ومات "محروس" في "مصيدة السيولة"

ومات "محروس" في "مصيدة السيولة"

د. أنس بن فيصل الحجي

أكاديمي وخبير في شؤون النفط

[email protected]

هدف القصة الخيالية أدناه هو توضيح دور سهولة الحصول على القروض وتوافر السيولة في النمو الاقتصادي، علما أن هذه المشكلة قد توجد أيضا في نظام غير ربوي).

أصرت سلالم على أن يشتري لها زوجها تعسان سيارة جديدة. فأغلب صاحباتها اشترين سيارات جديدة على إثر الانخفاض الكبير في أسعار الفائدة وتسهيل البنوك عمليات الاقتراض بشكل لم يسبق له مثيل. "أعرِف يا عزيزي أنه ليس بإمكانك شراء سيارة إضافية، ولكن تصور أن صديقتي براطم اشترت سيارة لومينا جديدة دون أي فوائد وبدفعات شهرية قدرها 240 دولارا فقط لمدة خمس سنوات. نارين اشترت سيارة رياضية بدفعات شهرية قدرها 350 دولارا ودون أي فوائد, ألا أستحق 300 دولار في الشهر؟".

بعد نحو ربع ساعة سمع تعسان زوجته تتكلم بالهاتف في الغرفة الأخرى "اشتريتم بيتاً، ألف ألف مبروك، ما قصرتم، اشتريتم البيت في الوقت المناسب، أسعار الفائدة منخفضة، والدفعات الشهرية قليلة، خيرا ما عملتم". بعد قليل عادت سلالم إلى الغرفة وتحدثت بصوت عال: "شايف، بيت "محروس"، صاحب مصنع قطع الغيار، اشتروا بيتا جديدا. البيت كبير وحلو، ودفعاته "بتجنن". أنا متأكدة أن صابرين (زوجة محروس) ستشتري أثاثاً جديداً لفرش البيت، ولم لا، فمحال "أبو بلاستيك للخشبيات" عندها عروض تقسيط مغرية". ثم تابعت وهي تبحث عن الجريدة "أنا قرأت اليوم العرض، أعتقد أنه يمكن شراء أي شيء بالتقسيط دون أي دفعات لمدة سنة، ودون أي فوائد"! ثم رفعت الجريدة من الأرض وبدأت تقلب فيها "شوف يا تعسان، هذا الإعلان، هذه غرفة سفرة قيمتها 6500 دولار، بالتقسيط دون أي دفعات في السنة الأولى".

عندما عاد تعسان إلى عمله في اليوم التالي لاحظ أن الوضع في المصنع على غير عادته، ولكنه حاول تجاهل الأمر لأنه ما زال يفكر فيما طلبته زوجته. وفجأة سمع صوت مديره يقول "كما تعلم فإن الاقتصاد تحسن في الفترة الأخيرة والطلبيات على منتجاتنا زادات بشكل كبير، لذلك قررنا فتح المصنع في عطلة نهاية الأسبوع، هل ترغب في العمل ساعات إضافية؟" لم يتردد تعسان على الإطلاق، وهز رأسه موافقاً. ثم ابتسم قائلا لنفسه "الآن أقدر على الدفعات الشهرية لسيارة زوجتي". واستطرد المدير قائلا: "نظرا للزيادة الكبيرة في الطلب على منتجاتنا، ونظرا لانخفاض أسعار الفائدة، قررنا اقتراض ثلاثة ملايين دولار لتوسيع المصنع وشراء آلات جديدة".

ذهب تعسان وزوجته إلى معارض السيارات، وبعد قضاء عدة ساعات، اتفقوا على شراء سيارة عائلية بقسط شهري قدره 330 دولارا، وهنا كانت المفاجأة: عليهم الانتظار ستة أسابيع للحصول على السيارة لأن الطلب على هذا النوع من السيارات كبير، و لا تستطيع مصانع ديترويت أن تفي بهذا الطلب. اقتنع تعسان بما قاله مدير المبيعات لأنه شاهد بأم عينه عشرات العائلات تجول في المعرض للاستفادة من عروض التقسيط الخاصة، كما أنه انتظر فترة طويلة لكي يتمكن من الحديث مع مندوب مبيعات. لم يكن هناك خيار سوى انتظار وصول السيارة بعد ستة أسابيع.

