نساء القبيلة
ماجد بن سليمان
وظلم ذوي القربى اشد مضاضةً علي من وقع الحسام المهندِ
طرفه بن العبد
1
الشمس تغزو سماء البادية، تُسْقِطُ شرشفها الأصفر المخلوط بحمرة الشروق على خيام البدويات اللاتي خرجن قبل الفجر لمجاهدة الحياة الشاقَّة من جديد، وليس في ما يقمن به من جديد.
حاطبةٌ للحطب والشجر... حالبةٌ للغنم ... خابزةً الطحين لصغارها... جالبةً الماء من بئر الصحراء المتهالك... ذاهبةٌ، ورائحةٌ فوق رمال الصحراء الذهبيّة.
هذا هو حال البدويات العفيفات الطاهرات، لا مغريات في حياتهنّ، ولا مجال للتسلية إلا في رحاب البيداء الواسعة،حياتهنّ عمل متواصل حتى يذوب قرص الشمس خلف جدار الغروب، ليرمين بأجسادهنّ الذابلة على فُرُش الراحة، إلى أن ينتشر صوت نداء الفجر في آخر قطرة من الليل البهيم، ليبدأن نشاطهنّ الذي لا يتغيّر نمطه، ولا تتلوَّنُ طبيعته .
عفراء، فتاة بدويةٌ في عامها الثاني والعشرين، ماتت أمها بعد ولادتها بسويعاتٍ قليلة.
ديدن عفراء كل يوم هو احتطاب الآمال في الكشف عن خبايا حظٍّ يسترها، وينقلها إلى عشٍّ جديد، بعيدةً عن تسلط عمها الأحمق الذي لا يعرف من الحياة غير الجبروت، والضيم.
عفراء، لا تملك غير شويهاتها الخمس، وناقتها المسنَّة، هذا ما تركه لها أبوها بعد أن غادر أروقة الحياة، بزاد التقوى، والتضرع والخوف من رب العباد.
عفراء منذ أن مات أباها، وهي قابعةٌ فوق رمضاء عمِّها الظالم، ترتشف حياةٌ قاسية، وترتدي جلباب خوفٍ من المستقبل المقبل.
2
في ليلةٍ هَرعت نجومها إلى خلف ستارة الظلام، وانقسم وجه القمر الذي تشبه استدارته وجه عفراء الكريمة، وانقضى اكثر من نصف الليل، فتحت عفراء عيناها المحاطتان بجنودٍ من الأهداب، الذابلتان في حوض الأمل والرجاء، نظرت إلى سقف خيمتها، ونسيم الليل يلاعب قنديلها البائس، وينغني قصب الخشب المجوّف كل ما انحدر الهواء داخله .
تجلس عفراء، وترمق موت الجمر من حول دلال القهوة التي يفخر بها العرب في كل شؤونهم،هناك ثمَّة ضيقٍ يجاهده قلبها الغضّ، ماالأمر ليس من عادتها أن تصحو في منتصف الليل، ولا حتى في آخره.
ما أعجب هذه الليلة، كأن السكينة لا تعرف درباً إلى عفراء، عادت عفراء لتضع رأسها على وسادتها العتيقة التي نحرت على قماشها المبلل دموعها الحمراء، وأحلامها الشفافة، وآمالها المخضرَّة.
حاولت مغازلة النوم، لكن النعاس لا يطفوا على عينيها الجميلتين، وكأن الخشية من صباح الغد تؤرقها بشدة بليغة.
وقبل الفجر بساعةٍ أو أقل، قطف النوم عيني عفراء، لتنام هذه الساعة فقط في هدوءٍ وسكينة.
صباحٌ يَجْتَرُّ خلفه ظهيرةً محرقة، وظهيرةٌ تسحب وقت العصر ببطٍ متواضع، وعصرٌ يمشي برداء الخيلاء، وينشر البرودة قُبَيل المغيب، لتنقضي صلاة المغرب بابتداء توافد رجال القبيلة إلى مجلس عمِّ عفراء المزعوم بالشيخ (مسلط)، الذي انتقلت له زعامة القبيلة بعد وفاة أخية أبو عفراء.
يحتسي الرجال القهوة، وعفراء تجلس مع نساء القبيلة في مجلس النساء الخلفي لمجلس الرجال، وبعد عشر دقائق من اجتماع القوم، وقف شيخٌ طاعنٌ في السن يُدعى (باتل) قد انهال حاجباه على عينيه من الكِبر، ونَحَل عوده، وجفَّت ينابيع حياته، وقال:
- يا شيخ مسلط، هناك عهدٌُ، ووعدٌ قديمٌ بيننا فماذا فعلت؟
اتسعت دائرتا عيني الشيخ مسلط، وأحس بعدم ملائمة المكان، والزمان لمثل هذه الأحاديث، وأجاب بدبلوماسيةٍ قائلاً:
- قريبٌ إن شاء الله، قريب.
