قصة أفرائيم وحايد من نسل يوسف بن يعقوب

د.جعفر الكنج الدندشي

(عليهما السلام) والخضر

د.جعفر الكنج الدندشي

[email protected]

البحث عن منابع نهرالنيل

مأخوذة من المخطوطة رقم 4279 من المكتبة الوطنية في ستراسبورغ

قال الراوي: وكان السبب في وصولهما هذا المكان  أنّ حايد هذا كان نبياً (وردت نبي) من الأنبياء، عليه الصلاة والسلام، وقد وهب الله له من العمر ألف سنة، وكان صدّيقاً سائحاً أقام في بلاد الروم مئة سنة، ورحل منها إلى أرضِ مصر، فنظر إلى نيلها، فتعجّب منها ومن نيلها. فقال: إني أعطي الله عهداً  أني لا أزال سائراً حتى أقطع مجاري النيل ومخرجه (وردت مخرج).ثمّ أنه سار على جانبه يقطع الفيافي والقفار، محاذياً جانبه من بلاد العمران مدة ثلاثين سنة، وهو يعبد الله عزّ وجل، أناء الليل وأطراف النهار، والله سبحانه وتعالى يرزقه من حيث لا يحتسب. حتى انتهى إلى أرض خراب ليس فيها إنس ولا جان، إلاّ المردة من أولاد إبليس، لعنهم الله تعالى.فبينما هو يسير، وإذ بمنادٍ  من خلفه : يا حايد، إلى أين تريد وتسلك ؟  فقد قطعت مسالك الإنس ودخلت مسكن الجان  الذين يحفظون رقاب الملوك وغيرها.

فقال حايد: من أنتَ أيها المخاطب ؟

قال: أنا من الجان المؤمنين الساكنين بهذه الأرض.

فقال حايد: أريد من إحسانك أن تظهر لي حتى اشاهدك.

فقال: حبّاً وكرامة، التفت يمينك حتى تراني وتعود وتحفظ.

فالتفتَ عن يمينه، فرأى ما يذهل البصر ويرجف القلب، كالنخلقة السحوق (1)له عينان كالمشاعل، مشقوقتان طولاً بأسنان كالمناشير.

فقال حائد: السلام عليك يا أخا الجان.

فقال: وعليك السلام  يا نبي الله، ما الذي تطلبه ؟

فقال: أطلب عون الله ، وقصدي أن أنظر مجرى النيل وينبوعه.

ـــــــــــ

(1) النخلة السحوق  هي  النخلة الطويلة التي بَعُد ثمرها عن المجتني.

فقال: سألتَ عن عظيمٍ وإنه يسير على الله عزَّ وجل، سرّ أمامك.

وغاب عن عيني ولم أره. فسرت الليل والنهار في تلك الأرض الخراب مدة ثلاثين سنة، حتى انتهيت إلى (وردت من) أرضٍ من حديد (و) نحاس، وأوديتها كذلك، مدة خمس وعشرين سنة، ثم انتهيت منها إلى أرضٍ من فضة وأوديتها، وكذلك مدة خمس وعشرين سنة، ثم إلى أرض من ذهب وأوديتها، كذلك مدة خمس وعشرين سنة. فبينما أنا سائر  حتى صرت بأوسطها، وإذا أنا بجبلٍ عظيم من ذهب، وبوسطه شجرة من الذهب، وعلى رأسها طير من النحاس الأحمر، مفروش الأجنحة، مكتوب على أجنحته بالقلم السرياني: يا واصل إلى هذا المكان، ليس وراءه مسلك لأحد.

(قيل أن الإسكندر ذا القرنين ( وردت ذو القرنين) وصل إلى هنا، ومنه ما تعدّى)

فبينما أنا متفكّر في قدرة الله، عزّ وجلّ، وإذا أنا بعبدٍ من عباده له زجلٌ بالتقديس والتسبيح، فدنوتُ منه، وإذا به قائمٌ يصلي. فلما أحسّ بي أوجزَ في صلاته ، و(أ)تمّ صلاته، فسلّمت عليه، فقال:وعليك السلام يا أخي، من أنتَ  منَ الإنس أم من الجنّ ؟

فقلتُ: أنا حايد بن سالوم بن يوسف الصدّيق.

فقال العابد: أنتَ ابن أخي، وأنا أفرائيم بن يوسف.

فعند ذلك تعارفا وتعانقا. فقال: يا ابن أخي، ما الذي تريده بمجيئك إلى هذا المكان ؟

فقلتُ: إعلم أنّ الله أوحى إليَّ  مع الأمين جبريل، عليه السلام، أنّ الله تعالى جعلني من الأنبياء غير المرسلين، ووهبني من العمر ألف سنة، فأقمت في بلاد الروم منها ألف سنة، فهربتُ من بردها، فأتيت إلى مصر، فنظرتُ إلى نيلها. إلى آخر ما تقدّم ...

