جدائل الألحان والحروف
نسب أديب حسين ـ فلسطين
[email protected]
كان الطقس باردًا بعض الشيء والسحاب يغطي السماء منذرًا بمطرٍ قريب، تتقدم في الشارع تنظر نحو البناية التي إتفقا أن يلتقيا قربها، تبحث عنه، إنه ليس هناك، تنظر الى الخلف، وهو لم يقترب من المكان بعد، تحين منها نظرة الى الساعة، ما زال هناك خمس دقائق حتى يصل، لكن كان يجب عليه أن يأتي قبلها.
تشعر بقطرة ماء على يدها، ثم أخرى على جبينها، رفعت نظرها الى السماء ونظرت حولها يبدو أن المطر سيشرع بالهطول، فتحت مظلتها ووقفت قرب بناية كبيرة تنظر الى اللافتة الكبيرة لمتجر الزهور الذي تقف بقربه وتتعجب لماذا كل هذا الكِبر للافته فالزهور المعروضة للبيع مع لافتة متوسطة تكفي، فالزهور تتكلم لوحدها. المطر يسقط خفيفًا، تنظر الى ساعتها "لماذا لم يأتِ بعد". راحت تسيرُ ببطء على الرصيف وتنظر الى نفسها في واجهات المحال التجارية تارةً وزجاج المركبات المصطفة قرب الرصيف تارة أخرى، تتساءل كيف تبدو؟ هل سيُدهش عندما يرى فستانها الزهري وتسريحة شعرها، ماذا سيفعل؟ هل سيحاول أن يقبلها؟ لا لن تترك له مجالا ليفعل فعليه أن يسع كثيرًا حتى يحصل على القبلة الاولى، نظرت الى الساعة لقد مرت خمس دقائق عن الموعد ولم يصل بعد، ها هما ما زالا في بداية العلاقة وهو يتخلف عن موعده ويتركها تقف وحيدة تحت المطر تنتظره، وحينما قررت أن تذهب راع انتباهها صوت الحان عذبة، راحت تمعن السمع، إنه عزف على آلة البيانو. يبدو أن أحدًا يعزف في البناية التي تقف بقربها، هي ضعيفة جدًا أمام هذه الآلة والألحان الرائعة تشعر بأن كلماتٍ تنطوي خلف كل مقطع، إنها ألحان على النمط الكلاسيكي هل هي لبتهوفن أم لموتسارت أم لباخ.. لا لم تسمعها مسبقًا، ولم تستطع أن تبتعد كأنما الألحان تتسلل بين قطرات المطر فتوشحها رونقًا وترسم لوحة تجذبها نحوها فتمنعها من مفارقة المكان، وتشعر بصفاءٍ غريب كأنما أخذت الى عالم آخر، وفجأة تستفيق من شرودها مع إنهاء المعزوفة بإيقاع مرتفع. تتذكر أمر حبيبها الذي تنتظر، لقد مرت عشرون دقيقة ولم يأتِ، فتسير لتعود على عقيبتها ومختلف الشكوك والظنون تساورها، لماذا يختفي هكذا وكيف يجرؤ أن يدعها تنتظر كل هذا الوقت ولا يأتِ.
تسيرُ والحزن يتسلل الى قلبها، هل يسخر منها لقد جهزت نفسها ووقفت تنتظره تحت الامطار ولم يحضر، تفكر في أن تقطع علاقتها به صحيح أنها تحبه وهو يحبها لكنهما لم يلتقيا سوى مرة واحدة وها هو يتخلف عن اللقاء الثاني الذي عينه بنفسه.
فجأة تسمع صوتًا يناديها، ولم تلتفت الى الخلف لكن النداء يستمر، تستدير فاذ به يركض خلفها ويريد أن يستوقفها، وقفت تنتظره، وصل لاهثًا ليجد السخط في عينيها، قال لها:
ـ إعذريني يا حبيبتي
ـ كلا.. كيف تتركني أنتظرك كل هذا الوقت، هل تسخر مني
ـ مهلا.. مهلا لقد تأخرت لأنني بعد أن أنهيتُ عملي وأردت المغادرة جاء المدير وطلب مني أن أقوم بمهمة اضافية ولم أستطع أن أرفض، أنهيتها بسرعة وخرجت لكن الازدحام المروري أخرني.. أعدك أن هذه آخر مرة
فهدأت وقالت:
ـ حسنًا على أية حال أنا لم أبقَ كل هذه المدة لأجلك .. كنتُ سأغادر من اللحظة الاولى لولا أن لفتت انتباهي معزوفة رائعة على البيانو، وأنت تعلم كم أحب هذه الآلة فلم أستطع أن أتحرك قبل انتهاء المعزوفة
فابتسم وقال:
ـ لا بأس
سارا في الطريق وبعد لحظات رفع كفها الى شفتيه وهمسَ: " إنكِ رائعة "
بعد يومين كان لقائهما الثالث، دخلا مطعمًا وفوجئا بوجود بيانو ضخم فيه، كانت فرحتها كبيرة برؤية البيانو، فقال لها:
ـ ما رأيك أن أعزف لك معزوفة أهديكِ اياها
نظرت اليه مشدوهة:
ـ هل تتقن العزف على هذه الآلة ؟
ـ أجل
ـ ولمن ستكون المقطوعة ؟
ـ لي من تأليفي أنا..