فقال الشيخ العجوز:
- يا شيخ مسلط هذا جوابك منذ عشر سنوات، مالأمر يا رجل؟.
أحسَّ الشيخ مسلط بحرجٍ كبير، فقال :
- يا شيخ باتل سنتفاهم أنا وأنت بعد صلاة العشاء إن شاء الله تعالى.
بَصَقَ الشيخ العجوز (باتل) خلفه، وعاود الإلتفات للشيخ مسلط من جديد ودَحْرَج قوله ببطءٍ قائلاً:
- لك ما شئت أيها الشيخ، لك ما شئت.
تنَفَّس الشيخ (مسلط) الصعداء، وعادت دقات قلبه لوضعه الطبيعي، ثَمَّةَ سرٌّ قديم بين هذين العجوزين!.
3
عفراء بين نساء القبيلة، ضاحكةً لهذه، ومبتسمتاً لتلك، ومُسلمتاً على تلك، وما زال قلقها الذي هجم عليها ليلة البارحة جاثماً على مزاجها الأبيض.
قُضَيت صلاة العشاء، دقائق حتى وطأت عصا الكهل المدعو (باتل) تراب مقدمة خيمة الشيخ (مسلط)، مردداً:
- على الوعد أتيت، يا مخلف الوعد.
آلام هذا الكلام الشيخ (مسلط) فقذف من فِيهِ حروف اللوم، والعتب على العجوز (باتل) قائلا:
- ألا إنك لجاحدٌ يا هذا، أنت تعرف جيداً مدى الظروف التي تكبدتها مع ابنة أخي (عفراء)، ومدى محاولتي فتح مثل هذا الموضوع معها برفق حتى تبرأ ذمتي أمام القبيلة، ولكني لم أجد حتى فرصة للكلام معها بمثل هذا الموضوع.
تَقَدَّمَ إليه العجوز (باتل) قائلا:
- ولكن يا شيخ مسلط، عشر سنوات أليست كفيلة بأن تفي بوعدك لي.
جلس الشيخ (مسلط) بعد وقوف ربع ساعة تقريباً، وزفَرَ بشدة وقال:
- لا تنسى أنك عجوزٌ لم يبق لك في الحياة سوى أيام، ولو أنني أريد الخلاص من (عفراء) لما قطعت معك هذا الوعد التعيس.
سكت قليلا ثم قال:
- أتدري .. غدا صباحاً سوف أخبر عفراء بأن الخميس القادم هو موعد زواجها منك.
ابتهج العجوز (باتل)، وقال:
- أنا في انتظار ردك علي غداً قُبَيل الظهر.
وبعد أن ابتلع الظلام ذلك العجوز الأحدب، وقف الشيخ مسلط أمام مجلس خيمته، وهو يكلم نفسه قائلا:
- ما أثقلك من عجوز، وما أعندكِ من فتاة، يبدوا أنني سأدخل في معركة جديدة معكِ يا عفراء.
دخل إلى مخدع نومه وأغلق على نفسه، ليخلد إلى النوم.
4
عندما نشرت الشمس ضياءها على الصحراء، كانت عفراء اليتيمة تجلب الماء من أحد الآبار القريبة من حدود القبيلة، فإذا يصيح بها الصائح من بعيد:
- عفراااااااء، عفراااااااء.
إلتفت عفراء بسرعة،وإذا الصائح بها هو ابن عمِّها الصغير (زيد)، وقالت:
- ما خَبَرُك يا زيد؟!.
وحين وصلها زيد، جَثَى على ركبتيه من شدة العدو، وأخذ يحاول تمكين رئتيه من أخذ النفس، ثم قال:
- يا عفراء، أبي يريدك حالاً.
فقالت محادثةً نفسها:
- ما أمرك يا عمي، لم أعد أرتاح لكثرة طلباتك لي، رحماك يا رب.
ثم أردفت جَاهِرَةً:
- إذهب إلى عمي، وقل له بعد أن أجلب الماء سوف أجيء إليه فوراً.
انطلق الصغير عائداً أدراجه، ليخبر أباه بالإجابة.