فقال له  أفرائيم: وأمّا قضيتي فهي مثل قضيتك سوا(ء)حتى أتيت إلى هذا المكان، وإذ بالأمين جبريل قد هبط علي من عند ربّ العالمين، وقال (لـ)إفرائيم: الحقّ يقرؤك السلام، ويخصّك بالتحية والإكرام.

فقلت : لوجه ربي الحمد والشكر، منه نبدأ وإليه نعود.

قال: إنّ الله عزّ وجلّ يأمركَ أن تقف في هذا المكان، تعبد ربك حتى يأتيك اليقين، وأن منتظرٌ أمر ربي.

قال، ثمّ قلتُ: ما قرأتَ في سفر أبينا (وردت أبونا)(1)عليه السلام، أنّ أحداً يصل إلى مجاري النيل، وينظر ينبوعه، ومن أين يخرج ماءه ؟

فقال: بلى، رجلٌ من ذرّيّة إبراهيم الخليل، عليه السلام. وأنا أرجو من الله أن يكون هو أنتَ. ولكن عليك شرط، إذا أنتَ زرت النيل ورأيت ينبوعه ومخرجه وقضيتَ زيارتك ورجعتَ سالماً، إن شاء الله تعالى، تقيم قبري كذلك، وتدعو لي بالمغفرة والرحمة إلى أن يأذن الله بما يشاء. فهذه وصيتي.

ثمّ قال: لأن تمضي من عندي إلى هذه الأرض ، مسيرتها خمس وعشرين (وردت وعشرون) سنة. وقيل أنّ الإسكندر وصل إلى ها هنا، ومنه ما تعدّى. تنتهي منها إلى أرضٍ بيضاء مشعشعة بالنور، وليس فيها شمسٌ ولا قمر.

طولها أربعون سنة ، وعرضها مثل ذلك. وقيل إنها الساهرة التي يحاسب الله تعالى  الخلائق عليها يوم القيامة. تتوسط تلك الأرض فتلقى عليها قصراً عظيماً من الياقوت الأحمر، مكللاً بالورد والجوهر، يخرج لك منه روائح كالمسك، قف على الباب واطرق الحلقة، يخرج لك منه نقيب الأولياء، الخضر، عليه السلام، يُعينكَ بشئٍ من القوت لبعد السفر ويدلّك على الطريق.

فقال له: يا عمّ، ومن أعلَمك بذلك ولم تصل إليه ؟

فقال: جبريل،عليه السلام،يأتي في كلّ وقت بالأخبار وبما أسأله(وردت أسئله).

ثمّ ودّعني وسرت حتى انتهيت إلى الأرض الكافورية، فسرت في الليل والنهار حتى أتيتُ القصر المذكور  وشاهدتُ من قَدَرِهِ ما لا أقدر على وصفه. فوقفتُ على الباب وطرقتُ الحلقة، وإذا الباب فُتِحَ وخرج منه

ـــــــــــ

(1) يعني الراوي، سفر التكوين في الكتاب المقدّس.

شيخٌ جميل الصورة، عليه نورٌ وبها(ء) فقلت: السلام عليك يا وليّ الله.

فقال: وعليك السلام يا حايد، مالذي تريد؟

فقال له: مالذي أعلمكَ باسمي ؟

فقال: القادر على كلِّ(شئ). أما تعلم أنّ أرواح (وردت الأرواح) المؤمنين جنودٌ مجنّدة في الملكوت، منها ائتلف وما تناكر منها اختلف (1)

فقلتُ: بلى، مرادي أنظر إلى نيل مصر ومن أين يخرج ماؤه.

فعند ذلك ضحك، فخرج من بين عينيه نور الحق بعنان السماء وقال: يا حايد، سألتَ عن عظيم، هل معكَ زادٌ لبعدِ السفر؟

فقلتُ: إنّ الذي خلقني يعينني.

فقال: قف مكانك.

 وغاب عني قليلاً، وأتى برمانةٍ عظيمةٍ مشرّفةٍ بالنور، ألين من الزبد(ة) وأحلى من العسل وأزكى رائحةً من المسكِ.

فقال لي: استعن بهذه الرمانة على بُعدِ السفر. فإذا قضيتَ زيارتك، ردّ الرمانة إلى مكانها.