فازدادت دهشتها وعجبها، جلس على المقعد وراح يعزف، في البداية شعرت أن الألحان مألوفة لديها وراحت تحاول التذكر أين ومتى سمعت هذه الألحان وعندما تذكرت صُدمت هل يُعقل أن يكون هو.. هل هو من كان يعزف قبل يومين.
عندما إنتهى من العزف، نهض ليقف قبالتها، لم تستطع أن تتفوه بأي كلمة كانت عيناها تتكلم عن مبلغ دهشتها، قبّل كف يدها وقال:" أجل هذا أنا ، أنا من عزف لكِ قبل يومين وهذه المعزوفة هدية حبي اليكِ.."
* * *
هناك الى الطاولة الصغيرة على ضوء مصباحها تقوم بطي الورقة التي دُونت عليها تلك الكلمات ونهضت لتقف أمام النافذة، ها هو الليل قد حلّ والمطر يهطل. إنها أيام توازي ذاك اليوم الذي كان فيه لقائهما الثاني قبل عامين، وها هو يحاول أن يصيغ اللقاء بقصة وخاطرة لكن أين هو الآن؟ هو يمكث في دولة أخرى لاكمال دراسته الجامعية وهي في مدينة بعيدة عن بلدتها من أجل دراستها أيضًا، اليوم عيد ميلادها وهي وحيدة في غربتها حتى صديقاتها اللواتي يشاطرنها الشقة غير متواجدات، لم يحضر لها أحد كعكة ويحتفل بها، وليس من يجالسها سوى الوحدة.
توقف المطر عن الهطول ارتدت معطفها وخرجت الى الطريق. راحت تتذكر، كان هو يحب الموسيقى ويُتقن التأليف الموسيقي لكن قلما يعزف مقطوعات للموسيقيين، وكانت على نقيضه تبرع في عزف معزوفات غيرها ويصعب عليها انتاج وتأليف الحان بقواها الذاتية، كانت تسأله لماذا لم يتجه لدراسة الموسيقى والأدب، فيقول بأنهما لن يكفياه ويوفرا له حياة مادية مريحة ويقول بأنه يعزف ويكتب ليفجر طاقة مخزونة في داخله وأنه يقتل أحزانه على أوتار آلته، وبعد أن التقاها لم يعد يقتل أحزانه فقط بل أيضًا يبعث الحياة والفرح في نفسه وهو يعزف حبًا لها ويهديها معزوفاته. فتحاول اقناعه الاشتراك بمعهد معين ونشر ألحانه، وتعتبر تخلفه عن ذلك هو أنانية واحتكار لألحانه فيبتسم ويقول لها:" هل تعتقدين يا عزيزتي بأن المجتمع يجلس وينتظر انتاجي بتلهف، سأحتاج حربًا وصراعًا يدوم سنينًا حتى تجدين أحد يستطيع أن يتذكر اسمي فقط.. وهذا بحاجة الى تفرغ وكما ترين أنا لستُ متفرغًا.. ثم هل نسيتي الدواخل على فنوننا، والنوع الذي أقدمه من الموسيقى والادب ليس في نطاق اهتمام الجمهور.." نظرت اليه يومها وقالت كلمات ندمت عليها فيما بعد: "أنت تجعل أحزان وخيبات الماضي تسيطر عليك الى درجة أنك لم تعد تحاول، تتخذ قرارات مسبقة دون أن تنال شرف التجربة، وإن كان ثمة ما لا يرضيك في هذه الدواخل كما تقول فعليك أن تحارب وتمنع لا أن تجلس مكتوف اليدين مغمض العينين، لو فكر الجميع مثلك لما وجدنا في الأجيال الصاعدة كاتبًا أو فنانًا يشق طريقه ويصرخ انا هنا "
شاهدت ضيقًا على وجهه وصمتًا يعتقل لسانه فحاولت أن تخفف من صرامتها لتستطرد:" ربما التحدي الذي أمامنا الان هو أكبر من ذاك الذي كان أمام الكتاب العظام الذين أثبتوا أنفسهم في القرن الماضي مع استقلال الدول العربية اذ كان هناك عدد محدود منهم في كل دولة وبعد ان يصلوا الى مرحلة النشر بفترة قصيرة ينتشر اسمهم في أوساط معينة في مجتمعهم وثم يزداد تطورهم شيئًا فشيئًا ويكون الانفتاح على العالم العربي أسهل مما نواجهه كأقلية في هذه الدولة، خاصة مع تطور أدوات ووسائل النشر وازدياد المنتجين مقابل قلة المتلقين، لكن هذا لا يعني الاستسلام ويجب على صوتك أن يعلو بين الأصوات وتنتصر"
لكنه بقي على صمته، انتابها ندم شديد تلك الليلة على ما تفوهت به وتمنت لو أنها لم تفعل خاصة انه كان سيسافر في اليوم التالي، حاولت أن تتحدث في شتى المواضيع وعن حبها له لكنه بقي معكر المزاج.
