اليوم الثامن
قصة قصيرة
ماجد رشيد العويد *
مع وقع أحذية العابرين إلى شؤونهم من كل صباح، ومع ازدياد الحركة واضطرابها عند مغيب الشمس إذ يخرج الناس من بيوتهم، ومع السكون الليلي... كنت أسمع صوته المجروح بندائه يخرق الهدوء، ويتوجس منه الناس برغم سرورهم الخفي.
كنت أحس بجرحه عميقاً غائراً في نفسه تلك المحطمة، وأكاد ألمسه في ارتخاء عينيه وتهدل شفتيه.
على كتفه الأيسر، كان يحمل حقيبة فارغة، أما جيوب بنطاله، فكانت ممتلئة على الدوام. مظهره يخلو من اللياقة، شعره القليل عبثت به الريح، ولوثه الغبار، ثيابه غاية في الاتساخ، بنطاله من أسفل يرتفع إلى ما فوق الكاحل بقليل، وقميصه المزهر بدا يلمع من شتى الجنبات بفعل الأوساخ، مرتقاً من عدة جهات، وأما حذاؤه فكان في الصيف والشتاء مخرّماً، من النوع الرخيص، مهترئاً، ممزق الأطراف.
وكان، إذ يجلس في الكافتيريا إلى طاولته محتسياً شايه اليومي، لا يرفع رأسه أبداً، وأبداً يحدق في كأسه، وبيده يمسك قلماً ينقر به على سطح الطاولة، وما إن تدق الساعة الثامنة، حتى يجفل ويضطرب، ويُسمَع لاحتكاك كرسيه بالأرض صوت يستفز شعر البدن، وفي هذه اللحظة بالذات يصيح ويستغيث.
هكذا كان يبدو مشهده مساءً، رثّ الثياب، يحمل أثقالاً، ونفساً تنوء بمجهول طوى منه جسده. كنت أراقبه عن قرب، أحاول سبر غوره فلا أنجح، فالصورة المتجلية، المنطبعة في الأذهان، صورة مجنون مفارق.
قلت لمن معي:
ـ لابد وأن وراءه حكاية.
ورد عليّ حمود:
ـ لا حكاية ولا هم يحزنون. إنه مجنون.
ورد عبد اللطيف
ـ والمجنون هو الذي وراءه حكاية.
لم تكن الحوارات والتخمينات التي يدفعنا صمته وضحكه المفاجئ إليها حوارات جادة، ولم نكن نذهب بالتخمينات إلى أبعد من اللحظة نفسها التي نعيشها. على العكس كان بعضنا يرى في حركاته مصدراً للترفيه، وللترويح عن النفس من حر الصيف ورطوبته. إلا أن شيئاً ما ظل يشدني إليه، فكثير من حركاته يأتي بمثلها الآخرون، فإن كان مجنوناً فلابد أننا نحن أيضاً على درجة من الجنون. فعبد اللطيف على سبيل المثال، وقت تحوم من حوله ذبابة، يبدأ بمطاردتها محاولاً الإمساك بها فيعجز وعندها يسب ويشتم، وتنتفخ منه الأوداج ويحمّر الوجه. مرة حامت الذبابة فحاول اصطيادها، وتحيّن اللحظة المناسبة. لم يدر كيف نهض من كرسيه بهدوء شديد. كنا ننظر إليه حابسين أنفاسنا، صامتين كأن على رؤوسنا الطير، بينما هو أفرد يديه وتقدم منها ثم أطبق كفيه وقال بلهجة المنتصر: قتلتها، ولما باعد بينهما لم يجد لها أثراً.
وأقول له:
ـ لقد أتعبتك ابنة الكلب، نعم إنها ذبابة حقيرة ما تلبث أن تعود ويشتد طنينها حول أذنيك.
ويقول لي جاداً:
ـ لئن فعلت لأسحقنها.
كذلك في هذه الكافتيريا وعلى مدار سنين ظل رجل يجلس إلى مائدته، يحلّ الكلمات المتقاطعة هكذا لساعات، ثم ينهض بصمت كما دخل. ومرة تكرر غيابه فسألت النادل عنه فأجابني بصوت مملوء حسرة:
ـ إيه يا أستاذ، الله يرحمه.
ـ واستفسرت متعجباً
ـ مات؟!!
ـ كلنا سنموت
وانطلق يلبي طلبات الزبائن.