ثمّ إني نظرت إلى داخل القصر، وإذا أنا برجال مقلّدين بسيوف، وبأيديهم رماح وبأوساطهم تراس (وردت تراكس)، وهم جالسون على كراسي من الذهب والفضة، وبأيديهم  أواني من الياقوت والزمرّد وسائر الأصناف، وداخل الآنية أطعمة تشبه الثريدن أزكى رائحة من المسك، مملوءة بأنواع الشراب، يأكلون ويشربون فرحون مستبشرون( وردت  فرحين مستبشرين)دماهم (؟) تخرج من أوداجهم ورؤسهم، والنور ساطع عليهم. فعند ذلك قلت: أريد أن اسألك عن هؤلاء القوم ؟

ـــــــــــ

(1) حديث شريف

قال: هم الذين خصّهم الله بهذه الكرامات، هؤلاء أرواح الشهداء المجاهدين في سبيل الله.

فحمدت الله تعالى على ما رأيت من نعم الله وفضله، وقلت عند ذلك: يا ولي الله، دلّني على الطريق.

فقال لي: يا حايد،  تمشي في هذه الأرض الساهرة أربعين سنة حتى تأتي آخرها، تلقى جبلاً عظيماً قد خلقه الله صوراً  لمحاذات النيل. إصعد بالقوة والتمكن إلى أعلى ذروته وقف عليها تلقى غروب الشمس يهيج بحر العجاج ويصل ماؤه إلى أعلى الجبل. وتأتي دابة عظيمة لها أربعة أوجه وأربعة قوائم، تريد أن تبلع الشمس عند غروبها، فيرسل الله ملائكة من السماء يضربونها بشهب (وردت بمشاهيب) من نار ومقامع من حديد، يضربونها في وجهها حتى تغرب الشمس في العين الحمية، تسير في ملكوت القدرة طالبة المشرق، وسيرانها خمس مئة  عام ليلاً ومثلها نهاراً. والدابة كذلك، رواحها ومجيئها. فإذا كان الوقت المعلوم، أرسل الله الآيات المفصّلات مع ابتلاع الدابة الشمس وخروج دابة الأرض، تكلّمهم مع المرأة الحسناء. تدعو الحسناء، تدعو الناس إلى نفسها ، من وطأها (وردت وطئها) كان معها في النار. وخروج المسيح الدجّال مع خروج  المهدي. وأصحاب الآيات مع خروج عيسى بن مريم، عليه السلام، ويأجوج ومأجوج وما قدّره الله على عباده. أقصد أمامك يا حايد، فإذا صرت بأعلى ذروة الجبل ورأيت من قدرة الله ما رأيت، والدابة قد انشغلت عن ابتلاع الشمس وهمّت للرجوع، ألق نفسك عليها واذكر ربّك ينقذك من الجانب الآخر في ساعة واحدة.

فقلت: يا وليَّ الله، أنتَ وصلتَ إلى هذه المواضع ؟

قال: فإذا وصلتَ إلى غرضكَ ورجعت أردد وديعتنا وعد إلى عمك إلى أن يأتيك اليقين.

فودّعته وانصرفتُ.

وكلما أكلتُ من الرمّانةِ شيئاً، عاد مكانه آخر. ولم أزل إلى أن أتيت إلى الذروة وجلستُ أعلاها وعاينتُ ما أخبرني به، وهممتُ بالرجوع (فأتت الدابة) ألقيتُ نفسي على ظهرها وغمّصت عيني (وردت عينايا) وذكرت الله كثيراً، ثمّ قلت لها: أيتها (وردت أيها) الدابة، بحق الذي خلقكِ وصوّركِ، ألا ما أخبرتيني كم بين الشطِّ والشطِّ ؟

فقالت: يا نبي الله، جبّار الجبابرة الذي ذللني (وردت ذلني) لك وأمر بطاعتكَ، أنّ بينهما خمس مئة عام للراكب المسرع، وأنا أخرجتك كلمح البصر.

فحين صرت في الجانب (الآخر) أقمتُ في مكاني يسيراً حتى سكنَ روعي وأفقتُ على نفسي، فقمتُ وتوضّأتُ وصليتُ ما يسّر الله لي، وتوجهتُ أمامي وأنا أشاهد من قدرة الله ما لا يكون ببالي.وإذا أنا بأرضٍ من زعفران، فسرتُ فيها ما شاء الله، مدة عشرين سنة. ثمّ انتهيتُ إلى أرض حصاو(تـ)ـها الدرّ والمرجان وأشجارها وأثمارها، فبينما أنا سائرٌ في تلك الأرض  أُشاهد طولها وعرضها، نظرتُ إلى قبّةٍ من لؤلؤٍ أبيض يُرى باطنها في ظاهرها وعكسه. شاهقةٌ في الهواء، دورها سنة كاملة، لها أربعة أبواب، بين كلّ بابين مسيرة ثلاثة أشهر (1)في داخل كلِّ بابٍ عين عظيمة، ينبع الماء منها، لها رائحة أزكى من المسك وأحلى من العسل. وحول تلك القبة زجلٌ بالتسبيح والتقديس. فتقدّمتُ إلى تلك الأعين وتوضّأت منها وشربت. وإذا بالماء من تلك الأعين يعلو إلى فوق  ثم ّ يغور. فقلت: الله أعلم ، أنّ هذا مُنتهى النيل. فبينما أنا أتفكّر، وإذا بالنداء من ورائي: يا حائد ماتريد؟