وقبل أن تشتد حرارة ما قبل الظهيرة، أقبلت عفراء على خيمة عمِّها مسلط، ونادت بصوتها الشجي:
- عَمَّاه، هل طلبتني يا عمَّاه...؟
خرج الشيخ مسلط من بين أروقة الخيمة الكبيرة، وقد انفرجت اساريره، وأقبل عليها قائلاً:
- اهلا بابنتي (عفراء) أهلا، تفضلي يا ابنتي إلى المختصر.
دخلوا إلى مختصر الخيمة العائلي، وجلست (عفراء) تلعب بخصلة من جديلتها، وهي في شكٍّ من موضوع تحجير ابن عمِّها (بَكَّار)، الذي ما زال مصرَّا على أنه أولى بها من الغريب كما هو الحال في أعراف و تقاليد العرب القديمة.
قال الشيخ مسلط، وأصابع يده اليمنى تخلخل لحيته:
- يا ابنتي عفراء، تعلمين أنكِ الآن امراة..
قاطعته عفراء قائلةً:
- ارجوك يا عمي، إن كنت تريد أن تعيد النقاش معي بشأن ابنك (بَكَّار) فالجواب قد وَصَلك من خمس سنوات، وأظنك حاولت بما فيه الكفاية لتقنعني به، أعيدها لك للمرة الأخيرة، لست موافقة على ابن عمي (بَكَّار)، ولو كلفني هذا الشيء حياتي..
ثم هَمَّت بالوقوف، فشَدَّ ساعدها، وأجلسها:
- أنا لم أكمل كلامي، ولم تسمعي ما أريد أن أقوله لكي حتى تقاطعينني، وتهمين بالنهوض سريعاً.
قالت له، والحيرة تنتشر في أرجاء وجهها الوردي:
- يا عمي أنا لست جارية لديك، أنا ابنة أخيك كيف ترضى علي الزواج بالقوة من ابن عمي الذي لا أطيق حتى رؤيته؟
وما أن أتمت آخر حرفٍ من جملتها، حتّى تجرأت يده الحقيرة على صفعها على خدِّها الفائح بعطر الطهارة، قائلاً:
- لقد تمردتِ أيتها الحمقاء، قلت لكي اسمعيني حتى انتهي، ومن ثَمَّ قولي ما تريدين، تَبَّاً لكي، بناتي وهنَّ بناتي اللاتي من صلبي لم يتجرأن علي كما تجرأتِ أنتِ..
وما هي إلا بُرهةٌ قصيرةٌ من الوقت، حتى أجهشت بالبكاء المر، متوسلةً عمها بالعدول عن الكلام في هذا الموضوع.
سكت الشيخ مسلط قليلا ينتظرها تهدأ، ثم قال:
- يا عفراء، لم أطلب مجيئكِ هنا من أجل ابن عمك (بَكَّار) لكن من أجل عهدٍ ووعدٍ قطعته بعد وفاة أبيكِ باثني عشر سنة مع رجلٍ طلبكِ مني، وقد تممتُ له ذلك حين تكونين في سن الزواج، والآن يجب أن أفي بوعدي له.
وقفت عفراء على قدميها الناعمتين، والعجَبُ يكسوها كثيابها، قائلةً:
- هاه، ماذا تنوي يا عمي، أخشى أنك تريد أن ترميني لابنك (ظاهر) الذي غاب منذ ثلاث سنوات، ولا نعلم أهو حيٌّ أم ميت.
التفت عمها لها، وقد تقافزت من عينيه كلمات الحقيقة المرة قائلاً:
- يا عفراء، أنتِ من الخميس القادم ستكونين في بيت زوجكِ الشيخ (باتل)، ولا رجعة لدينا، لكن أحببت أن أخبرك حتى تبرأ ذمتي.
نفض مشلحه البني، وخَرَجَ من المكان وهو يتمتم بكلام لا يفهم:
بقيت عفراء مكانها متخشِّبةً، صامتةً كالجماد، عينيها الذابلتين تكبت الدمع الحارق عن الخروج، من شدة سوط المفاجأة، قالت تحاكي نفسها:
- بااتل العجوز الخَرِف!!.. باتل الكهل الأحدب!!.. زوجي أنا!!
عفراء، تلك الفتاة الفاتنة، تلك الوردة الحمراء، يقطفها شوك ذلك العجوز، إنها الدهشة! إنها الحماقة! في زمن القهر، والتَجَبُّر.
5
أخذت عفراء تجوب ممرات القبيلة دون وعي، وقد كَبَّلَ هذا الخبر قلبها الحزين، إنه الخبر الذي يهوي بها إلى دركٍ من العذاب النفسي والجسدي، وصلت إلى مخدعها، وألقت بنفسها على فراشها الرث.
