مختصر ثلاثية

مختصر ثلاثية

محمود رفعت

[email protected]

تصدير

قال أحدهم لأندريه بريتون عن إحدى القصائد : " لقد كان الشاعر يريد أن يقول كذا "

فقال له بريتون: " معذرة يا سيدي ، لو كان الشاعر يريد أن يقول هذا لقاله"

المختصر

في مدينة فارسكورـ إحدى مدن محافظة دمياط ـ وقف فتى لم يجاوز الثالثة عشر من عمره يطرق أحد الأبواب بشدة ـ كعادته في طرق هذا الباب ـ حتى رأى الباب يفتح ومن ورائه امرأة في عقدها الرابع ، يظن من يراها من غير معارفها أنها قد تجاوزت الستين بسنين ، فلم تعاتبه في شيء ، فلقد ملّت تحذيرَه وهو دائم التعجل لا يستجيب ، على أنها كانت مغيظة محنقة من هذه الطريقة فقالت مغمغمة:

ـ وكأن لا عمل لنا سوى فتح الأبواب ، فنحن نقف خلفها ليل نهار

أما هو فلم يهتم لما قالت أمه فدخل وكأن لا شيء يحدث ، ولكنه لاحظ وجود حذائي أخيه الكبيرهمام

ـ أيكون قد عاد من سفره ؟ رحماك يالطيف!( في نفسه)

ولكن مازال الأمل كبيرا في صدره فسأل أمه:

ـ هل عاد أخي همام من القاهرة ؟

ـ أجل ، عاد مذ ساعة ونصف

فلامَ نفسه

ـ وكيف يسافر إلى القاهرة بدون حذاء ؟!

ثم عاد يسأل :

ـ هل هو نائم الآن ؟

ـ لا ، لم ينم بعد

ـ رحماك يالطيف !

لم يبق في صدر الفتى غير أمل قليل . ثم جاءه صوت همام :

ـ أنا هنا يا سالم

وكان مصدر الصوت غرفة أخيه فاتجه إليها متوجسا يترقب ، وكان كلما خطا خطوة قلّ أمله حتى لكأن بعض الأمل يتساقط من صدره مع كل خطوة يخطوها ، فلما دخل عليه ووجده جالسا أمام الحاسب تبدو عليه علامات الانتباه ، علم أن لا أمل له في اللعب الآن ، وقد لا يلعب اليوم إلا قليلا ، وبدت عليه علامات الغيظ.

ـ مابك ياسالم ؟

ـ لا شيء لا شيء ، ولكن ألا تلاحظ أنك لم تغب طويلا ؟ فيم كان سفرك إذا ؟

ـ أهذا ما يغيظك؟

ـ ولم يغيظني؟

ـ وما سبب هذا الغيظ إذا؟

ـ لاشيء ، فقط تذكرت أغنية لعبد الحليم تقول كلماتها : "خد أملي وراح راح راح..."

فضحكا قليلا ثم عاد همام إلى صمته وكذلك صمت سالم .

لم يطل الصمت ، حيث قطعه سالم بقوله:

ـ ماذا فعلتَ اليوم؟

ـ لا شيء ، ملأتُ طلب التقدم للوظيفة وقدمتُ أوراقي لهم وعدتُ

ـ لا أعرف لماذا تهوى تعذيب نفسك وتعذيبنا معك ، لماذا لا تبحث لك عن عمل هنا أو حتى في دِمياط ؟

ـ إن العمل في القاهرة أكثر وأفضل والأصل أن نسعى للارتقاء

ـ يبدو أن ليس هذا هو هدفك كما تدعي ، أو قد لا يكون الوحيد

ـ أفصحْ

ـ كنتُ أجلس مذ بعض الوقت في دكاننا مع عمك سالم السيد وعمك طاهر ، صاحبي أبيك، ولم يكن أبوك حاضرا ، فقال عمك طاهر:

ـ أين أخوك همام ؟ ما بالُه لم يعد يظهر ؟ فلم أره منذ عامين أو أكثر أمازال يفضل الجلوس في الدار وحيدا كالنساء؟! قل له أن يخرج ولو قليلا قبل أن ينسى الناس وأشكالهم ولِيُرَفِّهَ عن نفسه فلم يزل في رَيعان شبابه

ـ سأخبره بإذن الله بعد أن يعود من القاهرة

ـ القاهرة ؟ ولماذا يذهب إلى القاهرة هذه الأيام ؟

ـ علم أن ثمة شركة هناك تطلب موظفين فذهب يقدم فيها أوراقه

فقال سالم لطاهر:

ـ تالله إن أراد إلا الهروب من أبيه والبعد عنه

ـ إي وربي ، فلطالما قسا عليه أبوه وعامله معاملة سيئة ، ولم يكن يأبه لحضور الناس وسماعهم أو عدمهما ، رغم أنه شاب مهذب صالح

ـ إي والله ولم يكن سيئا قط ، "ولكن يعطي الحلق لمن لا آذان لها"

ـ أخي بالفعل ألا تريد غير البعد عنا ؟ أأصبحت تكره الحياة معنا

ـ لا يا رجل ، لا تقل هذا، أنا لا أكره الحياة معكم ، فحياتي وسط أسرتي أفضل بكثير من حياتي مغتربا وسط أناس لا أعرفهم .

