العتّال

السعيد مرابطي/الجزائر

[email protected]

- الفحوص جازمة. فقر الدم مؤكد. هذا الوهن نجم عن سوء تغذية ليس إلا .ألم تدرك بأن صغارك كانوا في أوكد حاجة إلى وجبات سوية؟ >>

ارتطمت نبرة الطبيب المؤنبة بصوتها و هي تجرجر بكرنا خارج المتجر. فصدر دوي هنا في بارودة الصخب و تفجر موقف محدثا برأسي حالة عصيبة مشرعة على المتاهة.  كبرق خاطف تقاطعت عيني و عينه الشامتة عبر نظرة فيها حنق :

  - تريد مني زوجتك أن أحسن من راتبك ، متحججة بتمارض أطفالك . هه.. قل هل أصابها مس ؟..

من قسوة نبتت في الصدور حجرا على حجر ..

كم أنا مفرغ من أي فائدة ترجى! ماذا أساوي في عينكم جميعا ؟ كائن بيولوجي مبعثر الملامح . رقم على وجه دفتر ليس إلا .. يرجى على وجه التحديد إيقاف المعني على ذمة التحقيق. عدا ذلك فمخلوق لا يثير فضول. أقرأ هذا في عين الموثق ، صاحب الاتوبيس ، الصيدلاني و ملاك الدكاكين.

-  هل تعد نفسك في غاب ؟ جرمك أكبر منك . من أنت حتى تتجرأ على الذي يطعمك فتطعن ثقته في الظهر؟

- بل أنا حدوتة وسط الزحام المصاب بالنكوص؛ تكرارها لم يعد عارضا و مع ذلك لا تداولها الألسن .

من غيري تحسبه في غاية الأسى و الأسف حتى يزجر فيلزم السكوت . سأرعف بالطاعة و هل دأبت على غير ذلك مذ وعيت .

أرقت نفسي فتشتها ، شأن من يفتش جيوبه علّ أصابعه تلوذ بآخر قطعة فتتشبث بها حتى لا يحول حائل دون إتمام سفريه نفدت عدتها ، فلم أجد سوى طيبة تقعرت هناك . وقتذاك ، بدا لي الأمر في غاية الوضوح ، تداركت : لذ بالمشيئة لعل في  الملاذ  مردا للأذي . بلا رغبة و بلا خيار سر ...جرّ الحاضر خبثا أسودا كعابث في الوحل . سر و تكتم ،ما أنت سوى هذا الذي في غبش النهار يطل بوجه ممسوخ الملامح، مزقت قسماته شر ممزق. انطفأت آمالك و اندست عنوة في غبن تلك فتوة هدها جور ماكر.

من قسوة نبتت في الصدور حجرا على حجر..

أزم شفتيّ إثر تعـثر، أتحفز لموضع قدم موال بعدما ابتزت الطريق ما تبقى من نعلي..السندال الذي تآكل فتفلطح. هكذا جئت أروم أرصفة ضاجة .. سيول من الخلق باهتة تمشي في شارع الدنيا بلا روح. لم أكن أقتفي أثر أحد. فقط كانت تسلمني ساعات نفيري – بوطأة حملي – إلى مزيد من الوهن و التلاشي . يوخز الملح جرحي ليشتعل التقرح؛ كلما أستل خطوا تيبس للآخر ، بدت على السندال الذي ابتزته طريق بقع تشيع باحمرار نكع. خلفي لا تخلو الممرات من قطرات تتوعد بالإدانة و القصاص . ترسم مسالك خارطة للقمة عيش مغمسة في التأفف و الدم ... ذا قدر المكدودين حين يُزج بهم في رحلة  موبــوءة غالبا ما تنتهي بهم في مستنقع.

لم تعد تهزك واقعة و إن عــظمت، يوم تدرك أن غالبية شوارع المدن لاحقتها اللعـنة ، باغتها اللون نفسه و الرائحة فاستسلمت للذهول.

ظللت أنوء بحملي عبر أرصفة و ساحات ، لا مستأنسا سوى بصوت بحار حزين أسند ظهرا محدودبة لقارب شاخ و لم يمسك عن ونونه بأغنية موريسكية معتقة ...

- صباح العسر يا مدينة آرقـا

تمـور ..

سكرى بجرعات الإفك .

وحشك الزيف يتخطف الأهل

و هم في برك يسبحون..

من قسوة نبتت في الصدور حجرًا على حجر..   

تعبت أردد : رفقا بي أيتها الأرصفة الداهسة  حتى أبلغ عتبات المتجر . كم ذا يلزمني من حجة إثر كل تأخير ، و ذرائعي مردودة لا تعفيني من سخط يتنزل بي لا محالة قبل أن أجمع أنفاسي .

