رغبة ملحة
أحمد ناصر نور الدين
[email protected]
في كآبة وسأم أمضيت ليلة رأس السنة الجديدة! ومن محبسي خلف ماكينة المحاسبة شاهدت
العالم في الخارج يموج ويضج بفرحة طارئة منتظرة.. رأيت الناس في رواحهم وغدوهم،
يصطنعون الفرح أو أنهم حقا فرحين.. في الخارج كانت بهجة عميمة وفي داخل المحل كنت
ومعي زميلي، يعمل على الشواية وفي فرص الفراغ يقتعد كرسيه قرب براد المرطبات.
تأملته في مجلسه ذات لحظة في غفلة منه، ونقل إليي تكوينه البدين انطباعا بالبلادة،
رغبت بأن أسائله:" ألا تشعر بالغيظ من واقعك التعيس؟" بيد أنني قررت ألا أفعل، ومع
ذلك لم أملك أن تخيلته يجيبني ببرود:" أحمد الله على كل حال"
لكم يصيبني بالحنق بلامبالاته، وكأن عقله مبرمج على الإنصياع والرضى مهما كانت
الظروف المحيطة به.. ولكن لمه أحنق عليه، فها أنا ذا، خير مثال على الإستكانة
والقبول بالأمر الواقع، رغم أمواج الغضب التي تجتاح داخلي طوال الوقت، فهي عديمة
الفائدة ولا تساهم إلا في إحراقي من الداخل، وليس بمإمكاني إلا الإبتسام في وجه
الزبون حين يقترب مني لدفع ثمن مشترياته، أبتسم له وأحاول أن أكون لبقا ومهذبا قدر
المستطاع، أبدي له الإحترام اللامتناهي، كما لو كنت عبدا له. إما ذلك وإما أن يتم
الإستغناء عني ورميي في الشارع وأخسر المورد الوحيد الذي أعيش منه. واقع مذر يبعث
على الإشفاق بل على القرف أيضا، ولكن ما باليد حيلة.
في مواجهتي تماما يقع باب المحل. وكان الشارع في هذه الساعة يصطخب بضجيج وحركة ما
قبل منتصف الليل. السيارات تمر بسرعة الضوء، والمشاة أغلبهم من الشبان والمراهقين.
تأملت في لحظة زمرة من الشباب والصبايا يقطعون الرصيف بخطى متزاحمة، غارقين في حديث
فرح تتطاير منه حيوية الشباب.. فسرت في نفسي نسمة من الحسرة، وعادت بي ذاكرتي بصورة
خاطفة الى أيام شبابي الأول، وراعني الفارق الهائل بين أحلام تلك الأيام وبين
حاضري. كنت أحلم بأن أمسك حسابات شركة ضخمة، وكنت أمني نفسي بالثروة والمكانة
الرفيعة.. غير أن الواقع الذي انتهيت إليه لا ينفك يبث في عيني نتفا من صور الأمس،
فأشعر أحيانا بأنني ملاح يجوب أنحاء سماء ملبدة بغيوم سوداء كثيفة هي بحره، بين حين
وحين، وعلى الدوام، ينشق الغمام بغتة عن ألوان من البرق الخاطف للأبصار، ترافقه
شحنات من الطاقة الصادمة المزلزلة للأعصاب، وتمضي رحلة الملاح خوفا ونكدا خالصين
يدومان أبدا، إذ لا تصفى حتى أوقات الصفاء نفسها من خوف الترقب وألم الذكرى.
والحق أنني مللت التذكر والتحسر على الماضي وأحلامي السرابية، إلا أن الأحلام نفسها
لا ترضي أن تتركني، أن تغادر عقلي المسكون بها، فتكمن فيه ردحا يطول أو يقصر،
وأفاجأ بها تعود في لحظة بشكل صادم، مفاجأ، مثير لكل ألم. ولا أعد أملك القدرة على
كبح جماح النفس، فأستسلم لنار الحسرة وأغوص في أعماق سحيقة من الندم والحرقة.
