الزّبون الجديد

ميزوني محمد البنّاني

الزّبون الجديد

ميزوني محمد البنّاني

[email protected]

"...تصاعد أيّها الدخان ببطء و خيلاء

در حول نفسك بنرجسية

ارقص ، تمايس ، ترنّح ، و تشكّل

مارس حياتك القصيرة ، و تذوّقها ، و تحسّس نبضها ، واجهش بالضحك و الغناء

دندن، قل كلّ الكلام ، و اجعل لقلبك جناحين ، و افتح نوافذ غرفة أحاسيسك نافذة ، نافذة

آه ! لو تدري كم هو قصير عمرك.

ليكن ثانية أو ثانيتين

ليكن دقيقة أو دقيقتين.

لن يكفيك لأخذ لعقة واحدة من صحن الحياة المر ، الحلو ، ولا لاستنشاق أريج زهرة واحدة ، ولا لكشف سرّ واحد من أسرار البحر ، ولا لمعرفة حتىّ ماذا تريد الرياح العاتية من قصبة ضعيفة

آه ! لو تدري كم هو قصير عمرك أيّها الدخان !

ليكن يوما أو يومين.

ليكن شهرا أو شهرين.

لن يكفيك لترشف رشفة واحدة من قهوة فنجان طافح بنكهة لا تفنى . نكهة مهما حاولت الضفر بها ، توالدت ، وتشعّبت.

لن يكفيك لتضفر بنبضة صادقة من قلب أنثى في زحمة الحياة الماكرة.

لن يكفيك لمعرفة لماذا كلما تفتحّت في الروض زهرة تسابقت إلى قطفها الأيدي.

لن يكفيك لتعرف هل يمكن للسلام أن يتحقق مقابل الأرض و العرض ؟"

و كان "إبراهيم" سيسترسل في خطابه الباطني ، لو لم يتلاش خيط الدخان عند سقف المقهى مطلقا آهة وداع مريرة ، لم يسمعها في المقهى غيره ، فجذب بشوق نفسا آخر من سيجارته ، فيما راحت عيناه تتابعان مصير خيط الدخان الجديد الذي انطلق من سيجارته متصاعدا ببطء و خيلاء فوق الرؤوس

ما لك يا "إبراهيم"، صرت منذ شهور، تتابع ميلاد الآلاف من خيوط الدخان و فنائها في هذا المقهى العتيق ؟

ما لك تترصد النهايات في الأشجار المسنة ، و في أعقاب الشموع الذائبة ، و في أجباح السيارات المهملة ، خارج المدينة ، و في شبح مسن يساعده الخيرون على قطع الطريق ؟

حك "ابراهيم" بيد ذقنه عله ينتشل من وهدة الأسئلة المنهمرة ، و يده الأخرى تشيع أعقاب السيجارة إلى المرمدة.هم بسحقها بالسبابة و الإبهام داخل الآنية ،لكنه تراجع مفضلا في النهاية تسجيتها إلى جانب غيرها من جثث السجائر المستهلكة

خيوط الدخان مازالت تتصاعد باحثة عن نحبها فوق رؤوس منتشية بلعب الورق ، و النادل مازال لم يعد بعد بكأس الشاي التي يفضّل "إبراهيم" أن يرى داخلها قطعة ليمون.

ما به النادل هو الآخر ؟

منذ أشهر ، صار لا يعير هذا الزبون الوفي ل"مقهى الأحباب " أيّ اهتمام

فيما مضى، كان يكفي أن يشير المدرس "إبراهيم" إليه بسبابته الكبيرة حتى يأتيه مهرولا و على طبقة البراق كأس الشاي ، و كأس الماء ، و كلمات معسولة تنزّ ترحيبا و احتراما . الكأسان بضعهما أمامه بعد مسح المنضدة المربعة بإسفنجة صفراء ، و الكلمات يلقيها عليه كما يلقي تلميذ مبتدئ محفوظات لا يعنيها ، ثم يتقهقر بخطوتين مبتذلتين داسّا في جيبه ما اعتاد هذا الزبون، منذ ثلاثة عقود خلت، أن يهبه من قطع نقدية تصبح بيضاء موفى كل شهر ، و إذا لم ينصرف بعد ، فهم هذا أنّ للنادل رجاء آخر ، فيخاطبه بأريحية :

- هات ما عندك يا مبروك.