ـ ولكن أباك بالفعل قاسي

ـ ولد ! لا تقل هذا

فغاظ سالما هذا الزجر وصمت محنقا ، أما همام فعاد لما كان فيه ، أو هذا ما بدا عليه ، فلقد نكأت كلمات أخيه قروحا كادت تندمل أو هذ ماظنه بها وإذا شئت فقل هذا ما يحمل نفسه على الاقتناع به .

انفجرت في نفس الشاب الآلام وتعددت منابعها وانشغل عن الدنيا وما فيها ، وبينا هو كذلك إذا به يتذكر دون أن يعرف لذلك سببا قول الحساني حسن عبد الله في توديع أبيه:

أبي عفوا ، أنا لم أبك عفوا؛ لأنك كنت جبارا عتيا

سهوتَ ، سها جبينك في أساه، فما انتبهت سنوه إلى سنيا

مضيتَ ، ولم تطـ.........

ـ أتراه يقول مثل هذا حينما يكبر؟!

يعرف الشاب أن معظم مشاكل بني آدم لا تكون إلا من داخلهم هم ، فلو وثق المحارب بالله وعرف أنه ـ سبحانه وتعالى ! ـ هو الناصر لما أصابه الهم الذي جره هو على نفسه ، فهو الذي يقدر البلاء قبل وقوعه ، فيقضي وقته في انتظارٍ أصعب على النفس من البلاء ، ولعل هذا ما دفع المصري إلى أن يقول " وقوع البلاء ولا انتظاره " فهو لم يفرق بين الابتلاءات فأي ابتلاء أيا ما كان هو أهون على النفس من انتظاره ؛ لذلك لم يرد الشاب للفتى أن يظن بأبيه سوءا فيخلق لنفسه هما ومعاناة في إمكانه تجاوزهما .

ـ سالم ... سالم

ـ نعم

ـ تعال

ـ ماذا كنتَ تفعل؟

ـ كنتُ أشاهد التلفاز

ـ أوَمهم هذا الذي تشاهد؟

ـ لا ، إطلاقا

ـ إذا اذهب وأغلق التلفاز وإيتني أحدثك في أمر مهم

لم يتأخر سالم بل أتى أخاه يجري وجلس يستمع إليه باهتمام

فأنشأ همام يقول:

ـ أبوك ليس قاسيا كما قد يبدو أحيانا لمن لا يعرفه جيدا ، وإن كان يقسو على من حوله أحيانا، فلو قال قائل أن قد نُزعت من قلب هذا الرجل الرحمة لما استطعنا أن نقول بكذبه، ولو قال آخر أن قد امتلأ قلب هذا الرجل رحمة وحنانا لما استطعنا إلا التصفيق له ولقوة حدسه .

ـ الله الله

ـ ولد ! أنا لا أمزح . فاسمع وافهم ولا ترهقني معك فهي الحقيقة ، فلقد منّ الله على أبيك بأم حنون رؤوم سقته الحنان وعودته الحب حينما كان طفلا صغيرا ، ولكنها الدنيا ترفض ـ ومازالت ـ أن تترك أيًا من أبناء آدم دون أن تفجعه فيمن يحب وفيما يحب ، وكأنها قد كرهت من أبيهم ندمه على عودته إليها وحبه العودة إلى ما كان فيه من نعيم ، فثارت غيرتها ، وآلت على نفسها ألا تتركه هو أو أيا من بنيه دون أن تفجعه في كل ما يحب ، فإما أن يرجع إليها خاضعا يطلب عفوها فتعطه كل ما يريد ، وإما أن يطلب ضرتها ، وساعتها لن يجد منها غير الحرب ، فتحاصره بكل مفاتنها ، فإما أن يقر لها بالجمال ويستسلم لإغراءاتها ويرتمي في أحضانها خاضعا مستسلما معترفا لها بكل جمال مخطِّئا لكل من اتخذ طريقا أخرى محاربا له في صفوفها ـ وإما أن ترميه بكل مصيبة وتجلده بكل سوط ولن تتركه ليهنأ بشيء أبدا إلى أن يرحمه الله بالموت ، وساعتها يزداد حنقها على هذا " الوضيع " الذي أهانها وأهان جمالها وأهان عبقريتها ومات قبل أن تهزمه كما هزمها ، ولكن إن كانت رُوحه قد صعدت إلى بارئها فمازال جسده على الأرض ، فهي تسلط عليه أقل أهلها شأنا ليقضوا على ما تبقى منه ؛ لتقنع نفسها أن الغلبة في هذه المعركة لها هي ، وأن الكلمة الأخيرة فيها كلمتها ، وذلك طالما أن الساعة لم تقم بعد ، ولكن يأبى الله ذلك ؛ فيحرم على الأرض أكل أجساد الأنبياء ، فيظل شعورها بالهزمة قائما في نفسها يزيد نار حقدها وغيظها اشتعالا ، ويزيد المسلمين ثقة بخالقهم وحبا له وإيمانا على إيمانهم ، فليس موت الجندي في المعركة كموت القائد .