سحابةٌ من الهم خَيَّلت فوقها، وانقباضٌ شديد داخل صدرها الهشْ، وحين رمى الليل عبائته على الصحراء، وخبر زواجها الكئيب، قد سعى مسعى النار في الهشيم، وعلم به كل فردٍ في القبيلة، أغضب من أغضب،وأبكى من أبكى، وأزعج من أزعج.
فتاةٌ صبية يتزوجها كهلٌ عجوز!!!!!
علامات التعجب بدت على وجه الكثيرين، ما عدا أقارب هذا الخَرِف، كانوا يرون أن هذا الزواج أمرٌ عاديّ، وأن عفراء لا بد لها أن تحمد الله، إذ أتاها خطابٌ ولو كان عجوزاً ك (باتل).
البعض يرى أنها يتيمة، من المفترض أن ترضى، ولو بالعجوز (باتل).
والبعض الآخر يرى أن هذا قسمةٌ ونصيبٌ، يجب أن تقنع نفسها به.
عفراء، تقبع في مخدعها اليتيم، ودودة الهم تنخر عظام صبرها وجَلَدها، وحشرات القهر تجوب في صدرها، وعروقها.
كَثٌُرَ الكلام، ونساء القبيلة لم يعد لهنَّ إلا (عفراء)، أصبحت عفراءُ تمرة أفواههنّ المغتابة، ولبانة أسنانهنَّ الماضغة لأعراض البشر.
نساء القبيلة، لم يعد يحلو لهن الاجتماع، إلا على مائدة الحديث عن زواج عفراء، ولم يعد همَّ كلِّ واحدةٍ منهنَّ إلا مراقبة العد التنازلي للزواج المزعوم.
6
في صبيحة اليوم التالي، زارتها إحدى صديقاتها واسمها (خولة)، تُهوّن عليها، وتواسيها، فحين دخلت عليها، رأتها شاحبة الوجه، متورمة الأجفان من شدة البكاء، فقالت لها:
- كيف حالك يا عفراء..؟
نظرت إليها عفراء، ثم ألقت بنظرها المنهك على أرض المخدع، وكأن أحداً لم يجيئ.
جلست (خولة) بجانبها، وهمست مرَّةً أخرى:
- عفراء، ما بالكِ يا صديقتي..؟
لا فائدة، عفراء، لا تنطق بأي حرفٍ أبجدي، وكأن اللغة العربية هَاجَرَت لسانها وفَمَها الشبيه بالخاتم.
سكوتٌ يجتاح فضاء المخدع، ووترُ الحيرةِ الداكن، تعزفه عفراء في أرجاء المكان الملتف بحزنها وقلقها.
لا أبٌ لها يحميها من ظلم العم، ولا أمٌ لها تأوي إلى حضنها في مثل هذه العواصف.
أعادت صديقتها السؤال للمرة الثالثة:
- عفراء، قولي ولو كلمة.
لحظات حتى ارتفع بصرُ عفراء، ليمتد إلى الصحراء المجدبة، لترسل شهقة البكاء المحرق، وأرخت صديقتها (خولة) جديلتها المظلمة حول عينيها، لكي تنَحَرَ دمعها في ظلمة جديلتها، حتى لا تراها عفراء، ويزيد انهزامها أكثر عن ذي قبل.
7
في إحدى ممرات القبيلة إلتقى ثلاثة من الفتيان، أحدهم رث الثياب ممسكٌ بخطام جمله المسن، مٌحَمَّلا فوقه بضائع التجارة الكاسدة.
- ما خبر هذا الزواج الذي أوقدت به نار النقاش في كل بيت؟
فأجابه الثاني، وقد كان ممتطياً فرسه، ويبدوا أنه سائس للخيل:
- العجائب السبع أصبح الشيخ باتل هو ثامنها. " ثم أخذ يقهقه بصوت عالٍ جداً"
وقال الثالث الذي نزل عن ظهر فرسه الحمراء، ولف حبل الرسن على كفه الأيمن لفتين، وقبض عليهما بشدة:
- لن تكون عفراء بأحسن من غيرها، لقد سبقتها نساء كثيرات، كُنَّ رهن القيود لمثل هذه الزيجات المضحكة، أما باتل فليس بآخر الأنانيين الذين لا يرضون لبناتهم مثل هذه الزيجات.