- ابن جار أخي ..

- ما به ؟ ليت ضرّا لم يمسسه !

- لا بأس عليه، و لكن سيرسب إن لم تتوسط له في النجاح . هو الرئة الوحيدة التي تتنفس بها أمه .. ستكلّف من يعتني به في عطلة الصيف حتى يتدارك ضعفه في بعض المواد، سيكون هذا طلبي الأخير يا سيدي «إبراهيم".

- و لكن يا "مبروك" .. الانتقال من فصل إلى آخر مثل رفع الأثقال تماما فإذا عجز مثلا اللاعب عن رفع سبعين كيلوغراما ، فكيف يستطيع رفع ثمانين كيلوغراما ؟

سيتقزّم ظهره بالتأكيد. أتفهمني ؟

خيوط الدخان مازالت تتشكل فوق الرؤوس غيمة بعد غيمة ، و النادل مازال منشغلا عنك بتلبية طلبات الآخرين

هذا الجاحد. تبّا له !

و لكنه ليس الوحيد الذي بدأ منذ دخولك سن التقاعد يتجاهلك، و يتعالى عليك.

هل صار معارفك، في هذه المدينة، ينظرون إليك كما لو صرت آلة كوقف عطاؤها، فوقع شطب اسمها من قائمة الآلات المنتجة، و إيداعها متاحف الزمن العتيق.

هذا الجاحد تبّا له !

و لكنه ليس الوحيد الذي وضعك على كنبة العاطلين و العاجزين، و شطب اسمك من قائمة المدرسين.

خيوط الدخان مازالت تنشطر ، و تتسلق بعضها البعض ، و أنت ، لازلت جالسا أمام منضدة تربطك بها صداقة سنين عجاف .

لماذا يا "إبراهيم" لا تجلس إلاّ و هي أمامك ؟

أخلت المقهى من المناضد ؟.

ماذا يشدّك إلى هذه المنضدة العجوز ؟

جوانبها تآكلت ، وطلاؤها أفل تحت سياط السنين ، و أكثر من هذا ، سيقانها صارت لا تقوى على حملها ، كما أصبحت تحدث صريرا مؤذيا للسمع كلما اتكأت عليها

هذا الجاحد . تبّا له !

ها هو يقترب من زبون جديد منحنيا في خشوع ، و تلك الكلمات العسلية التي تعرفها تنهمر من فمه كحبات المطر ، فتقع على وجه المنضدة محدثة إيقاعا تتراقص على نغماته أسارير الزبون

ها هما يتهامسان و عيونهما عليك.

تخشى يا "إبراهيم" أن يكون هذا الزبون مخبرا يجمع معلومات تخص شخصك !

و لكنك لم تسرق ، و لم تحرق أحدا .

أنت المسروق ، و أنت المحترق

أنت الذي سرق الصبيان عمرك، و أنت الذي عشت شمعة تحترق ليهتدي الصبيان بنورها إلى الطريق !

ليأت إذن .

سترفع له شكوى ضد المجتمع .

ستفتح دمالاتك أمامه ليرى كم أنت عليل موجوع يا إبراهيم ! و ستقول له :

"يا سيدي المخبر، في حياتي لم أتزوج إلا مهنة التدريس، و أطفالي هم كل التلاميذ الذين احترقت من أجلهم قرابة الأربعين حولا ، و اليوم يا سيدي المخبر ،هل أشتكي إليك من زوجتي و من أبنائي ؟ ".

و لكن الزبون الجديد لم يكن إلا تلميذا من تلاميذك القدامى . قال لك لتزداد تذكرا لشخصه:

- أنا الذي كاد ذلك الذئب الأغبر أن يفترسني.

- يا إلاهي ! أنت "عبد الدائم" إذن، أغرب ما في تلك الحكاية أن أباك نصب، يومها، فخّا للذئب فوقعت فيه، ذات فجر، و أنت في الطريق إلى تلك المدرسة الريفية البعيدة عن منزلكم.