أجل ، منّ الله على أبيك بأم حنون رؤوم ولكن الدنيا شغلتها عنه أولًا ، ثم عادت واختطفته منها قبل أن تنتهي مرحلة طفولته ، ورمت به في قلب المآسي الإنسانية وبين أبنائها الذين لايعرفون رحمة أو حنانا ، وقالت له : ها أنا أمك وهؤلاء إخوتك ، فإن أردت الحياة بيننا فليس أمامك إلا الخضوع لنا والتعلم منا .

وكانت كاذبة في ادعائها ، فأيّ أمومة تلك التي تدفع الأم إلى أن تعامل ابنها بهذه القسوة ؟!

لم ترحمه هذه الأم الجديدة ولم يكن في مقدوره إلا الخضوع لها ، فماذا يفعل غرّ صغير قالت له إحداهن أنا أمك الحقيقية وصمتت الأخرى صمت الموافِقة ؟!

لم يكن صمت جدتك عن موافَقة ، ولم تكن لتتخلى عن ابنها ، ولكن ماذا تفعل المسكينة وقد خدعتها الدنيا وأظهرت لها عكس ما تبطن ؟ لم ترتح جدتك لهذا الظاهر قط ، ولكن تأتي أوقات على النفس الإنسانية يكون قد أنهكها النضال فتقنع نفسها بالخديعة وهي تعلم علم اليقين أنها الخديعة .

لم تعامله الدنيا إلا معاملة زوج الأب لابن الضرّة التي فضلها الزوج عليها ، وكأن قد عظم عليها أن يتركها أبوه إلى غيرها ، ولم يكن تَرْك أبيه الدنيا ـ في ذلك الوقت ـ لموته بل كان تركه لها أن زهد فيها وفيما لديها وفيما قد تأتي به ولَهذا أشد عليها من موته.

كان جد أبيك لأبيه من الموسرين خدعته الدنيا فانخدع ،فلم يكن يحرص على كَسْب المال حرصه على إنفاقه وتبديده ، أحب الدنيا وأحب أجمل ما فيها ـ النساء ـ فكان رجلا مِزواجا ، ورأى ابنُه ما فعل حب الدنيا بأبيه فكرهها وانصرف عنها ولم تكن الدنيا لتقبل تلكم الهزيمة ، ولم يكن هو ليقبل غير ذلكم النصر . ذكّرها بجده في جهاده إياها فكرهته ، ورأت أباه ونصرها عليه فتمسكت به وأحبته ، ورفضت أن يكون لغيرها فلما أيست منه ومن حبه رفعت شعارها الذي رفعته من قبل أمام جده " التار ولا العار".

رفض أبوه أفعال أبيه فتركه وترك البلدة التي يعيش فيها راحلا إلى غيرها .

عمل في البلدة الجديدة عند أحد الموسرين ، ولم يكن كغيره من العمال الذين نشأوا في الفقر واعتادوا الحاجة ؛ فلم يكن مثلهم في حرصهم وتكالبهم على القليل ، عرفه رب العمل وعلم أخلاقه ورأى عليه أثر التقى والنعمة فعرف أنه " ابن أصول" وأن الأيام هي التي فعلت به هذا ،فزوجه ابنته ، أجل ، هو لايستطيع أن يوفر لها ما يوفر أبوها ولكن ما حاجتها إلى المال مع هذا الرجل وتلك أخلاقه ؟

لم ترض " بنت الأصول" أن يكون زوجها ويعمل عند أبيها ؛ فترك العمل عند أبيها وانتقل بها إلى بلدة أخرى ، وانتقل هو من عمل لعمل ، وتركها هي في فارسكور ، واضطرته ظروف العمل أن ينتقل إلى طنطا ثم إلى القاهرة وأن يستقر هناك في عمل حكومي " وإن فاتك الميري ......" فكان يفتح دارين دار بفراسكور وأخرى بالقاهرة ولم تكن الحياة بالقاهرة كالحياة بفراسكور ولم يكن يزيد راتبه على التسعة جنيهات آنئذ ، وماذا تفعل جنيهات تسعة لأب وأم وستة ذكور في مراحل التعليم المختلفة ، فكان يمر عليه الشهر والاثنان والثلاثة لايستطيع فيهم أن يعود إلى بيته مفضلا إرسال الجنيهات السبعة لهم في البريد ، فهذا أوفر! وكان يستبقي لنفسه جنيهين منهما : المواصلات ، والسكن ، والطعام ، والشراب ، وكل ما قد يحتاج إليه المغترب.