8
في يوم الزفاف تستقيظ عفراء على صوت أذان الفجر، فتقذق بشرشفها الحزين، وتقف على قديمن ضئيلتين، فترفع سبابتها اليمنى، وتشدوا ب لا إله إلا الله، فتمتلئ رئة المكان بطيب الذكر والتشهد، وتدخل للوضوء، وبعد أن قضت فرضها، ألقت بجسدها المنهدم على فراشها البائس، وبدأت ذاكرتها المهترئة تعرض مشاهد الحياة التعيسة.
أتت ليلة الزفاف، أقيمت العرضات، وغَنَّى الشعراء، ورقصت النساء، ولعبَ الصبية في عَرَصَات المحفل.
برهةٌ من الوقت، حتى أتى العريس باتل.. برهةٌ من الوقت، حتى وطأت أقدامه الهشَّة المهترئة رمل المحفل، ثم جلس في مكانه المخصص، الذي لا يليق إلا بشابٍ، قويٍّ، فتيٍّ، مستطيع.
لحظاتٌ حاسمة، ويلتقي بعفراء الكئيبة... لحظات، ويدخل عشَّ الزوجية البائس... لحظات، وتبدأ النهاية لحياة عفراء الصبيَّة.
قريبات عفراء يَنْتَظرنها تناديهم من داخل خيمة العروس، لكي يأخذنها إلى خيمة الزفاف.
وبينما عفراء داخل خيمة العروس تبصر وجهها البدري في مرآةٍ بحجم الكف تغفو على يديها القطنية، إذا بوجهها قد أصابه خسوف المآل إلى مثل هذا العجوز (باتل).
عيناها أكلها الدمع، وهيمن عليها الحزن، وشفتاها أيبستهما كلمات الرجاء إلى عمها كي ينجدها من هذا المصير.
جَمَعَت شتاتها، ثم خرجت من الجهة الخلفية المطلَّةِ على ظلمة الصحراء، تعدو قاصدةً آبار القبيلة.
تعدو وتدوس بقدميها شوك الأرض، وتتلقف كعبها الأحجار والجلاميد ، وتهاجم الأعشاب الشوكية ثوبها وتثقبه من كل ناحية.
بعد وقت قصير من الركض، اتضحت لها الآبار العتيقة بأخشابها الهزيلة.
وقفت تنظر إلى أعدادها الضئيلة، قررت أن تختار قبرها بنفسها، وأن تصدر أمراً بكيفية الموت المحبب إليها، لأنها لم تعد ترى في العودة للعيش بين أفراد القبيلة أي جدوى.
استدارت للجهة التي يشعُّ المحفل منها بأنواره وأهازيجه الصخبة، بينما رصاص الفرح يصنع ثقوباً في قطن السماء.
اختارت اكبر وأعمق بئرٍ بين تلك الآبار ووقفت على حافته الكبيرة، تنظر خلفها، وأنوار الحفل ما زالت تُشعُّ كاللهب، وأصوات أفراد القبيلة تتفاقم فرحاً، وسروراً.
أدارت وجهها إلى البئر العميقة، وقذفت بجسدها المليئ بالمفاتن إلى هاوية البئر ليرتفع صراخها الانتحاري، معلناً الرفض لمثل هذا الزواج الذي لا تقبله الإنسانية ولا يقبله العقل.
سمع النسوةُ الصوت المنزلق في الآذان كالماء الساخن، فأحسسن أن عفراء قامت بما لا يُتَوَقَّعُ منها، فتحن خيمة العروس، لا أحد سوى الجهة الخلفية مفتوحةٌ تجاه الصحراء المعتمة، فاتهجن كخيل السباق الأصيلة إلى حيث جاء الصوت، وقد هَرَعت إحداهنَّ إلى محفل الرجال لتقول ملء صوتها:
- أنجودنا يا رجال، أنجودنا يا رجال.
سمع الرجال الصوت، وأقبلوا إليه، وكأن الريح من تحتهم.
أقبلوا فُرَادَى، وجماعات، حفاة ورُكَّاب، وقد بقي في أرض المحفل المشئوم باتل العجوز، الذي هرعه الموقف فجحضت عيناه من وقع الفجيعة، فأخذ يتحسس عصاه بجانبه ثم لحق بهم.
أقبل الرجال إلى حيث قتلت اليتيمة المظلومة نفسها، أشعلوا القناديل الحزينة، وحين نزل أحدهم رأى جَسَدَ عفراء قد ارتطم بهاوية البئر، معلناً رحيلها عن دار القمع والقهر، عيناها شامختين إلى أعلى، وكأنها قائلةً لهم: ويلٌ للظالمين من مَلِك الملوك.
انتهت