وقال الرجل العجوز

وقال الرجل العجوز

عادل العابر - الأحواز

[email protected]

(1)

لف سيجارته بهدوء وكأن التجارب علمته أن العجلة لا تتقن العمل البتة، ثم أشعلها ومص دخانها إلى رئتيه المسكينتين لينفث الدخان بعدها وهو يلم التتن الذي تبعثر عند لف السيجارة ويرجعه في علبته الصدئة.

نظر إليّ نظرة طويلة وتبسم، ثم مسك مسبحته بيده اليمنى وصار يسقط خرزها واحدة تلو الأخرى ثم قال بصوت منخفض:

أكتبْ ما مرت عليّ من قصص.

قلت: وإن كانت محكية من قبل؟

قال: ربما، ولكن معظمها حدث في قريتنا ورأيت أحداثها بأم عيني.

وشرع يقص قصته الأولى فقال:

كنا نذهب من القرية إلى المدينة لشراء بعض الحاجات، يحدث ذلك كل فصل مرة ... في الشتاء وفي الربيع  وفي القيظ وفي الصفري، فالحياة الريفية كانت قد أغنتنا من ضوضاء المدينة وأسواقها، نشرب من لبن الغنم والبقر ونأكل مما نزرع.

و في مرة من المرات، ذهب وفد من القرية إلى سوق المدينة، وكان أهل القرية يوصون الوافدين ليجلبوا لهم بعض ما يحتاجون إليه كـ الملابس والرز والشاي. ولم يحدث أن رفض شخص من الذاهبين إلى المدينة طلبَ أحد من أهل القرية أو تعذر، فقد كان التعاون بين القرويين كـ واجب يحترمه الجميع.

وفي تلك المرة التي غبش فيها الرجال إلى المدينة، لم يستيقظ (مسكين) من النوم مبكراً، فعندما أحضر نقوده ليوصيهم أن يشتروا له رزاً، كان الرجال قد طووا مسافة لا يستهان بها من الطريق، فركض مسكين خلفهم يصيح بأعلى صوته:

إنتظروني فلقد جلبت فلوسي معي لتشتروا لي رزاً،

وبالصدفة مر قطاع طرق على القرية، وشموا رائحة الفلوس من صوته! فأجابوه:

الحق بنا، الحق بنا ... وهو يراهم غير أنه لم يعرفهم لبعد المسافة والظلام الذي لم يزح ستاره من البطحاء بعد ... والصوت قبل طلوع الشمس يُسمع من بعيد.

ولما بعدوا عن القرية، انتظروه حتى وصل، فأخذوا ما جمعه من نقود خلال فصل كامل ثم سألوه ساخرين:

أي نوع من الرز تريد؟! أبيض أم أحمر؟!

ثم خلعوا (دشداشته) بالقوة لتكون غنيمتهم الأخرى! ولما تبين لهم أنه لم يلبس ملابس داخلية، رجعوها إليه وطردوه نحو القرية.

ومنذ أن قص مسكين ما جرى عليه من ظلم، سار المثل الجديد التالي في قريتنا والقرى المجاورة:

( فلوس مسكين للسلابة).

(2)

لم أطرق الباب، فقد وجدته مفتوحاً ورأيت صديقى العجوز يتغدى في الحوش.

هتف بفم مملوء: تفضل من دون إذن، فأنت لست غريباً!

قلت ممازحاً: بل غريب، فأية صلة تربطني بك؟!

مسك اللقمة بيده اليمنى وقال: صلة العروبة، ألست عربياً؟!

قلت وما انفككت واقفاً: بلى أنا عربي.

أردف ولم يضع اللقمة في فمه بعد: خلاص، فأنت إبننا.

ثم دعاني لأشاركه في الطعام، فشكرته وأضفت:

لم يحن وقت الغداء بعد، وأنا ملتزم بالتوقيت.

هم بالحديث ولكني أردفت قبل أن يتكلم:

الساعة لم تبلغ الحادية عشرة بعد ... أتتغدى كل يوم مبكراً؟!

قال: نعم، ثم طلب من زوجته أن تضيف كأساً أخرى من المرق وخاطبني بكل جد:

لم أكمل حتى تشاركني ... ورجع اللقمة التي كانت بيده إلى البادية!

أكلت من مائدته كي لا أضيع الوقت في التجاملات،

كانت أمامه بادية من الثريد وكأساً من المرق ولم أر أية ملعقة في الكؤوس فقد كان يأكل بالخمسة،

وكلما أكلت من الكأس التي أمامي فنقص مرقها، أضافها مرقاً من كأسه!

سألته بمزح مبطن بالجد: هل تريد أن تغديني وتعشيني؟!

قال: أنت شاب، يجب أن تأكل أكثر مني!