مازلتُ أذكر ما حكته لي أمي من حكاية إحدى جاراته بفراسكور لها ، حيث حكت أنها لما رأته ببيته في فراسكور يزور أولاده وزوجه سألت زوجه " الست أم سعيد "

ـ من هذا الرجل الأشقر الذي احمرّ وجهه وأصبح بلون الدم من أثر الحر ذو العينين الزرقاوين المائلتين إلى اللون الأخضر الـ...

ـ بنت !

ـ أنا فقط أسأل !

ـ هو زوجي

ـ ولكنك سمراء وهو..

ـ السمرة نصف الجمال

ـ بل هي ـ لأجلك ـ الجمال كله!

جارته ولا تعرفه ! أي حرص هذا ؟ أم أي فقر هذا ؟ ولكن أمي تقول أن الفقر لم يغير طباعه فظلت أخلاقه أخلاق الكريم "ابن الأصول " إلى أن واراه التراب ـ رحمه الله !ـ.

أما زوجه فلقد كانت هي الأم والأب للذكور الستة ، فكان يجب أن تتحلى بالقوة والحزم كما تتصف بالحب والحنان ، وفي ذلكم يحكي أبي لي عنها الكثير، انتقلت وزوجها من جوار أبيها ببلدتها إلى بلدة أخرى واضطرتهم حالتهم المادية أن يحيوا حياة الفقراء وأن يُعدوا منهم ، ولكن إن كانت حالتهم المادية قد جمعتهم مع هؤلاء القوم وجعلتهم من جملتهم ، فلقد فرقتهم عنهم أشياء أو لنقل فرقهم عنهم باقي الأشياء انتقل زوجها في عمله من بلدة إلى أخرى وظلت وحدها هناك في هذا الوسط الجديد وأبت أن تتساوى بالفقراء فكان لها سمتها وأسلوبها الدال عليها وعلى أصلها ، وظن الكثير أن هذا تكبر منها على خلق الله ، ولم يكن . هم يريدونها مثلهم تحيا كما يحيون وتشكو كما يشكون وتتهافت على ما يتهافتون ، ولكن

ـ بعينهم !

كان أبوها على علم بصعوبة الحياة في تلكم الأيام وسط هذا الغلاء فكان يذهب إليها بـ "الزيارة " من وقت لآخر

ـ أي بنيتي ، كيف حالك وحال زوجك؟

ـ على خير ما يرام يا أبي

ـ لله الحمد ، خذي ياابنتي هذا المال فاجعليه معك ؛ قد تحتاجين شيئا

ولو كان يعطيها كما يعطي الأب ابنته وفقط لأخذت

ـ معي المال وزوجي يأتيني بكل شيء ولا يتركني في حاجة إلى شيء والخير يملأ الدار

ـ أعرف ، ولا ضير أن يكون معك زيادة ، خذي خذي

فترفض وتأبى وتتمنع قدر استطاعتها ، وقد لا يكون في بيتها شربة ماء ، فإن أخذت أخذت وهي كارهة مكرهة .

مرت الأيام والحال على ما هي عليه ، لا تتحسن إلا لتسوء فلما اعتادت هذه الحياة واطمأنت إليها مات أبوها .

أجل ،هي وحدها في فراسكور ولكن بلدة أبيها لاتبعد كثيرا عن فراسكور ، فكان قربه منها يشعرها ببعض الأمان والعزاء ولكن قدر الله وماشاء فعل ولم يزل إخوتها على قيد الحياة فرحمة الله على راحلها العزيز وبارك في إخوتها .

بعد رحيل الأب علمت أن قد قسّم إخوتها الذكور على أنفسهم الأرض والمال فأيقنت أن قد ضاع عليها حقها في تركة أبيها وكادت تهدأ وتصمت لولا أن رأت أولادها وتذكرت ما يعانونه من شظف العيش

ـ وما ذنب الأطفال ؟! هم إخوتي وإن جاروا عليّ ، أما الصغار فماذا ارتكبوا كي يمنعوهم حقهم ؟

فرأت أن تحاول وذهبت إلى إخوتها

ـ أبناءَ أبي وأمي يامن ليس لي بعد الله أحد غيرهم في هذه الحياة ، أنا لم أسألكم شيئا ولستُ أسألكم ولن أفعل إن شاء الله ، وأعلم والله أن لو سألتكم ما تأكلون لأعطيتموني عن طيب خاطر

ـ أجل ، فهذا حقك علينا ، ولكن ماذا تريدين الآن ؟

ـ لا أريد أكثر من حقي ولو أعطيتموني أقل منه لرضيتُ

ـ حقك!؟ أي حق ؟

ـ حقي في مال أبي

ـ أي حق ؟ ليس لك شيء في مال أبينا ولو كان لك مليما واحدا لأعطيناه لك

ـ لي يا أخي في المال والماشية والأرض التي ورثتموها

ـ تقصدين الميراث ؟

ـ نعم ، أقصده هو ولا شيء غيره

ـ ومنذ متى ترث النساء؟!

ـ منذ قال الله " للذكر مثل حظ الأنثيين".

