المنتصرون

محمد فتحي محمد فوزي

[email protected]

غربت الشمس وتلون الأ ُفق بالشفق الأحمر، وطفقت جحافل الظلام تزحف ؛ لتنشر أجنحتها على الكون ، وقرص القمر يتحرك رويداً، رويدا,متسللاً إلى كبد السماء الصافية ،"وبخيت" يرقد في فناء مكشوف بمنزله يرقب كل ذلك، متأملا الحياة في ليلة صيف يداعب فيها نسيم "الطياب" النخيل ؛ فتهتز راقصة على أوتار صفير الليل الهادئ، وأخذ الفتى يتقلب بين فكرهِ تارة ً وتأمله تارة ً أخرى؛ ليحسم موقفه من سفره إلى "السعودية"،وإبقاء والدته التي قاربت على الشيخوخة وحدها؛ فانتهى قراره إلى السفر والكفاح.تجولت عينيه بحثا ً عن أمه في المنزل إلى أن رآها تعد طعام الإفطار، وعندما اقتربت منه بالطعام إغرورقت عيناه بالدموع، وشرع في الحديث معها قائلا: أ ُمي ، أريد التحدث معك في موضوع سفري إلى"السعودية"؛ لأعمل هناك بعد قِلة مواردنا هنا؛فقاطعته الأم مذعورة صائحة:" السعودية!!" ولماذا يا ولدى!, من رضى بقليله عاش!؛ فهدأ "بخيت" من روعها , وراح يربت على كتفها قائلا :سأعمل يا أمي وأرسل إليك مصروفك الشهري وأكثر بإذن الله، فإني محتاج لمصاريف كثيرة منها الزواج والمعيشة، وبُدى أشترى قطعة أرض تزود دخلنا مع الوظيفة؛ فردت قائلة:إذا كان هذا يرضيك يا ولدى ؛ فتوكل على الله. إلتقم "بخيت" آخر لُقيمة في فمه، وأعقبها برشفة ماء ، ثم خرج لإنهاء إجراءات سفره ، وبعد أيام حزم حقائبه للسفر, وعانقت الأم ابنها عناقا حارا، ثم أشاح بوجهه وقد تدفقت ينابيع الحب في قلبه لتراب وطنه المقدس، ولم ينقذه من هذا الإحساس المتدفق سِوى الارتماء في أحضان السفينة المقلة له إلى السعودية، وقد اتشح الكون بوشاح الليل الأسود وكأنه يُعبِِر عن أحزانه الكامنة في أعماق نفسه من المجهول وما يترتب عليه.

وصل "بخيت" إلى أحد منازل أصدقائه ، ووجد عمله في إحدى حدائق الأثرياء، ومرت الأيام ودارت دورتها، وفى يوم انقلبت به السيارة ولم يشعر بنفسه إلا في المستشفى وهو في حالة يُرثى لها ، لم يفق منها إلا بإخلاصه في عمله وقبله فضل الله عليه ؛ فنهض مستوضحا الموقف ؛ فأخبروه بأنه كان على شفا الموت ؛ فحمد الله.

وفى إحدى الأمُسيات و"بخيت" جالس بالمقهى يتأمل المارة , وصوت المذياع المنخفض يردد الأغاني والأهازيج, وفجأة فاق على صوت الموسيقى والمارشات العسكرية , والمذيع ينبئ بنشوب اشتباكات حربية على ضفة القناة في الشقيقة مصر.

ففارت الدماء وغلت في عروق "بخيت " ، وكان هنا الحنين إلى الوطن مدثرا بحنين الأم، فعاد الفتى إلى مصر ، منتشيا هاتفا : "ما أجمل نهر النيل 00شريان الحياة النابض في بلدنا."

وانطلق "بخيت" رأسا ليتطوع في الجيش ؛ ليكون الدرع الواقي لبلده وأهله وعشيرته ، فانخرط في سلك القوات المسلحة بين التدريب والعمل على ضفاف السويس الباسلة ، فكانت الحرب ,صفير الطائرات المنخفضة التي طالما صفق لها الجنود وهى عائدة من تأدية مهامها بنجاح ، باثة ً الطمأنينة في نفوسهم,ثم رعد المدافع، وامتداد الكباري عرض القناة وتدفق المياه ، فوق الساتر الترابي ،وزمجرة الدبابات، وتطاير شرارات قاذفات اللهب، وأصوات طلقات الرشاشات يتجاوب صداها مع الكون ، يعقبها صيحات النصر الله أكبر!! ،الله أكبر!!.

وأثناء هذا الهجوم ضل "بخيت" طريقه ومعه بعض أفراد مجموعته ، والليل يُرخى سدوله ؛ فأبلغوا قيادة الكتيبة التي أعطتهم أوامرها بالسير على ضوء الطلقات النارية الكاشفة في المساء ؛لتهديهم إلى الطريق الصواب ، وانطلقت الكاشفات متتابعة وراء بعضها البعض؛ لتنيرالطريق الموحش للفتى ورفاقه ، وهو مشغول بالتنصت للبيانات العسكرية المنتصرة البيان تلو البيان ، وتوقفت الطلقات الكاشفة مع ظهور خيوط الفجر، ووضح الطريق أمام المقاتلين , وبزغت الشمس مشرقة ً مسقطة أشعتها على دماء الشهداء الممتزجة برمال سيناء الأبدية , وعندما اقترب من كتيبته ورفاقه ، داهمهم كمين من العدو ؛فاشتبك الطرفان في قتال عنيف أبلى فيه الرفاق بلاءً حسنا، ثم تابعوا سيرهم حتى تمكنوا من الوصول إلى قيادتهم بعد جهدٍ شاق , و"بخيت" دموعه متحجرة في مآقيها تكاد تصير دما ًمن فرط حُزْنِهِ على شهداء النصر ،وأدار ظهرَهُ للجبال مقطبا للأفق منصرفا ،مرددا بصوت خافت مخاطبا نفسه مصبرا لها ولكن هو النصر"وإن جندنا لهم الغالبون" , فهذا ثمن العزة والكرامة وإننا

"المنتصرون" ،"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا, بل أحياء عند ربهم يرزقون" صدق الله العظيم. وعاد "بخيت" إلى المدينة مع رفاقه، وسط فرحة غامرة بين الورود وزغاريد الفرحة من كل حدب وصوب، والمارشات العسكرية تعزف موسيقى النصر والاستعراضات الدفاعية تسير.