جَرسُ المدرسة
مصطفى حمزة
وقُرِعَ الجَرسُ يأمرُه بدخولِ الحِصّة ...
انتشلَه شيطانٌ من الجِنّ لئيمٌ وأحضَره من جِنان الأندلسِ الساحرة .. جرجَرَهُ من ربيعِها ، من أنهارِها وأهوائها وأندائها ، وأفيائها ، وأطيارِها ..
كانتْ وُرَيْقاتٌ خُضرٌ من عنقودِ عِنَبٍ أحمرَ تَدَلّى إلى الأرضِ ؛ تُداعبُ خدّه المُسَلّمَ أمرَه إلى كفِّ التربة البَضّةِ الحنون ..
كانَت رائحةُ الرّياضِ تَعْبِقُ بأنفاسه ؛ فتطيرُ به فوقَ رؤى الشّعرِ ..
وكانت تُداعبُه نسماتٌ مُخمليّةٌ سافرت طويلاً فوق المُوَرّدِ ، والمُوَرّسِ ، والمُمَسَّكِ ، والمُصَنْدَل ..
وكانَت الظلالُ تَلْحَفه ؛ فتردُّ إليهِ قلبَه الطفلَ ، وتُعيدُه إلى مرسمه ، إلى ألوانِهِ وخيالاتِه ..
إنّه يعشقُ الطبيعةَ ويحِنُّ إليها ، وهي تتجلّى له حين يقرأ شعرَ الطبيعة في الأندلس ؛ فيطيرُ إلى عناقيد العنب ، وأوراق الكرمة ، ورطوبة التربة ، وغَرِدٍ ، وظِلٍّ ، وماءٍ وأنسٍ .. هنالكَ يجدُ بعضَ روحه الضائعةِ – منذ سنين - في رمال الصحـراء تحتَ شمسِ الغربة ..
قبل قليل ، قُبيلَ أن يُصميَ صوتُ هذا الآمرِ الناعقِ مَسْمَعَهُ ؛ كانَ يقرأ لابن سهلٍ الإشبيليّ :
- الأرضُ قد لبستْ رداءً أخضرا والطّلُّ يُنثَرُ في رُبـاها جَوْهـرا
- وكأنّ سوسَنَها يُصافحُ وردَها ثغـرٌ يُقبّلُ منــه خـدّاً أحمرا
- والنهرُ ما بينَ الرياضِ تخاله سـيفاً تعلّقَ في نجادٍ أخضــرا
ولابنِ سِفْر المرّينيّ :
- في أرضِ أنْدَلُسٍ تلْتَـذُّ نَعْمـاءُ ولا يُفارقُ القلبَ فيها سَـرّاءُ
- وليسَ في غيرِها بالعَيْشِ مُنْتَفَعٌ ولا تقومُ بحقِّ الأنسِ صَـهْباءُ
- أنْهارُها فضّةٌ والمِسكُ تربتُهـا والخزّ روضتُها والدّرُّ حَصْباءُ
- ولِلْهـواءِ بهـا لُطْفٌ يرِقُّ بـهِ مَنْ لا يَرِقُّ ، وتبدو منه أهْواءُ
يا سالمُ يا بُنيّ ، لِمَ لَمْ تُحضر كتابَ " اللغة العربيّة " ؟!
- نسيتُه ..
وكيفَ تنساه ؛ وأنتَ النجيبُ اللبيبُ ! ؟
- غير مهمّ ..
كيف يا بني يا سالم ؟ ! وفيه النصوص ، وفيه الأنشطة والتطبيقات ؟!
آمل ألا تنسى خيرَ رفيقٍ في الأنامِ مرّةً أخرى ..
أبنائي الأعزّاء :
على شاطئ غزّةَ الأبيّةِ تجري أحداثُ نصّنا اليوم .. فأينَ تقبع هذه اللبؤة من وطننا الحبيب ؟
- في مصر ..
- في ليبيا ..
- في الخليج ..
- دمشق ..
- تركيّا ..
أبنائي ، إجاباتكم ، تجلب الأسى ، وتُقَطّعُ الأحشاء !!
غزّة أيها الأحباب مدينةٌ أبيّة ، طاهرة ، نقيّة ، من فلسطين .
غزّةُ أيّها الأحبابُ اغتصبوا بين يديْ أمِها كلّ أخواتها ، وبقيت هي ، تتشبّث بالطّهر وتشربُ من القهرِ والحرمان ..
هذه غزّة ، فلنر في هذا النصّ ماذا جرى على شاطئها ، صباحَ ذلك اليوم المشؤوم ..
