب كلماتهِ الأخيرةَ قبلَ الوداعِ

كلماتٍ طالما منّى النفس بها ..

فكانت :

هكذا يكون حنين الوطن

لقد نال ما تمناه ، حلمه الذي راوده منذ زمن طول ، لا شيء له فيه سوى الخلودِ عالياً في حياةٍ غير حياته هنا ، في عالمٍ غيرِ عالمِهِ ..

أصبحت حياته لغزاً لا يُستطاع حلّهُ ، يعجز العقلُ عن تصورِه ، فلا أَحَدَ ينكرُ إرادةَ الموتِ ، التي قد يكونُ فيها عبرةً ودرساً جديداً ،

أما عيناه فأصبحتا ، تتلألآن كما هي اللآلئ بعد صعود الروح إلى بارئها .