هنا تنفث آهة من أعماقها وتستمر في السير في الطريق وحيدة وقلما تمر سيارات أو حافلاتٌ بقربها. في يوم سفره وكان ذلك قبل عام كانت تقف أمامه غير مصدقة أنها ستحتمل أن تعيش عامًا أو اكثر دون ان تراه، يومها قبلها لأول مرة ووضع رسالة في يدها طلب منها ألا تقرأها الا بعد أن يغادر وتواعدا على التواصل والتغلب على الغربة والفراق.. وذهب.
كان من مجمل ما كتب في رسالته تلك:" حبيبتي أنا أكتب وأعزف لأعبر عن لغة قلبي ولا أريد أن أقحم نفسي في مزادات لا نهائية لأعلم الجماهير هذه اللغة وأوثقها، يكفيني ان هناك قلبًا آخر يقرأها ويفهمها، لأنني أكتب وأعزف له فلا يهمني أن يسمع أو يقرأ الاخرون، لكن بما انك لا تريدين احتكار الهدية فسأفكر في كلامكِ".
عندما قرأت يومها تلك الكلمات لم تستطع أن تحدد لنفسها بما تشعر، شعرت أنها كسبت شيئًا ما لكنها فقدت آخر.
استمرا بالتراسل والتحادث عبر برامج المحادثة على الانترنت وحاول كل منهما أن يدرك ما ألمّ بالآخر من التغييرات، في احدى المرات وقعت في مشكلة كبيرة ودبّ اليأس في أوصالها، وبعد أن أخبرته بذلك ، أرسل اليها بخاطرة بعنوان "تعبثين"
( تعبثين يا حلوتي تعبثين، وبلهيب النار تلعبين، حينما الخيال على دنياك يطغي ويقيم، تعبثين عندما بين بقع السواد تتراكضين ظنك تزدادين ابتعادًا عنها الى النور، فاذ بك تهوين الى الجحيم.
وعندما عند النافذة تمكثين منتظرة أن تقرع الزجاج يدٌ تنشلك من الخطب العظيم، تعبثين، فاليد من جثث الاحلام تنسجين، والفُلكُ لا يقف حيثما ألقيتِ المرساة كيفما تصطفين. )
عندما قرأت كلماته استغربت وشعرت انه تغير كثيرًا فبعد انطلاقته من أبواب الحزن والخيبة ها هو يتكلم عن الأمل والكفاح والتحدي.
تسيرُ وتسارع الى شقتها وتخاطب نفسها "لا بد أنه تغير كثيرًا وفعلت الغربة فعلتها به فها أنا في الدولة ذاتها وأشعر بالغربة والوحدة وبأنني تغيرتُ كثيرًا فما بالي به وهو مقيم في دولة أخرى ".
دخلت البناية وسمعت صوت خطوات أحد في مطلع الدرج، توجهت الى شقتها لتفاجأ بزهرةٍ جورية حمراء وقربها علبة ملفوفة بورق زينة، نزعت الورقة لتجد اسطوانة موسيقية بعنوان (جدائل الألحان والحروف) ويليها اسم حبيبها ثم اهداء "الى التي فجرت النغمة والكلمة من دواخلي الى حبيبتي نسيم" وفي داخل العلبة وجدت دفترًا مرفقًا مع الاسطوانة بحيث تحمل كل معزوفة قصيدة او خاطرة توجه المستمع الى فكرة المعزوفة.
ووسط دهشتها مما ترى، سمعت صوت خطواتٍ خلفها لكنها لم تستطع أن تستدر اذ سرعان ما شدتها ذراعٌ وهمس صوت دافئ في أذنها: "كل عام وأنتِ بخير حبيبتي.."