فقلتُ: منأنتَ أيها المخاطب لي ؟

فقال: أنا جبريل.

فسلمتُ ، فردَّ علي السلام. فقلتُ : يا أخي جبريل، إني أعطيتُ ربي عهداً أني لا أزال سائراً إلى أن أنظر مجرى النيل وينبوعه. فسرتُ والقدرة تدلّني من مكان إلى هذا المكان، وهذا ما عندي يا أخي جبريل.

فقال: قد هان الأمر، وما يبلغ أحدٌ مجرى النبل  إلاّ أنتَ وأبو العبّاس الخضر. يا حايد، أُقصد أمامك.

ـــــــــــ

(1) ربما يعني الراوي الفصول الأربعة، وها هنا درّة الشمس.

فقلتُ: يا أخي جبريل، ما هذه القبة التي ركّبها الله بالقدرة على الأعين ؟ وهي من الجنة التي في الدنيا؟ عيون جنة الأرض.

فقال جبريل: أما الأولى بالحرم الشريف، وهي بئر زمزم، وأما الثانية، فهي عين سلوان بالقدس الشريف، وأما الثالثة فهي عين البقر بأرض عكا( وردت عكى)وأمّا الرابعة فهي عين القلوس. فماء زمزم لمّا يُشرَبُ (منها) مع اعتقاد النية الخالصة، لتطهير القلوب، وما عين السلوان لتغسيل  الأجساد من الأدناس، وماء عين البقر لتغسيل البواطن  بصدق النية مع خالص التوبة، وماء عين القلوس لإذهاب القلوس (1)

فهذه الأربعة أعين أخرجها الله تعالى في دار الدنيا، وهي سائرة في غامض علمه. فمَن شرب من عين البقر في أرض عكا (وردت عكى) واغتسل من نهر الأخشين، وصلّى في الرملة البيضاء ركعتين، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه.

وغاب على حسّه فلم أسمعه.

ثمّ توجّهتُ أمامي سائراً في أرضٍ كافوريةٍ مدّة أربعين سنة، وإذ قد انتهيتُ إلى قبّة عظيمة من نورٍ، لا يستطيع أحدٌ أن ينظر إليها ولا يقف على هيبتها، وبداخلها عمود من نور. وإذا برفوف من الملائكة صاعدين ونازلين، لا يعلم عدّتهم إلاّ الله، سبحانه وتعالى، ولهم زجلٌ بالتسبيح والتهليل. فبينما أنا متفكّرٌ في ذلك ، ونورٌ قد أحاظ بي من كلّ مكان، وإذا بمنادي: يا حايد.

فقلتُ: لبيك، من أنتَ أيها المخاطب ؟

فقال: أنا جبريل.

فالتفتُّ فرأيت المطوّقَ بالنور عن يميني، فقلت: السلام عليك يا أخي جبريل.

فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

فقال: يا حائد، ما مرادك ؟

ـــــــــــ

 (1) القلوس، من بين معانيه القئ  أو ما خرج من الحلق ملأ الفم.

فقلت: أما تعلمُ أنّ قصدي أن أنظر

إلى نيل مصر ! وحبث من أقصى أرض الله، عزّ وجلّ إلى هذا المكان (؟) ثمّ قلتُ له : قد أمن الله روعي بك، دلّني على الطريق.

فقال:يا حايد، منتهى النيل أمرٌ عظيم، أما تنظر إلى هذا العمود والنور الذي هو داخل القبّة؟

فقلتُ: نعم.

قال: ثبّت جنانك وانظر إلى هذه المياه التي تنحدر من أعلى جوانب هذا العمود.

فقلت له: أَنظر !