ـ ومتى دخلتِ الأزهر أوكنت فقيهة؟ انظري يا أم سعيد إذا كنت تحتاجين إلى المال أعطيتك كما يعطي الأخ أخته ، أنعطي الغريب حتى نسد حاجته ونترك أختنا تحتاج إلى المال ......

ـ أنا لا أحتاج المال ، أنا أريد حقي في مال أبي فقط هذا ما جئتُ لأجله فلاداعي لهذا الكلام ، أنا أريد الإنصاف، أريد حقي

ـ أي حق ؟ وأي إنصاف في أن نعطي الغرباء مالنا وأرضنا ؟

ـ أي غرباء؟

ـ أوليس زوجك غريبا؟

ـ وما دخل زوجي الآن ؟

ـ لا يا أختاه بل له دخل ، ثم إن كنت تسعين لحقك ـ كما تدعين ـ فإن لك زوجا يصرف عليك ، هذا حقك عليه ، أما مال أبينا فلقد ساعدناه على تنميته ولن نعطه غريبا أبدا ، فإن كان زوجك بخيلا أو لا يؤدي إليك حقوقك ساعدناك على نيلها ، وهذا لأنك أختنا فقط ...

ـ ولكن.......

ـ ولكن لن نتحدث ثانية في هذا الموضوع فإن كنت تريدين قول شيئا آخر فقوليه للشرطة

ومنذ متى ترفع بنات الناس الدعاوى القضائية على إخوتهن من أجل المال؟ ولو رفعتها فمن أين لها بالأموال؟ أم متى سيحكم فيها القاضي ؟ ولو حدث وحكم لها القاضي قبل أن تموت فهل تستطيع الشرطة أن تأخذ لها حقها ، وأن تنفذ الحكم ؟ لا الشرطة ولاالجيش وهي أدرى الناس بهذه الأدمغة التي تتعامل معها . عوضك على الله يا ست أم سعيد.

كانت ترى الفقر وأفعاله بالناس وأخلاقِهم كانت ترى وتسمع كل يوم حوادث كان الفقر هو سببها الرئيس؛ فخشتُه على أولادها وأخلاقهم ؛ ولكن ماذا تفعل وها هو سيدنا علي بن أبي طالب مات ولم يستطع قتل الفقر كما تمنى ، فلم يكن أمامها إلا أن تقسو على أولادها وتشتد عليهم فلا يحيدون عن الأخلاق التى تنشأهم عليها قيد أنملة .فإذا عاد لها أحدهم ـ مثلا ـ بمال وجده في الشارع ولو كان مليما واحدا توجعه ضربا حتى يخبرها بحقيقة هذا المليم اللعين رغم أنه لم يكن يكذب عليها حينما أخبرها بأنه وجده في الشارع ، فهي تضرب رغم حنانها وحبها له وتضرب ولعلها لم تكن تفعل إلا لحبها له والمسكين يقسم ويقسم أن قد صدقها كل ما قال.

وكان الرابع بين أبنائها في الترتيب ـ أبوك ـ من أكثرهم حظا ، وإن شئت فقل من أكثرهم بؤسا فلقد كان أكثرهم إيجادا للمال أو لعله كان أكثرهم حنانا وشعورا بالمسئولية ، فلم يكن يكتم خبر مال وجده حتى أنه وجد ذات مرة ريالا كاملا أو ربع جنيه فلست أذكر على وجه الدقة المهم أنهم كانوا آنئذ في حاجة ماسة إلى كل مليم فلقد كانوا يريدون ريالا لتوظيف عمك سعيد ، الذي أنهى دبلوم التجارة وقتها ويحتاجون عشرين قرشا لتوظيفه ويبدو ـ والله أعلم ـ أن هذا الريال كان رشوة طلبها من بيده توظيف الشاب أو لنقل ابتزازا ، المهم أن قد ضاقت بها السبل فليست تملك ما يمكنها الاستغناء عنه الآن وبيعه ، وحتى لو كانت تملك فمن ذا الذي يمكنه الشراء ودفع ريالا كاملا آنئذ في هذا الوسط المحيط بها والذي لاتعرف غيره ، ماذا تفعل وهي لاتملك شيئا ؟ أرسلت هذا المحظوظ إلى خاله يطلب ريالا يحتاجونه لتوظيف أخيه الكبير فظن الغبي أن أخته تطالبه ثانية ببعض حقها في ميراث أبيها أو بجزء منه وأعماه حقده على أخته التي أنهى ابنها الدبلوم وسيعمل موظفا ومدّه هذا الحقد وذلك الحسد بحنق لاحدود له واستولى غباء هذا الغبي على القيادة فنظر إلى الصغير فتذكر أخته وتذكر " تبجحها عليه " و" إلحاحها " في المطالبة بمال ليس لها فيه حق كما تذكر ابنها الكبير وتخيله موظفا يروح ويجيء من وإلى وظيفته وتذكر أولاده الأغبياء

ومن أين لهم ـ بالله ـ به ؟ فعلا لقد صدق من قال أن " من شابه أباه ما ظلم "

مارت برأسه كل هذه الخيالات فلم يكن منه إلا أن تناول أغلظ ما رأى أمامه من العصي وبدأ في ضرب أبي دون رحمة أو رأفة إذا انكسرت عصاة استبدلها بغيرها ولم يتركه إلا بعد أن أنهكه التعب وكان خاله كالثور بنيانا أو كان الثور مثله فكاد يقتله ـ قتله الله ـ وماذنبه تضربه كل هذا الضرب ، ألا شل الله يدك كما شل عقلك !