انتهينا من الغداء وطلبت منه أن يقص عليّ قصته الثانية،

فشرع رأساً بسردها وقال:

في زماننا آنذاك لم تكن السيارات كثيرة كما هي الآن، فلا أذكر أحداً من قريتنا ومن القرى المجاورة إمتلك سيارة،

ولا أنسى أبا مطرود الذي كان قد ركب في السيارة لأول مرة، عندما نقل لأهل القرية تجربته من ركوبها فقال:

سياقة السيارة ليست صعبة!

سألناه: كيف؟! وهل تعرف أن تسوقها؟!

قال بكل تأكيد: طبعاً! كل القضية وما فيها أن هناك (مطوى)1 عليك أن تفره يميناً وشمالاً!!

قاطعته ضاحكاً فقلت: رأى أبي مطرود يضحك الجماد، إنما لدي سؤال:

لماذا كان العرب يسمون أبناءهم بأسماء ليست لائقة؟!

صب لي فنجاناً من الشاي وقال: إشرب فهذا الشاي ليس إيرانياً إنما أجنبي! ... هل تشتم رائحته الطيبة؟!

ثم رشف من فنجانه الذي لم يمهله أن يبرد قليلاً وتابع كلامه فقال:

الموت في تلك السنين الرديئة لم يدع طفلاً إلا وأخذه من حضن أمه وتركها تلطم الخدين حزينة كئيبة، ففي تلك السنين السود لم يكن هنالك طبيب ولا دواء في القرى، ولا تستطيع الناس أن تأخذ مرضاها إلى طبيب المدينة حيث الطريق بعيد وقد يموت المريض في أثناء السير الوعر، ولهذا فإن الأمراض تنتشر بين الناس بسرعة البرق ويبقى المصاب في بيته حتى أن يبرأ من المرض أو يموت! ومعظم الأطفال الذين لا قدرة لهم على مقاومة الأمراض كانوا يموتون.

ويعتقد الناس الفقراء آنذاك لو أنهم سموا أطفالهم بأسماء ليست لائقة قد يعيشون!

ذلك لأنهم لا يلفتون الأنظار نحوهم فلا حاسد يحسدهم ولا موت يدناهم!

ولهذا السبب ترى أسماءاً غير قليلة كـ (مطرود) و(كلب) و(جرو) و(جحش) قد كثرت في تلك الحقبة السوداء.

فلنرجع إلى قصتنا:

كان الحمار يقدم لنا الخدمات التي تقدمها السيارة الآن... ينقلنا من قرية إلى أخرى أو من القرية إلى المدينة،

نحمل عليه المحصول من الصحراء إلى البيوت،

نحمل عليه الحطب للخبز وطهو الطعام،

يحمل أغراض وأطفال صاحبه إن عزم الهجرة من قرية إلى ثانية.

وخلاصة الكلام أن الحمار في وقتنا آنذاك لا يقل أهمية من السيارة في وقتكم الصاخب هذا، وعلى هذا الأساس كان حمدان يذكر أبناءه كل مساء ليروحوا حمارهم الوحيد الذي يحرثون عليه صباحاً ويتركونه يرعى الأعشاب في الصحراء عصراً.

 وفي كل مرة عندما يذكرهم الشيخ المجرب بحمارهم، تثاقلوا منه وقالوا:

لا تكرر الأسطوانة علينا في كل يوم، فنحن نعلم أن حمارنا يسرح في الصحراء ويجب أن نروحه.

قال الأب متألماً: أخاف أن تنشغلوا عنه وتنسوه،

قالوا وفي نبرة كلامهم قلة من الرقة: تطمئن، أيعقل أن ننسى حمارنا الوحيد ونتركه في الصحراء؟!

امتعض الأب من كلامهم وواعدهم أن لا يعكر مزاجهم بتكرار الأسطوانة عليهم مرة أخرى.

 

وذات مساء ضافهم أحد أقاربهم فتلهى الأبناء معه حتى نسوا الحمار!

إحمر الأفق وغابت الشمس ...ولم يتذكروه!

أذن المؤذن وصلوا ...ولم يتذكروه!

تعشوا مع ضيفهم وراحوا يسطرون السوالف البالية ...ولم يتذكروه!

والشيخ الموقر صامت لا يشغل باله إلا الحمار الذي كلما ذكر أبناءه ليروحوه تأففوا منه!

 وعندما فرشوا الحُصر وتمددوا عليها وألقوا تحية المساء على بعضهم ليناموا،

قام الشيخ من مكانه ووقف عند مربط الحمار ثم نهق بصوت عال!

عندها هب الأولاد ...لقد نسينا الحمار!

فركضوا نحو الصحراء وبحثوا عنه، فلم يجدوه،

لكنهم رأوا ذئاباً في الظلام الدامس تعوي على فريسة.... تبين أنها لحمارهم.

رجعوا بعدها خائبين إلى البيت وكان الشيخ واقفاً ينتظر رجعة الحمار،

فأطرقوا رؤوسهم خجلاً واحتبس لساناهما عن النطق!

ونظرات الشيخ تمطرهم بوابل من العتب والغيظ ...دون أن تترجم حنقه الكلمات.

1 – مطوى: شئ مدور يطوى عليه الغزل.