هؤلاء العابرين على باب المحل، حيث أقبر أشباح آمالي القديمة كل يوم، وكل ليلة،
يمضون في إيقاع سرمدي عجائبي، غير واعين بما يمرون به، غير ملتفتين لمقبرة هزيلة
تتزين بنار ووتتعطر برائحة شواء. ولا يغريهم ذاك الحانوتي بنظرة ولو خاطفة، ذاك
الحانوتي الذي يدفن أجزاء من نفسه كل يوم، يدفنها ويقبض بفرح طفولي ثمنا بخسا لها.
الحياة التي أعيشها ليس فيها أي منافذ أمرق منها، قد استحكم فيها نظام رتيب لا
يتغير ولا يتبدل، فلا حركة سوى حركة دوام الوظيفة والساعات التي يحددها لي مدير
المطعم.
ويتحدثون عن برامج لتطوير الذات، يشرحون عبر شاشات التلفزة، يستفيضون في الوعظ،
ولكنني أبتسم وأسأل ذاتي أين أنت يا ذات كي أعمل على تطويرك، فلا أسمع جوابا على
سؤالي، ويخيل لي بأن ذاتي شبح شفاف يحوم حول زجاج الشواية في المطعم ولا يغادره حين
أفعل أنا عند انتهاء الدوام، بل يبقى هناك، وحيدا في ساعات الليل المظلمة..
لماذا؟ لعله حارس لمقبرة الأحلام تلك..
مقبرة هزيلة تتزين بنار ووتتعطر برائحة شواء..
وروائح الأفراح في الخارج تعم الأماكن، تملأ الأنوف، وأنفي لا تسكنه سوى رائحة
الشواء، أواه... إنها مثيرة للألم!
الكل يغرقون في بحر هائج من المباهج الصاخبة.. الألعاب النارية تنير، تسطع، وتفرقع
في السماء، ولا يصلني منها سوى أصداء لفرحة يعيشها أناس غريبون عني كل الغربة، فلا
يجمعني بهم همٌ ولا حلم ولا ابتسام..
لماذا كل تلك الإحتفالات بحق الجحيم؟!
لعل السبب هو انقضاء عام كامل، أو قدوم عام جديد، لست أميز بين الحالتين.. وقد لا
يكون هناك فرق بينهما.. بيد أني أحس شعورا غامضا، قويا، يصطخب في صدري كالموج
الهائج.. ويزداد اصطخابا مع كل ثانية تمر. لعله التوق الى الحرية، أو الى الثورة،
وهل أقدر أن أثور؟!
الثورة! ما أحوجني إليها وما أعجزني عن تحقيقها!
وبرقت في عقلي فكرة خاطفة.
فجأة قلت لزميلي:
- هل تسدي إلي خدمة؟
فحرك رأسه ببطئ ونظر نحوي ثم قال:
- ماذا؟
فقلت:
- هل تستطيع أن تأخذ مكاني لبعض الوقت؟ أقصد هل يمكنك أن تبقى بمفردك ريثما أذهب
وأعود؟
- إلى أين؟
فقلت له:
- هناك أمر ضروري جدا لا بد من تسويته.
- في هذه الليلة؟ وهذا الوقت بالتحديد؟
قبل أن أرد عليه كان في ذهني ثلاثة صور تتزاحم وتتمازج، وواحدة منها نجحت في تلك
اللحظة في فرض نفسها تماما، فشعرت برعشة غريبة وبتوق ملح للخروج من هذه المقبرة في
أقرب لحظة ممكنة.
لذا فقد خلعت المريول والطاقية، غادرت مكاني وتوجهت نحو الباب، ثم قلت لزميلي
بسرعة:
- سأقدر لك الجميل، وأرده لك في أقرب فرصة..
وخطوت متجاوزا عتبة الباب، انطلقت مسرعا إلى خارج المحل ويدي تتحسس جيب بنطلوني حيث
مفاتيح السيارة وعلبة السجائر...