أنصتوا جيّداً وأنا ألقي النصَّ عليكم ، وأرجوكم يا أحبّائي ، حين أنتهي ، أرجوكم أن تُحاكوني في الإلقاء وأن تُحاولوا التفوّقَ عليّ :
بِنْتٌ ، ولِلْبِنْتِ أهْلٌ
ولِلأهْلِ بيتٌ ولِلْبَيْتِ نافِذتانِ وبابْ
وفي البحْرِ بارجةٌ تَتَسلّى بصَيْدِ المُشاةِ
على شاطئِ البحْرِ : أربَعَةٌ ، خَمْسَةٌ ، سبعةٌ
يسقطونَ على الرملِ والبنتُ تنجو قليلاً
لأنّ يداً مِنْ ضَبابْ
يداً ما إلهيّةً أسْعَفَتْها
فَنادَتْ :
- أستاذ .
- ختروش .. ماذا تريد يا ختروش ؟!
- " أسير الحمّام " ..
- لا ، لن تذهب إلى الحمّام .. لقد ذبحتَ موسيقا النصّ يا ختروش ! تعلّمْ أدبَ الاستماع يابنيّ اجلسْ ولا تُقاطعْ بعدَ الآن ..
- يُتابع :
لأنّ يداً مِنْ ضَبابْ
يداً ما إلهيّةً أسْعَفَتْها
فَنادَتْ : أبي
يا أبي قُمْ لِنَرْجَعَ ، فالبَحْرُ ليسَ لأمثالِنا
لَمْ يُجِبْها أبوها المُسَجّى على ظِلِّهِ
في مَهَبِّ الغيابْ
دمٌ في النخيلِ ، دمٌ في السّحابْ
يطيرُ بها الصوتُ أعلى وأبعدَ
مِنْ شاطئِ البحْرِ
تصرخُ في ليلِ برّيّةٍ
- أستاذ ..
- منصور .. ماذا تريد يا منصور ؟!
- أشرب الماء ..
- لا .. لن تشربَ الماءَ ، لقد أزهقتَ روحَ الشعرِ يا منصور ! ألا تصبرُ على العطش ساعة وأنت الشابّ الفتيّ ؟! اجلس يا بنيّ ولا تُقاطعْ ..
- يُتابع :
تصرخُ في ليلِ برّيّةٍ
لا صَدى لِلصّدى
فتصيرُ هيَ الصّرخةَ الأبديّةَ في خَبَرٍ
عاجلٍ لم يعُدْ خبراً عاجِلاً عندما
عادتِ الطّائراتُ لِتَقْصِفَ بيْتاً بنافِذَتَيْنِ وبابْ
- أحسنتم يا أحبائي .. وأشكركم على حُسن الإنصات00 والآن مَن يَودّ أن يُمْتِعَنا بِعَذب إلقائه ؟
.....................
- ما لكم غيرَ متحمّسينَ للإلقاء ! ؟ والإلقاءُ يا أبنائي يُقوّي ثقتكم بأنفسكم، ويُذهب عنكم الخوفَ من مواجهة الآخرين.. حسناً ، أنا سأختار ... قُمْ يا سعيد – أسعدَ اللهُ أيامَكَ – وألقِ علينا المقطعَ الأول هيّا أيّها الجريء الهُمام ..
- بَيْتٌ ، وللبيتِ أهلٍ ..
- بِنتٌ ، ولِلْبِنتِ أهلٌ .. ارفع صوتَك يا سعيد ، وحاولْ أن تستعين بتعابير وجهك ما استطعتَ .
- بِنتٌ ، ولِلْبِنتِ أهلٌ / ولِلأهْلِ بِنْتٌ ولِلْبِنتِ نافِذتانِ وبابْ ..
- ولِلأهْلِ بيتٌ ولِلْبَيْتِ نافِذتانِ وبابْ .. شكراً يا سعيد ، تفضّلْ اجلس ، واقرأ بشكلٍ أجود في المرات القادمة ..
- أكملْ يا راشد .
- لأنّ بدا مِنْ ضَبابْ / بَدا ما إلْهِيّهْ أسْعَفَتْها فنادت ..
- لأنّ يداً مِنْ ضَبابْ / يَداً ما إلهيّةً أسعفتْها فَنادَتْ .. ونحن لمّا نصلْ إلى هنا بعدُ يا راشد ! انتبه ولا تدع ذهنك يشرد يا بنيّ ، لأن شرود الذهن في الصفّ طالما أخّرَ الطالبَ في تحصيله الدّراسيّ ..
والآن – أبنائي– وقبلَ أن نُبحرَ في النصّ أودّ أن نتعرّف معاً إلى مُبدعِه الشاعرِ " محمود درويش " أمامَكم ، في الكتاب ، بطاقةٌ تُعرّف به ، اقرؤوها قراءةً صامتةً ، وسأسألكم عمّا قرأتم بعدَ قليلٍ .