***
فجأة قررت اقتحام خلوته عليه. جلست إليه، كانت كفاه مسبلتين على المائدة، أظافره طويلة متسخة. رفع إلي عينيه دون أن يُفاجأ. نظر إلي ثواني معدودة، ثم رفع كأس شايه إلى فمه وأخذ رشفة، أغلق عليها شفتيه، ثم أخذ يتمضمض بها، قبل أن يبلعها، ووضعها ثانية على المائدة، وعاد ينظر إلي وبثقة سألني؟
ـ ماذا تريد؟
أجفلت للوهلة الأولى، ثم تماسكت محاولاً التحدث إليه، قلت له:
ـ أريد أن أتحدث إليك، لقد صعبت علي.
وأجابني محتداً:
ـ ولماذا، هل تجدني مجنوناً؟
ورددت على الفور مدارياً خيبتي
ـ العفو.. العفو، لا أقصد، وإنما أردت..
وقاطعني
ـ ماذا تريد؟
ولما لم يكن لدي ما أتحدث به، وجدتني انسحب.
وفي يوم، وكان الثامن من الشهر، جلست كعادتي في المقهى، وألقيت على الزبائن نظرة متفحصة، ولم أره بينهم. وطال انتظاري ولم أره. ثم فجأة أبصرت من خلال زجاج المقهى تجمهراً غريباً، أرسلت باتجاهه البصر فاحصاً مدققاً، فرأيت الجمع بين ضاحك ومستنكر وحزين. خرجت أستطلع الأمر فإذا بعيني تقعان عليه، وهو ممدد على الأرض يمرغ ثيابه بطينها ويصيح
ـ ...
فرّقت من حوله الناس، وجثوت على ركبتي. رحت أهدئ من روعه، وما لبث بدوره أن استسلم لي. أنهضته عن الأرض وعندما أدرك أني أحاول إدخاله إلى الكافتيريا أفلت يده وانطلق يركض في الشارع الطويل.
حيّرني أمره، إذ بدأت، وعلى حين غرة أقلّب بعض الأفكار، وأربط فيما بينها، واسترجع بعض الصور، محاولاً إعادة النظر إليها، وبعض الحوادث محاولاً إعادة بنائها. وكم دهشت وأنا أكتشف أنه يُستَفزُ ويبكي كلما دقت الساعة الثامنة، والغريب أنه يسأل عن الوقت قبل الثامنة بدقائق، وبشكل عفوي قل نظيره. وبرغم عشرات المرات التي تكرر فيها هذا السؤال إلا أننا لم نفطن إلى شيء مما يدور في ذهني الآن.
بمضيّ الشهور وبمراقبتي لسلوكه تبين لي أنه في الثامن من كل شهر لا يأتي إلى الكافتيريا، بل يبقى في الشوارع، يجوبها بثيابه المقطعة والمتسخة، ويصيح... والصبية من خلفه يصيحون: جاء المجنون، راح المجنون.
بدافع إنساني أخذت أترك الكافتيريا في هذا اليوم من كل شهر، أراقبه وأحميه من عبث الصبية ونفور الكبار. ومن غير أن أسعى إلى كسب وده ورضاه وجدته يطمئن إلي، ويترك رأسه يستقر على صدري، وأنظر إليه فأرى دمعة تنحدر على خده، أنهض به وأسير إلى جانبه قاطعين الزحام إلى حيث الطريق الذاهب إلى الجسر الذي على الفرات، أنشد الهدوء لأوفر له جواً ساكناً طلقاً، عسى نفسه تتحرر من أوشابها.
فجأة وبينما نحن نقطع الجسر، في الهدأة، ومن فوقنا ليل بهيم ساكن قال لي:
ـ أنا لست مجنوناً .. أتصدقني؟
فوجئت به يسألني وفوجئت أكثر بنبرة صوته الدالة على هدوئه وتوازنه. أحسست به في تلك اللحظة يملك عقلاً مناراً، عقلاً ناضجاً لا أثر فيه لعته أو جنون. أنظر إلى ملامح وجهه فأبصر إجهاداً واضحاً ولكن مع توازن في التقاطيع، وحاولت عبثاً أن أقع على تقلص، أو على أي شيء يدل على توتر أو جنون. قلت له:
ـ طبعاً أصدقك، ولكن الأطفال بريئون فلا تغضب منهم.