ما أثقل ما أحمل ! ما أ شهى ما أحمل !

هذا الذي احدودبت له الظهر عند قطع كل ممر هو حمل فوق النفس أثقل . من صيره كفاكهة ممنوعة حتى لا يطمع صغاري في الظفر بقطعة منه ؟ إن جدران قلبي كالورق تتهاوى و لا أمل في الخلاص. ما يدريني إن كنت سأتماسك أو أثبت حتى ؟ !

شلك !.. شلك ..!

ليت الرأس المسافرة ترجئ لعبتها قليلا لئلا تدهسني النظرات البغيضة ، حين يسرقني هوى النفس على اثر حركة يد مكتنزة مهووسة بالساطور ، إذ تهوي به على الذبيحة شلك !.. شلك ..! تتقطع الأوصال على وجه المصطبة شلك !.. شلك ..! يخطفني الفضول: ترى هذه الكتف و تلك الفخذ على ذمة من ؟ أهم ثم أتراجع أمام سيد انتصب بربطة عنق تزركش بذلة أنيقة .

ليس زعما أن هذا الانتقاء المغري آيل إليك و بعض من سيحوط من أهل بيتك حول سفرة متخمة الأطباق.

شلك !.. شلك ..!

صوت الساطور يهاجم تجاويف الأذن.لا يخبو نقر يطال الذاكرة ليطفو التململ   والأسى و الغيظ. ارتداداته تجيء من الجبل و في صداها الصراخ و العويل .

اللهجة آمرة : << كفّ عن هرائك ، لست في حاجة إلى تفاصيل حياتك . هيا حدد  لي فقط الساعة التي قدمت فيها إلى اقتراف جنايتك >>.

ليلتها آويت إلى شبه فراش بين ظل أثاث و كومة أجساد لصبية تعرت كمسامير . حين عضّـهم قـرّ كالح ، أضرموا غيظا في غطاء رخيص استحال خرقة في حين عصب الليل  عيون البيت القصديري لتنطفئ الأحلام و تشتعل الكوابيس..

-  حضرتْ إليه بمعية بكرنا. كلمته بشـأني ، ثار في وجهها قاصدا إذلالها، هو هكذا سيئ الخلق للغاية ...

-  لا! لا ! حضرت إليه تستعطفه بشأن حالتنا العصيبة خشية على فلذات الأكباد من الهلاك. فكر في مقايضة دنيئة لم تتم . كـيف لي أن أتجلد أو أن أتروى أمام فاسد طباع؟.. حتى توسطي بأناس أفاضل لم يجد نفعا و لم يجعله يتراجع عن تعنته و إصراره . 

لعـدة أعوام و لا يزال في حدود رفضه على أن يسوي إجراءات حقوقي في التأمينات الاجتماعية.

لا  لا ! .. عليّ أن أبادر بـما تقتضيه الحالة

من قسوة نبتت في الصدور حجرا على حجر..

شرسة هذه الألوان البنفسجية المتراقصة و هي تنبعث من واجهات المحلات تكشف على وجهي للمارة في خبث أسـود . أعمدة الكهرباء المتآمرة تنزح باتجاهي . حيطان البنايات الضخمة أمرها هذه الليلة مريب. أشك في كوني سأنجو منها و هي تتربص بي إلى حين أن تسقط .

إصبع عملاقة تـشـير . تتوعـد . تدين و لا تدان !.. سبابة المدينة تطالب بأن أحني الرأس حتى تمر العاصفة .

الطريق الآن تتخذ شكل الغيظ الجاثم على صدري . لم يعد يرهبني لا هذا الليل الثقيل، ولا قطط الليل و أشباهها المعسكرة من حول أكياس القمامة. تحرشت بي أطراف المدينة ، أنا ابن أطراف الحياة فعبرت الأتربة إلى الإسفلت عبر سندالي الذي ابتزته الطريق و كيس أغبر حوى بضع لوازم . عدة استوجبتها هيبة المقام .. لم تعد المقصبة ذلك المتجر الضخم محكمة الأقفال... في عنوة صار الأمر إليّ و قد تصنع هذه الشاة لأطفالي عرسا غير مسبوق !.. 

هل يحدث أن نتحول إلى لصّ في لمح البصر ؟!

بعد أسبوع ، على مقربة من ميناء المدينة تحلق خلق بملامح موريسكية من حول  بحار أسند ظهرا محدودبة لقارب شاخ ، حيث انخرط يخبرهم بنفسه :

- حين هم القاضي بإنزال مطرقته للإقرار بالحكم ، أعداد من البقر والغنم والماعز اكتسحت فضاء المحكمة . تعالى خوار و ثغاء و صياح بينما تعلقت مطرقة القاضي في الفراغ و لم يسمع لها دوي.

تــمت