فقال لي: هذه الأربعة أنهار التي خلقها الله ، عزّ وجلّ، في الجنة بدار الدنيا، وهي نهرٌ من عسلٍ مُصفّى، وهو(وردت وهي) نيل مصر، ونهر من خمر لذّةً للشاربين، وهو نيل الفرات، ونهر من لبن لم يتغيير وهو نهر سيحون، ونهر من ماءٍ غير آسن (1) وهو نهر جيحون (2)فهذه الأربعة أنهار التي خلقها الله في الجنة وأنزلها في الدنيا وأظهر كراماتها مدار الدنيا، فهم ينحدرون ( وردت فهنّ ينحدرن) من جوانب هذا العمود، من حيث شاء الله تعالى، وكلّ نهر بذاته في غامض علمه، عزَّ وجلّ.

فقال: يا حايد: إنّ هذا النور قد خُرِقَ بقدرة الله تعالى حتى جاوز السماء السابعة إلى سدرة المنتهى، إلى جنة الفردوس، وهو نازلة (أي الينابيع) في غامض علمه يزيها وينقصها كيف شاء بقدرته. فهذا مُنتهى النيل يا حايد. أحمد الله واشكره على ما أولاك من النعم، واشرب من هذه الأنهار التي لم تُدنّس، ففعلت.

ـــــــــــ

(1) الماء الآسن الذي لا يشربه الناس من نتنه، ويعني الراوي هنا بالصافي الطعم.

(2) روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة. أنظر صحيح مسلم ، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة.

فردّ عني جبريل وقال:  إرجع من حيث أتيت ولا تقف مكانك فتهلك. وغاب عني شخصه، فلم أره. وأخذتني الضجات والزعقات من كلّ مكان، وقائلٌ يقول: إسمع، وقائلٌ يقول إرجع، فحصل لي من الهيبة ما غيّبني عن صوابي، فندمتُ من حيث  لا ينفع الندم.ورجعت والضجات والرجفات تأخذني من كلّ جانب ومكان. فتارةً أجري وتارة أقف ألتفت...ولم أزل هذا دأبي حتى أتيتُ إلى مكان ابتلاع الدابة الشمس. فوقفت أنتظرها إلى حين أقبلتْ. فركبت كما فعلتُ أول مرة ، إلى أن رمتني إلى الجانب الآخر، فجلستُ حتى هدأ روعي، وتوجهتُ إلى أمامي حتى أتيتُ إلى القصر، فطرقتُ الحلقة. وإذا بالخضر، عليه السلام، قد لاقاني، وبالسلامة هنّأني، وسألني عمّا رأيتُ. فحدّثته بذلك. فقال: (الله) يخصّ برحمته مَن يشاء. ثمّ أني أعدت (وردت  عاودت) إليه الرمانة ورجعتُ إلى أن أتيتُ عمي أفرائيم، فرأيته قد انتقل بالوفاة، وله قصر ساطع النور، ووقفتُ مستغفراً لي وله. وإذا بالأمين جبريل قد هبط لزيارة عمي ومعه جماعة من الملائكة. فقال: السلام عليك يا حايد.

 فقلتُ : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أخي جبريل.

فقال: الحقّ يقريكَ السلام ويخضّك بالتحية والإكرام.

 فخضعت ساجداً بين يدي الله عزّ وجل.

فقلتُ: لوجه ربي السلام والحمد والشكر.

فقال : يا حايد، إنَّ الله يأمرك أن تُقيم في هذا المكان، على قبر عمك، تعبده وتستغفره حتى يأتيكَ اليقين. ففعلت ما أمرني به ربي ، وتفكّرتُ في نفسي، فقلتُ: لعلّ أحداً ينظر إلى هذا النيل، فتحدّثه نفسه بما حدّثتني( نفسي) به. فعمدت إلى لوحٍ من خشبٍ ، ورسمتُ فيه ما كان من حديث النيل، وما شاهدته من العجائب وأطلقته مع النيل وقلتُ: لعلّ هذا يلقيه الله سبحانه وتعالى حيث شاء من بلاده، ويخض به من يشاء من عباده. فيا مَن وقعت في يده هذه البشارة، تحمد الله وتشكره وتستغفره.

فكانت  مسافة النيل من ينبوعه إلى أرض مصر خمس مئة وخمس وثلاثين ( وردت خمسة  وثلاثون) سنة. واعلم أنّ هذا العمود والنور ،كل يوم،تزوره الملائكة، وهم سبعون ألف، لا تعود إليهم النوبة إلى يوم القيامة. ونظيره في السماء البيت المعمور. يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك ، لا تعود إليهم النوبة إلى يوم القيامة.

وأمّا حدّ إقليم مصر، فهو العريش على أسوان طولهن وأما عرضه فمن برقة إلى إيلة، أربعون (وردت أربعين) يوماُ (ثلاثون) طولاً وعشرة عرضاً.