- يا ختروش لا تُكلّمْ " مُصبّح " ..
- القراءة صامتة يا " سيف " فلا تَجْهَرْ بها ..
- دعْ عنكَ " منصور" يا " حَمَد " ليفهمَ ما يقرأ ، لا تُكلّمه ..
- القراءةُ الصامتة يا أبنائي أدْعى إلى الفهْمِ والاستيعاب .. فلْيقرأ كلٌ منكم بعينيه وعقلِه وحَسْب .
..............................................
- توقّفوا عنِ القراءةِ لو سمحتمْ .. مَنْ يُخبرنا عن مولد الشاعر، مكانِه وتاريخه؟ تفضّلْ يا " سيف "
- وُلدَ في " عكّا ".. أستاذ .
- أحسنتَ ، متى ؟
- عام 1941 .
- أحسنتَ ، وبارك الله فيك يا " سيف " أنا أشكرك جزيلَ الشكر . منْ يذكر لنا عناوين بعض دواوين الشاعر ؟
- أوراق الزيتون .
- لا ، لا أستاذ : ابن سينا ، ولينين ، ودرع الثورة الفلسطينية .
- يا " منصور" ، هذه أسماء جوائز حصل عليها الشاعرُ ، وليست عناوينَ لدواوينه .. انتبه لما تقرأ !
- أستاذ ، أستاذ : آخر دواوينه اسمه " معجم البابطين للشعراء العرب المُعاصرين ط1 " ..
- يا " ختروش " يا بنيّ ، أنتَ تقرأ علينا اسمَ المصدر الذي نُقلت عنه بطاقة التعريف بالشاعر! ألا تلاحظ أنّ ما قرأتَ اسمٌ لمعجم ، لا لديوان .. انتبه يا ختروش لِما تقرأ !
- أودّ الآنَ أن أطرحَ عليكم بعضَ الأسئلةِ ، وأرجو أن تتعاونوا في مجموعاتكم لاستخلاص الأجوبة السليمة من استقراء النص المعروض أمامَكم.. السؤالُ الأولُ : أينَ وقعت حادثةُ اعتداءِ البارجةِ الإسرائيليّة على عائلةِ هذه البنت ؟
- في فلسطين أستاذ ..
- أين بالتحديد ؟ لا تُجيبوا بسرعة ، بل فكّروا ، وتأمّلوا النصّ جيّداً ، وتشاوروا ، ولْيُجب واحدٌ من كلّ مجموعة ، لا المجموعة كلّها ..
- أنا أستاذ .
- تفضّل " حمد " .
- في غزّة ، على شاطئ البحر .
- رائع ، أحسنت يا حمد ، وأحسنت مجموعتك ، بارك الله فيكم جميعاً.. السؤال الثاني : كم شخصاً بريئاً قُتلَ فيها ؟ عودوا إلى النصّ و استقرئوا الجواب ..
- عشرة .. أستاذ
- ( أكثر ، أستاذ ، أكثر .. كان علْ بَحرْ مو بْواحِدْ ولاّ اثنين .. كْثير نَفَرات يْروحون البحر ، أنا أغول أكثر عن عشرين نَفَرْ ماتَوْا.. )
- ( أستاذ .. أستاذ ، أنا أغول ثلاثين ، هذه بارجة ، أستاذ ، ( مُبْ بُندغيّة صيد ) ..
- أنا.. أنا .. أنا أستاذ ، أنا جمعتهم من النصّ !
- كيف يا " راشد " ؟! ماذا جمعتَ ؟!
- أستاذ ، أربعة زائد خمسة زائد سبعة ، يستوي المجموع ستة عشر .. صحْ أستاذ ؟
.......................
هنا في هذه اللحظةِ ، وفي الثانيةِ المناسبة ، سَمع رنيناً عَذْباً ، رائعاً ، كأنّه السـحرُ الحلال.. يهبطُ على أذنيه ليُعْلمَه بانتهـاءِ الحصّـة.. وهبطتْ إليهِ معـه " من المكـانِ الأرفعِ " روحُهُ .. ومعها دمُهُ وأعصابُهُ وهَدْأةُ قلبهِ .. فلملمَ كتبَه وأوراقه وجرجرَ قدميه ، وخرج من باب الصفّ ..
في منتصف الطريقِ بين غرفة الصّف وغرفة المدرّسين ، وفي أعلى الجدار، قريباً من السـقف كانَ الجرسُ مُعلّقاً ، وقد سكت لتوّه من آخرِ رنينٍ له ..
وقفَ تحته دقائقَ ، يتأمّله ويُفكّر .. ثم تابع طريقه وهو يتمتمُ باستغراب : " ولكنّه الجرسُ نفسُه " !!