- و لولا سماع الكلاب لصراخي، لما اكتفى الذئب بترويعي.

خيوط الدخان مازالت تلف بعضها البعض لتصبح بكرة من الضياع ، و تلميذك القديم بجانبك أمام منضدتك المفضلة ، يتحدث بلسان تخاله من حين إلى آخر لسانك ، فتشعل سيجارة ثم تنشغل عنه بإطفاء عود الثقاب لتعود بعدها إلى الاهتمام به

- و إلى أين وصلت في دراستك، الآن، يا عبد الدائم ؟

- تخرجت العام الفارط من مدارس الترشيح ، و ها أنا الآن معلم متربص بمدرسة "الأمل" القريبة من هنا .

نظرت إليه مغتبطا. خاطبته بلهجة صادقة :

- سعيد بلقائك أيها الزميل الجديد!

أضفت و أنت ترى أساريره تنبسط:

- قل إنّك اخترت التّدريس.. أليس كذلك ؟

تطلع إليك باعتزاز و ثقة بالنّفس :

- بلى . حبّي للصّبيان تسلّل إلى قلبي من بين يديك..

أحسست بقلبك يتفتّح كزهرة، و بالبهجة تفيض على جوانبه و دار أمامك شريط ذكريات أكثر من ثلاثين سنة من التّدريس.

عدت من الماضي لتجد نفسك تربت على كتف تلميذك بأبوة وإعجاب.

تطلعت إليه فوجدته يحدّق فيك بإجلال و إكبار، نجحت في رسم ابتسامة عريضة على شفتيك المرتعشتين، و بعد وقت قصير، رحت تقول بابتهاج و تفاؤل:

- ستمارس مهنتك بفنّ. ستجد أنت و أطفالك سعادتكم في الفصل . ستقبلون سويّة على الدّرس كما تقبلون على الفرح . ذلك أفضل معين يمدّك بالقوّة و الاستمرار

 خيوط الدخان ما تزال تتصاعد في إعياء فوق رؤوس منقطعة عن العالم لا تتساءل إلى أين ترى تأخذهم القاطرة ، ولا كيف و متى ستعود "القدس" ، ولا كم من فرسخ بقي يفصل كلاّبات العدوّ عن الوريد . و النادل "مبروك" عاد على غير عادته – منذ أشهر – بسرعة ، و على طبقة البرّاق كأس شاي تسبح فيه قطعة ليمون ، و كأس ماء مبرد ، و كلمات معسولة تنز ترحيبا و احتراما ليس لك ، بل للزبون الجديد تلميذك القديم . الكأسان وضعهما أمامه بعد مسح المنضدة المربّعة بإسفنجة صفراء ، و الكلمات ألقاها عليه كما يلقي تلميذ مبتدئ محفوظات لا يعنيها ، ثم تقهقر بخطوتين مبتذلتين داسّا في جيبه ما وهبه الزبون الجديد من قطع نقدية صفراء حتما ستصبح بيضاء موفى كل شهر ، و لمّا لم ينصرف بعد فهم تلميذك القديم أن لمبروك رجاء آخر فخاطبه بأريحية :

- هات ما عندك يا مبروك:

- ابن ..

- ما به ؟ ليت ضرّا لم يمسسه !

- لا بأس عليه ، و لكن ...... سيكون هذا طلبي الأخير يا سيدي عبد الدائم

- و لكن يا مبروك . سيتقزّم ظهره بالتأكيد

ابتسمت ، بل لعلّك قهقهت و أنت تغادر منضدتك القديمة إلى منضدة جديدة

لن تفقد احترامك لنفسك .

أنت "إبراهيم المدرس". أعطيت أكثر من ثلاثين سنة من عمرك للأطفال

خيوط الدخان مازالت تتصاعد معا لتتخرم في عنان سماء المقهى العتيق ،لكنّها بدت لك هذه المرّة من مكانك الجديد ترقص جذلى وهي تتجلّل بفيض نور بدأ في الانبعاث من داخل قلبك الشّمعة.