حكاية سقطت سهوا من ألف ليلة وليلة
حكاية سقطت سهوا
من ألف ليلة وليلة
قالت شهرزاد:
بلغني أيها الملك السعيد ذو العقل الرشيد والرأي السديد:
أن الملك الهمام بعد أن وطـّد سلطته, و ثبـّت أركانها, وقضى على من يعتقد أنهم أعداءه الداخليين, ولم يكن ينقصه قادة محاربون, ولا جنود أشداء, ولا خراج يجبيه, ولا طاعة عمياء من خدم و حشم, ولا شعراء مادحون, ولا بطانة من المتزّلفين والمداهنين والمتملّقين, ولا صروح تخلب اللبّ, ولا حياة مترفة منعّمة يسيل لها اللعاب!.
لاحظ الملك الهمام أن أحوال الدولة راكدة وأن انتصاراته المتحققة سرعان ما خبا بريقها, ولم يسجل التاريخ فتوحات جديدة له, وقد صنع الأعوان سدّا فولاذيا بينه وبين رعيته.
بات الملك الهمام يشعر بقلق ينغـّص عليه حياته, فلم يهنأ بنوم عميق, ولم يلذّ بلقمة يطعمها, وأصبح متوترا, يكثر من القرارات والأوامر الخاطئة التي يصدرها, يتحدّث ولكن كلامه غير مترابط الأجزاء, كان يرى السخرية والازدراء في العيون والشفاه و الملامح, لا يخفيها ادعاء الإصغاء والثناء والكذب عليه, حين يوهمونه أن أعمدة الحكمة السبعة تسيل من شدقيه.
قال شهريار منفعلا بالسرد الجميل لزوجته: " وماذا بعد يا شهرزاد؟"
تابعت شهرزاد:
" كان رأس الملك الهمام بين يدي مزيّنه الخاص, حين لاحظ هذا قلق ملكه, حتى أنه كلم نفسه, وتمتم بكلام غير مفهوم, فأشفق عليه, واحتبس الكلام في حلق المزيّن طويلا, قبل أن يقول: " ماذا يشغل بالك أيها الملك العظيم؟"
قال الملك للمزيّن:
-: " قل لي أيها المزيّن هل تنقصني قوة".
-: " حاشا يا مولاي".
-: " هل ينقصني مال؟".
-: " حاشا يا مولاي".
-: " هل ينقصني جاه أو هيبة؟".
-: " حاشا يا مولاي".
ـ: " لماذا أشعر بالأمور تسير إلى الخلف, وأن أحوال الدولة والناس ليست على ما يرام؟"
-: " إرضاء الناس غاية لا تدرك يا مولاي ".
-: " أصدقني أيها المزيّن ".
-: " هل ستمنحني الأمان يا مولاي".
-: " لك الأمان أيها المزيّن".
-: " لا ينقصك الكثير من العدة والعتاد والأعوان, ولكن ينقصك القليل من الرجال الحكماء".
-: " وماذا أفعل بالحكماء".
-: " القوة أولا لتثبيت الحكم, والحكمة, والسياسة, و العدل وشيمة الرحمة والعفو عند المقدرة بعد ذلك, أما قال الحكماء سالفا العدل أساس الملك, الحكماء هم الصمغ الذي يلحم بين أجزاء المجتمع, فلا تلزم القوة حيث تعمل الفكرة ولا سكين الجزار حيث يعمل مبضع الجراح. لكنك أقصيتهم عن مجلسك ففقدت المشورة".
قال شهريار منفعلا مرة أخرى: "وماذا بعد يا شهرزاد؟"
تابعت شهرزاد:
"صاح الملك بوزير البلاط:
-: " احضر لي المزيد من الحكماء أيها الوزير".
قال الوزير:
-: " أين أجدهم يا مولاي؟".
قال الملك:
-: " أليس في بلادي حكيما واحدا؟".
-: " مولاي هؤلاء هرب أغلبهم, ومن بقي منهم أهلكناه في السجون".
صاح الملك مبهوتا:
-: " لماذا؟".
-: "يا مولاي كل هؤلاء حاقدون مستاءون, يتحدثون عن الطغيان والتسلّط والفساد الذي يمارسه كل من الحاشية و الأعوان وأفراد العائلة المالكة؟".
-: " وهل قتلتم هؤلاء بلا رحمة؟".
-: " لقد تذكرت يا مولاي, بقي واحد منهم في الرمق الأخير في السجن قد نلحقه قبل أن يموت".
-: " هاته إلي, أو انتظر, سوف أمضي إليه بنفسي ".
قال شهريار منفعلا للمرة الثالثة: "وماذا بعد يا شهرزاد؟"
تابعت شهرزاد:
فتحت أبواب السجن الكبير أمام الملك, كان صرير الأبواب والأقفال يلقي الرعب في النفوس, لكن الأكثر مأساوية هو صياح المساجين:
- مظلوم يا مولاي!
- وشاية كاذبة يا مولاي
- تهمة باطلة يا مولاي
- أذلني السفلة يا مولاي
صعق الملك لمثل هذه المشاهد, وقال على مسمع الجميع: " سوف أعود إليكم وأسمع مظالمكم ". مضى نحو زنزانة الحكيم الأخير وفي ذهنه مشاريع كثيرة للحدّ من الطغيان والفساد ومشاركة الناس في القرارات التي تنظم شئون دنياهم.
قال شهريار منفعلا: " وهل فعل؟".
قالت شهرزاد: " عندما فتح الملك باب الزنزانة وجد الحكيم الأخير قد فارق الحياة. فيما كان أعداء المملكة يتوغلون و يقضمون المناطق والتخوم, وكان الوقت أمام الملك قصيرا".
قال شهريار وقد بانت ملامح الشفق: "وماذا بعد؟".
صاح الديك
عندئذ أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.