عاد الولد باكيا وقد تورم جسده يحلم بيوم يستطيع فيه أن يقتل هذا الحيوان من الضرب ثم يحيه ليقتله ثانية وهكذا إلى أن يموت هو . امتلأ قلب الولد غيظا ولم يستطع التخلص من هذا الغيظ كما استطاع الغبي ، وبينا هو يمشي باكيا وجد علبة ثقاب عادية على الأرض فركلها مغيظا محنقا فطارت وقد فُتِحت فلما دنا منها ثانية رأى بها ربع جنيه أو ريال ـ لستُ أذكر جيدا ـ المهم أن قد مد يده إليه وأخذه ، وهو وإن كان يعلم جيدا بما قد يسببه له هذا المال فهو يعلم أيضا حاجتهم الملحة إلى المال وإلى الوظيفة الجديدة التي قد تذهب ، فأخذ المال وخبأه ، وذهب إلى أمه يقص عليها ما كان من خاله ، فاغتمت وحزنت لِما حل بابنها ، ثم حكى لها بعد ذلك ما حدث في الشارع ، وبالطبع ، عادت هي لتحمل الراية من جديد

ومَن هذا الذي يضع ربع جنيه في أيام كهذه في علبة ثقاب ؟ من أين أتيت بالمال ؟

لم تتوقف الأم عن ضربه هي الأخرى رغم ما حل به ، أما هو فأقسم لها بكل ما يعرف من أيْمان أنْ لم يكذب عليها في شيء وأخذها بعد أن هدأت قليلا إلى المكان الذي وجده فيه وشرح لها كيف وجده كما يشرح المجرم جريمته.

فهل يتذكر الآن ـ وبعد أن ماتت ـ عمك سعيد شيئا من ذلك؟

الله أعلم .

سبحان الله ، وكأن قدر هذا الغلام أن يكون مختلفا عن إخوته مجتمعين .

فلقد رزقه الله قلبا طاهرا وفطرة نقية ، وملأ الله هذا القلب بالحب والحنان لأسرته عامة ولأمه خاصة ، وكان يشعر بأمه وبما تلاقي في هذه الحياة ويحس بما عليها من ضغوط ويرى حبها لأسرته وحرصها عليها .

وكان أهم أهدافها في الحياة أن يكمل أولادها تعليمهم على الأقل حتى الدبلوم وإن أراد بعد ذلك أيٌّ منهم أن يكمل أكمل تعليمه إلى جوارعمله ، ولكن لابد أن يتعلم فهى لاتريده أن يبدأ من الصفر.

وكان الأصل في هذا الوَسَطِ آنئذ أن يعمل الأطفال ، فكان انقطاع أولادها عن العمل ـ اللهم إلا ما كان في الأجازات الصيفية من أعمال يسيرة لاتدر دخلا ذا بال فلم يكونوا يعرفون حرفة تدر عليهم ـ كان الانقطاع أشبه بخسارة مادية للأسرة ، ولكنه لم يكن مجرد انقطاع ، بل كان انقطاعا مكلفا فكانت الخسارة مضاعفة لأن التعلم في حاجة إلى مصاريف ، أجل ، لم يكن التعليم مكلفا آنئذ كما هو حاليا ، ولكن قرشا يُدفع من دخل هذه الأسرة في ذلك الوقت للتعليم كثير جدا .

وكان هذا الغلام يرى بعينه هذا كله ويشعر بأمه وبما تعاني من أجل توفير كل مليم تستطيع توفيره ، وبما تعانيه أكثر في منع نفسها التوسيع على أولاها بهذا المال الذي تدخره ، وكان يرى أنداده الذي يعملون في الحرف المختلفة ، وكان يسمع بما يدرون من أرباح ولم يكن مكسبهم كبيرا ، ولكنه كان يراه كبيرا فلم تكن عيناه سوى عيني طفل صغير، كما أن إدخال شلن أفضل وأكبر من أخذ مليم هكذا حسبها وكان يعلم أن الأسرة في حاجة للمساعدة وأن لن يساعدها أحد فإما أن تكون المساعدة من أحد أفرادها وإما ألا تكون ، ولم يجد عند أخوته الكبار النية لذلك ودفعه شعوره بالمسئولية إلى أن يفكر في أن يكون هو هذا المساعِد" والنواة تسند الزير ".

