قصص قصيرة
قصص قصيرة
ماجد بن سليمان
(1)
زجاج النوم..
كعادتي كل صباح أنهض شبه متكاسل، أهش ببديَّ على خفافيش النوم حتى تبتعد عن سمائي، أُزعج المكان بتثاؤبي الثقيل، و أسمع زجاج النوم قد تحطَّم من حول جسدي، أحدِّق في سقف غرفتي، وكأنني أشاهده للوهلة الأولى، أراقب زخارفه الملونة بنهم، أغازل خطوط الجبس الملصقة عليه بتمعن شديد، تكاد هذه العادة لا تفارقني كل صباح.
أدفع ببطانيتي سورية الصنع عن جسدي النحيل، وكأني أدفع كيساً كبيراً من القمح، أتجه إلى حمام غرفتي ببطء شديد، كالماشي على البيض خشية أن يتكسر.
أقف عن باب الحمام قليلاً، وكأنني أتلصص عليه، أدلفه، وأدخل بهدوء حتى لا تستيقظ زوجتي النائمة.
أفتح صنبور الماء فترحب بي قطراته الأولى، فأدرج كفيَّ تحته حتى تغرقان بللاً.
أغسل وجهي ثم أدعكه بالصابون المحبب إليّ، ثم أرفع رأسي لأشاهد وجهي المعجون بالماء والصابون، وكأنه يقول لي:
- ما أحمقك.
فتتسع عيناي دهشةَ، وأحسبني صدقت نفسي!!.
أخرج من ملابسي، وأشتُمُهَا علناً بعد أن أعلن دفنها في سلة الملابس المخصصة للغسيل.
أدخل بعدها في حوض الماء الفائح برائحة الصابون المغربي لأغرق فيه بعض دقائق.
بعد نصف ساعة أكون متجهاً إلى عملي اليومي.
(2)
ليس هناك ما يُبهج..
أفتح المذياع كعادتي كل صباح قبل أن أصل إلى مقر عملي، أغيّر من محطة إلى محطة، فأنا لا أحب السياسة حتى وإن كانت تخص بلدي، فكانت كل المحطات التي أغيّر منها إلى الأخرى:
-إسرائيل تقصف مبنى الـ.........
زززززززززززززززززززززز
زززززززززززززززززززززز
-استقبل خادم الحرمين الشريفين الملك............
لم أجد ما يروق لي، أخذت أكرر البحث عن ما قد يسليني حتى الوصول:
-سوق الأسهم السعودية في تدهور شديد، وقد التقينا اليـ....
ززززززززززززززززززززززز
- ألو، معنا المتصلة نجاح من منطقة الرياض تفضلي:
ززززززززززززززززززززززز
أُغلِقُ المذياع، أضرب بكفي مقود السيارة، أعضُّ بأسناني على أسناني:
- أففففففففف، ليس هناك ما يُبهج ؟!
(3)
البَدَوي المُدْلِجْ..
في صحراء الدهناء الشاسعة، أدلج ذلك البدوي الكادح الطَموح، الذي لَمْ تُغري عينيه حياة التمدن، ولم يفكر في أن تغرق أذنيه في صخب الشوارع المزدحمة، أدلج بقدمين حافيتين صامدتين، فوق الرمال الذهبية، تتلوه خمسٌ من النوق الصفراء، مُعَلِّقَاً على إحداهنَّ قربته الصامدة، وبندقيته المتينة، ومِزْوَدَتهُ المتواضعة.
أثناء السير المتواصل دَحْرَجَ نظرةً إلى اليمين فرأى على مدِّ بصره شعاع النور المنبسط على أكتاف المدينة، كالجديلة على أكتاف جميلةٍ من الجميلات، فَغَرَسَ نفسه بُرهةً من الوقت سائلاً نفسه:
- أيعمر أهل المدينة مدينتهم بذكر الله كما عمروها بالتطور العمراني المهيل؟.
- هل باب يومهم مفتوح بصلاة الفجر مع الجماعة وموصدٌ بصلاة العشاء مع الجماعة؟.
- هل أنفسهم مغموسةٌ في الطاعات بعدد ما هي مغموسةٌ في الملهيات والملذات؟.
- هل قَدروا الله حقَّ قدره ،أم أكلت أرضة الغفلة خشب أرواحهم؟.
- هل؟.......... وهل؟........... وهل؟
بِضْعُ تساؤلات تنهش جدار صدر هذا البدوي المتذلل إلى ربه، فهو في شغف طويلٍ عريضٍ لمعرفة الإجابة المختبئة تحت أثواب الحقيقة المرَّة.
وفي غمضة عينٍ وانتباهتها، يرتطم صوت الإجابة من خلف كثبان الصحراء الغارقة بروائح الحرمل، والعرفج، والعشب البريّ، قائلةً له:
- حُثَّ السير، ولا تمكث لإجابة قد تُقِضُّ مضجعك، وتحفر اليأس في أرض أَمَلِكَ الممتد بالخير.
أيها البدوي، ما بالك بهؤلاءِ المقبلين بخيلهم، ورَجْلِهم خلف الدنيا القذرة، ما بالك بقومٍ أصيبوا بسعار حب المال، حُثَّ السير أيها البدوي، لا تسأل حتى لا يصيبك دوار الإجابة المحبطة، حُثَّ السير أو عُدْ إلى خيمتك الهادئة، وأشعل نارك وافتح مصحفك ورَتِّل مع نسيم الليل المغري قولة تعالى ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ )، حتى يسري بها حادي الليل إلى أسماع المتمدنين من بني البشر، لعلَّها تحدثُ أمرا.
فما كان من ذلك البدوي إلا أن رفع رأسه إلى السماء، وَقَذَفَ من فَمِهِ الذي ضَمَّ بين شفتيه سِواكاً من الأراك قائلاً: اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرة، فشدَّ خِطَامَ ناقته فتلتها بقية النوق ولسانه يلهث بــ ( اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرة ، اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرة ).
(4)
المدخن..
جَلَسَ القرفصاء، أمام إحدى المقاهي المتناثرة على شريط الطريق الساحلي، أخرج من جيبه عُلبة التبغ، وألقم فاه طرف إحدى تلك السجائر النتنةِ، وأخذت عيناه تحلق في المارين أمامه، أخذ نَفَسَاً من الدخان، وزفره في كبد الهواء، تخشَّبت عيناه في المقهى المقابل له، سيجارة تلو أخرى، تلو أخرى، وأخذت أسئلة المارين تتدحرج أمامه بلا استحياء:
..... ما أحمق هذا الرجل!!....... ما أعجب شأنه!!
و هو ما زال يقتل سجائرة بلا ملل، فوقف أمامه صبيٌّ في عقده الأول، وقذف في وجهه قائلاً:
- ألا يوجد لديك بيت، حتى تنشر عفنك أمام المارين في هذا الشارع؟!
فغصَّ الرجل بدخانه، وارتفع صوت سعاله، ثم تنهد وقال:
- ما أغباك من صبي، ما أنا إلا هاربٌ من البيت إلى الشارع.
فاستدار الصبيُّ، وأكمل سيره، وعلامات التعجب تتقافز فوق راسه.