شعرت ببعض الاضطراب لا أدري سببه وأنا أقول هذه الكلمات. قطع علي شرودي قائلاً:
ـ لا بأس أنا لم أغضب منهم يوماً، بل هم يحمونني لو فكرت في الأمر. ولكن..
ـ ولكن ماذا؟
ـ لا أملك أن أتخلص من حساسيتي تجاه جزء من الزمن يتكرر فوق رأسي فيلهب دماغي. إنه جزء ماكر وخبيث. حرمني من حلاوة الحياة ومنعني من السباحة في سيولتها. جزء ماكر فتك بي ذات أصيل بقتله أمي وزوجتي، ثم انسحب هذا الجزء مع الأيام على كل ما له دلالة على الرقم ثمانية. صدقني لم أكن يوماً مجنوناً، بل صدقني لا أكون عاقلاً كما أنا في الثامن من كل شهر. فهذا الجزء من الوقت مكر بي وأذاقني الويل، ولا أملك أن أرد له الصاع صاعين، لذا تراني أحتج على طريقتي فأخرج إلى الشوارع صائحاً، صارخاً، غاضباً، وأنا بهذه الحالة إنما أرد على عجزي، وأفتت الجُبن في داخلي، وأصعّد من الرغبة بالتحرر من رجال هذا اليوم المشؤوم. قالوا عندما دهموا بيتنا: إنهم جاؤوا لأجلنا، وإنهم لا يريدون شراً بنا. وأما موت أمي وزوجتي فبرروه بالقتل الخطأ أو غير المتعمد أو قل كما قالوا: إنه لابد من دفع الثمن حتى يعيش البقية في أمن وسلام.
كان يتدفق منه الكلام هيناً، ليناً، نفاذاً يجرح البلادة. كنت أحسه مع كل كلمة يفيض حسّاً بالألم ، ووهجاً من نار يذيب ثلج أيامه الغابرة. وينبلج من بين جنباته صبح شفيف غامر بالفرح المستور بما يراه الناس من شروده ولباسه المهترئ وأظافره الطويلة المتسخة، وعندما أسأله عن تلك الدمعة اليتيمة التي ما برحت تنزل على خده، يجيبني بأسى المكلوم: إنها زوجتي وأمي.
لم أعد أشعر بالحاجة إلى سؤاله عن هوية الذين دهموا بيته، فلقد أدركتهم، وحاولت أن أبحث له عن الوسيلة التي يتخلص بها من هاجسهم، وأن يعمل على التأقلم مع هذا اليوم.
قلت له:
ـ يجب أن تتعود على الحياة في هذا اليوم.
ـ صعب، الصحيح أنه يجب حذفه من التاريخ، وأن يبقى مجرد ذكرى باهتة في حياتنا.
كنت أدرك مراميه، وأعيها تماماً، وجميع الذين يجلسون في المقهى يدركون هذا، ولكن كل واحد يتعامل معه بطريقته. تابع يقول:
ـ لا يضر التاريخ أن تحذف من جعبته عدداً من الساعات، لوّثت فيما بعد مصيرنا جميعاً. أنت لا تفهمني، لا يهم، ولكنها الحقيقة. لقد انسحبت هذه الساعات على جزء مهم من تاريخنا، وأضعفت جزءاً مهماً من المكان، وزلزلت حياتنا عليه. كل منا دفع ثمناً، قرباناً لهذا اليوم، لا لشيء إلا ليتنعم بعض من ولد أخيراً ولادة غير شرعية. وهؤلاء ليسوا أصيلين في شيء.
قال هذا وانسحب وتركني وحدي مع هواجسي وأفكاري. كان صحيحاً ما قاله، وإلا فإن حياتنا ستكون رهينة أجواء الكافتيريا التي صنعها هذا اليوم المشؤوم وتحول إليها البلد بكامله، ليظل بعضنا يطارد ذبابة حطت على أرنبة أنفه، وآخر يحل الكلمات المتقاطعة فيأتيه الموت بغتة، وثالث ينظر مدهوشاً إلى صورة علّقت على الجدار ويقدم لها، وهو جالس فروض التلبية والطاعة. ورابع افترض الجنون، واحتمى بسخرية الأطفال من مصيرٍ انتهت إليه أمه وزوجته، وخطر لي أنه لا بد في هذا الأوان من الحلم، والحلم على النفَسِ الطويل.
*أديب سوري