ولكن كيف؟ كان هذا سؤالا محوريا ، كيف ؟ فأهون على أمه أن يموت ولا يترك تعليمه

وتكون قد أخرجته من التعليم ليساعدها على تربية إخوته؟!ومَن هذه الأم التي تفعل ذلك؟ أي أنانية تلك ؟ وأي ضعف وقلة حيلة ؟ وأي جناية تجنيها على صغيرها ؟ أترميه بيدها في الشارع يضربه هذا المعلم ويسبه ذلك ؟

المسألة مرفوضة تماما المسألة مستحيلة ولم يكن أبوه أيضا ليوافق على هذا "الغباء " ، فلم يكن أمامه حل آخر غير أن يقنع أمه بأنه لا يصلح للتعليم ، وكان ، فرسب ؛ لأنه لم يدخل الامتحانات ، فنقلته لمدرسة أخرى خاصة تدفع لها في السنة خمسة جنيهات كاملة ،ولكن ـ وكما يقول المثل الصيني : " من السهل أن تذهب بالحصان إلى النهر، ولكن من المستحيل أن تجعله يشرب" فرغم هذا لم ينجح ورسب أكثر من مرة ، وهي لا تترك وسيلة قد تحمله على التعلم لا تتّبعها معه ، وظلت هكذا تحاول معه بكل ماتستطيع ، وظل يحاول ، وبذلت قصارى جهدها ، وبذل ، فكان لا يذهب لمدرسته أو يتركها ويذهب مع أنداده لـ"جمع الدودة " باعتباره عملا يأتي منه بأجر قليل ، وظلت هكذا ، وظل إلى أن يئست منه وتركته يخرج من التعليم كما أراد قبل أن يكمل حتى مرحلته الابتدائية أما باقي أعمامك فلقد حصلوا جميعا على الدبلوم ثم أكمل عمك سيد وعمك حسن تعليمهما بعد أن عملا وتزوجا وتخرجا في كلية التجارة.

فَطَرَ تركُه للتعليم قلبَها وحطمها وملأها حزنا وغما على هذا الصغيرالذي تعلمُ أن لن ترحمه الدنيا ، وما كانت تحب له أن يصل احتكاكه بالدنيا إلى هذا الحد ، ولكن ماذا تفعل؟، أتحبسه عن العمل ؟ وكيف ؟ لو كان بنتا لفعلت ولكنه ذكر يجب أن يكون له عمل ، ولم يأخذ حتى الابتدائية فيعمل بها موظفا في أي مكان ، ولأن التصرف الصحيح في هذا الوقت أن تتركه يعمل في الصناعة التي يريد أو التي يمكن له أن يعمل فيها ، ولأنه لا يجوز أن يراها ضعيفة أو مقهورة ؛ تجلدت، وتماسكت ، وتركته يخرج للعمل.

خرج الصغير إلى هذا العالم وهو لا يعرف عنه الكثير، فلم يكن يعرف عنه إلا أن من يعمل فيه بجهد كبير يكون ربحه وفيرا، فخرج وهو يقسم أن لن يترك في جهده جهد يمكنه بذله إلا وسيبذله عن طيب خاطر ، ولو علم الصغير أن ليس هذا كل شيء لأطاع أمه في كل شيء ، ولما كان إلا كما أرادت ـ وكما يقول هو الآن ـ ولكنه خرج وتربح وفتح الله له أبواب الرزق وكأنه يعوده العطاء من صغره وعدم البخل.

خرج إليه صغيرا ، يظن أن كل الناس في حنان أمه وطيبة أبيه ، ولكنه وجد العكس تماما ، فالـ"المعلمين" يهينون الصِّبية أسوا الإهانات دون مراعاة للكرامة ، ويضربونهم أشد الضرب لأتفه الأسباب ، وأحيانا بدون سبب ولم يكن الواحد منهم يراعي أن ليس للصغير ذنب فيما فعله فلان وضايقه ، ولم يكن يستطيع أن يقدر أنه من الممكن أن يكون قد شرح للصبي بطريقة خاطئة أدت إلى خطأ الصبي ، ولكن كل ما يعرف أنه شرح فإن كان هناك خطأ فهو من الـ........ اللي...... إلخ ويا سبحان الله كأن الضرب والإهانة يزيلان الغباء وكأن العلاقة عكسية بين شدة الضرب وضعف الغباء ، أو ليس هذا منتهى الجهل والغباء؟

لم تكن أمه تعلم بكل هذا أو هذا ما كان يبدو عليها ، ولعلها كانت تظن أنهم يعرفون لابنها قدرا كما يعرفون قدرها ، ولم يكن يستطيع الشكوى فهذا اختياره ، ولقد بذلت أمه كل جهدها في تغيير هذا الاختيار فلم تستطع ، ولم يكن يستطيع أن يعود للتعليم من جديد وإلا جعل من نفسه أضحوكة أمام الجميع . لم يكن أمامه غير التصبر والتجلد والتحمل وأن ينطوي على آلامه وأن يظل منطويا ، وقد يهون على الإنسان أن يصبر ويتجلد ، أما أن يكتم أنينه فلا يستطيع إظهاره فهذا أقسى عليه وأعظم ، لذلك اجتهد قدر طاقته في أن يتعامل مع كل ما يحدث له على أنه هو الطبيعي وأحسبه قد نجح بعض الشيء مما كان له أثره على شخصيته بعد ذلك، ثم كيف ستأخذ أمه منه المال الذي يعطيه لها وهي تعلم ما يلاقي في سبيله ؟وكيف ستهنأ به ؟ كان لابد أن يصمت وإذا شكا للعالم كله ، فما كان ليشكو لأمه.