في الطريق إلى البيت لم تستطع سلالم كتم مشاعر الفرح التي غمرتها، وبما أن زوجها لم يلق لها بالاً وهو يقود السيارة، اتصلت بصديقتها صابرين لتخبرها بالحدث السار. لكن صابرين قاطعتها بصوت عال وسيل من الشتائم لأنها "ذهبت لشراء عفش لبيتها الجديد في ذلك المساء، وكلما اختارت شيئا قالوا لها إن عليها الانتظار شهرين على الأقل لأن الطلب كبير جدا، و كثير من الناس يحاول الاستفادة من عرض التقسيط الخاص". وحاولت سلالم تغيير الحديث فأخبرتها أن زوجها سيعمل ساعات إضافية و أنهم سيوسعون المصنع الذي يعمل فيه. على أثر ذلك قالت صابرين إن زوجها محروس وقع عقدا ضخما مع شركة سيارات يابانية انتقلت إلى "أمرستان" أخيرا لإمدادها بقطع الغيار، وأنه سيقترض 20 مليون دولار من البنك لتوسيع المصنع وشراء الآلات اللازمة. ثم أردفت "محروس متفائل أنه سيحصل على القرض بسهولة لأن الشروط السهلة ووضعه الائتماني ممتاز، ويمكنه رهن المصنع والمزرعة لتعزيز وضعه المالي، وسمعته "زي الذهب". لم تفهم "سلالم" ما قالته "صابرين" بالضبط، ولكن فهمت أنه أمر حسن، وعبرت عن سرورها لذلك.

بعد أن دخلوا البيت، جلس تعسان على كرسيه الهزاز، ضغط على الريموت، وبدأ بتقليب قنوات التلفزيون. كان وقت الأخبار، فحاول البحث عن مسلسل، إلا أنه لم يجد ما يعجبه فتوقف عند قناة إخبارية ظهرت فيها مذيعة جميلة بكامل أناقتها، ورمى الريموت على الأرض. أغمض عينيه في محاولة للتخفيف من الإعياء الذي لحق به في ذلك اليوم، متجاهلا خبر موت 250 من عمال مناجم الفحم في الصين بعد انهيار المنجم، ثم فتح عينا واحدة لينظر إلى المذيعة الجميلة وهي تقول: لدينا أخبار سارة. أعلنت حكومة أمرستان اليوم أن النمو الاقتصادي استمر في الارتفاع ليصل إلى 7 في المائة، ما يجعل هذه الفترة هي أطول فترة نمو اقتصادي في تاريخ أمرستان، ثم فتح عينيه الاثنتين عندما قالت إن معدل البطالة انخفض إلى أقل مستوى له تاريخيا وأن هناك عجزا في بعض التخصصات وفي العمالة اليدوية. لم يستطع تعسان إخفاء ابتسامته لأنه فهم الآن لماذا عرض عليه مديره أن يعمل ساعات إضافية. عندها رحبت المذيعة بالدكتور "فهيم الهارفردي" وزير المالية السابق وطلبت منه أن يعلق على الخبر. التطورات الأخيرة في حياة تعسان جعلته يصغي بكل حواسه، رغم أنه ليس له أي اهتمام بالاقتصاد أو السياسة. أكد الدكتور "فهيم" أن انخفاض أسعار الفائدة وسهولة الحصول على قروض زادت السيولة بشكل كبير وزادت إقبال المستهلكين على شراء البيوت، الأمر الذي أنعش صناعة العقار. وبما أن البيوت تريد فرشاً، ومع سهولة الحصول على قروض، انتعشت تجارة الثلاجات والسخانات والأفران والجلايات والمفروشات. كما انتعش الطلب على السيارات. بدأ قلب تعسان يخفق بشدة, فالوزير "فهيم" يتكلم عنه وعن تجربته. بدأ يحس بأن "فهيم" عبقري يجب الاستماع إليه، فمسك الريموت ورفع الصوت ليستمع إلى المزيد. "بما أن المصانع لا تستطيع على المدى القصير أن تفي بهذا الطلب الكبير فإنها تستخدم ما لديها في المخزون، ومع انخفاض المخزون لا بد من زيادة الإنتاج، فتلجأ المصانع إلى العمل ساعات إضافية، وتزداد أجور العمال والموظفين، ما يدعم قوتهم الشرائية. ونظرا لتوافر السيولة الناتجة عن سهولة الحصول على قروض سهلة ورخيصة فإن هذه المصانع تلجأ إلى البنوك للاقتراض لتوسيع عملياتها كي تفي بالطلب المتزايد. هذا التوسع يؤدي إلى نمو الاقتصاد وخلق المزيد من الوظائف".

أيام الشدة

قام المدير بإبلاغ تعسان بأن عمله في عطلة الأسبوع سيتوقف بسبب سوء الوضع الاقتصادي وانخفاض الطلب. كان الخبر مفرحا ومزعجا في الوقت نفسه. فقد تعب من العمل المتواصل كل أيام الأسبوع خلال الشهور الماضية، وهو يحتاج إلى قسط من الراحة، ولكن إذا توقف عن العمل خلال عطلة نهاية الأسبوع، كيف سيدفع أقساط السيارة؟ عاد إلى البيت مهموما، ضغط على الريموت وبدأ يستمع إلى أخبار إفلاس كبار البنوك في أمرستان، بدأ يحس بالخوف، وبدأ قلبه يخفق بشدة، وهنا لاحظ أن خفقات "القلق" تشبه خفقات "الفرح" التي أحس بها في الماضي، على الكرسي نفسه، في الغرفة نفسها، وأمام التلفزيون نفسه، يا إلهي، وأمام المذيعة نفسها، وهاهو الدكتور فهيم يظهر على الشاشة مرة أخرى. وبدأ يستمع، وازداد خفقان قلبه عندما توقع الدكتور أن تقوم المصانع بتسريح آلاف العمال. ذكر ذلك لزوجته باقتضاب، حاولت الاستفسار، لكنه ذهب إلى غرفة النوم وأغلق الباب وراءه بعنف.

كالعادة، لم تجد سلالم أحدا تبوح له بهمها سوى صديقتها صابرين، فاتصلت بها. وكالعادة، ما أن بدأت تشكو لها الوضع الجديد حتى بدأت صابرين بالصراخ والشتم "أولاد الكلب، خربوا مستقبلنا، تصوري أن زوجي لا يستطيع أن يفي بالتزاماته مع الشركة اليابانية، لم يستطع الاقتراض من البنك لتوسيع المصنع وشراء الآلات. الإفلاسات الأخيرة أخافت البنوك، وهم يرفضون إقراض أي شخص، وبأي سعر، رغم أن تاريخ زوجي ناصع البياض. تصوري أنه قدم المصنع والبيت والمزرعة والتوسعة الجديدة رهناً، وجاء بضمان من الشركة اليابانية، وتوسط له أحد أعضاء مجلس الشعب، ومع ذلك رفض البنك إقراضه. أخبروه أن سياسة البنك الحالية هي عدم الإقراض والحفاظ على "الكاش". ما ذنبنا نحن؟ نحن ناس شرفاء، و لدينا الرهن الكافي للقرض، ومع ذلك رفضوا إقراضنا. استمر الحديث بين الاثنتين طويلا، في الوقت الذي استمر فيه الدكتور فهيم يشرح للمذيعة التطورات الأخيرة: عند انتشار حالات الإفلاس تتوقف البنوك عن الإقراض، مهما ارتفعت أسعار الفائدة، الأمر الذي يقلل من السيولة بشكل خطير، فتتوقف خطوط الإنتاج، حتى في الشركات ذات السمعة الحسنة. لهذا فإن على الحكومة أن تتدخل وتضخ سيولة ضخمة لتعزيز الثقة وتحريك عجلة النمو الاقتصادي. قام محروس بجهود جبارة للحصول على السيولة، وقدم مغريات كثيرة للبنوك وبعض أصدقائه الأغنياء، ولكنه عاد إلى بيته في آخر الليل خالي الوفاض. في تلك الليلة مات محروس من جلطة في الدماغ بعد أن وقع في "مصيدة السيولة".