شغلت الحياة الصعبة أمَّه عنه وهو صغير ثم عادت وأبعدتهما عن بعضهما ، فخرج إلى العالم قبل أن يشبع من حنان أمه وحبها فهو ظامئ إلى اليوم إلى الحنان ، واضطرته الظروف إلى أن يكون ـ رغم صغره ـ رجلا في جميع تصرفاته فحبس طفولته ، وظن أن قد ماتت بداخله وتخَلَّقَ بأخلاق الرجال ، فلم يزل إلى اليوم يملك قلب الطفل وأخلاقه ، ولكنه لا يظهرها إلا دون قصد منه لمن يطمئن إليه ممن يظن فيهم كِبر قلوبهم ، ولعلك رأيت بنفسك مصداق هذا الكلام ، فالمشكلة أن الدنيا كانت تعامله بقسوة منذ استولت عليه فاعتاد منها القسوة فإن وجد الحنان لم يستطع الاستفادة منه هذا ما أراه بعيني ويفعله بنفسه دون قصد منه .

ولكن حنان الأم على طفلها الصغير يكون "مركزا" فهو وإن كان لم يجد من الحنان والحب إلا قليلا إلا أن هذا الحنان وهذا الحب قد استطاع أن يستولي على معظم قلبه وأن ينتشر فيه .

خرج أبوك إلى العالم غلاما صغيرا مازال في طور النشأة وكان ـ كما سبق ـ قد حصل من أمه على قدر من الحنان أقل من سد حاجته ولكنه كبير خرج إلى هذا العالم الكبيرولم يجد فيه إلا القسوة وعاش في هذا العالم أضعاف أضعاف ما عاش مع أمه ، وما زال يعيش - أطال الله بقاءه وأعطاه الصحة وهداه إلى كل خير - فأخذ هذا الرجل من قسوة الدنيا الكثير ومازال يأخذ و" كل إناء ينضح بما فيه" ، واعتقدَ أن القسوة هي الطريقة المثلى في التعامل معظم الأوقات

وكيف يؤمن بغير ذلك ولم ير أو يعرف إلا ذلك؟!

هو رجل طيب حنون محب ، يدفعه الحب لعمل ما يعمل فإذا عمله عمله في معظم الأحيان بقسوة وعنف ، فهو لم يتعلم إلا هذه الطريقة في التنفيذ فإن لم يقسو ، فاعلم أن قد فعل ما فعل دون تفكير فعمل كما يملي عليه قلبه

علمتُ عنه هذا كله ورأيتُ الصورة واضحة ورأيتُ الكثير مما لم أستطع قوله فعلمتُ دوافعه وعلمتُ مخبره كما حفظتُ مظهره فأحببتُه وبخاصة لأنني قد أخذتُ منه الكثير، ولأنه أبي

لعلك وإن كنتُ تعرف الأستاذ العقاد لاتعرف أنه دخل السجن ذات مرة ، ولعلك لاتعرف أيضا أن قد حكى هذه التجربة في كتاب أفرده لذك سماه "عالم القيود والسدود" . في هذا الكتاب قال الأستاذ العقاد أن من أصدق المقاييس التي تسبربها طبائع النفوس الفكاهة والغناء ، فإنك لن تجدالفكاهة والغناء في نفوس خلت كل الخلو من الخير والمحبة الإنسانية وصلاح الفطرة للعطف والمؤاخاة.

أما الغناء فكلانا نعاني حب أبيك له وأما الفكاهة فمازال أبوك يحبها ويمارسها من حين لآخر كلما صفت نفسه وراقت من المشاكل والهموم ، فذات مرة كنتُ أجلس معه في المحل فمربنا رجل ما فلما رأى أباك جاءنا وسلّم وقبّل وحضن وسأل عن الحال و...........إلخ

فلما مضى سألتُ أبي عنه

ـ هذا عمك المستشار فلان الفلاني ألا تعرفه ؟

ـ حقيقة ، لا أعرفه

ـ لقد كان زميلي في المدرسة وكان معي في نفس الفصل ولكنه ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فشل وأصبح مستشارا

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله (بأسى)

هذه نقطة من بحر وأظنك تعلم الكثير ، ولو قلتُ عنه ..............

إلا أن أمهما قد قاطعتهما ، فلقد حضر وقت الغداء ، وكانا جائعين فقاما إلى الطعام