بَرزَخُ مُعَلِّمَة..

ماجد بن سليمان

[email protected]

في ناحيةٍ من المدينة، تمر سيارة من نوع (فان) قد أكل الصدأ أطرافها، تسير على ازفلتٍ امتلأ بالشقوق، والحفر، والطريق لا يتسع إلا لسيارة، ونصف السيارة، كانت هذه السيارة تقل مجموعة من المعلمات من داخل المدينة الحزينة إلى 200 كيلو خارجها بحجة التعليم .

"منال" بكالوريوس E، مطلقة وأم لطفلين.

"سمر" دبلوم حاسب، عانس فوق الثالث والثلاثين ربيعا.

"وضحى" معهد معلمات، عُقد عليها ثم طُلقت بسبب التدريس وهي الآن عانس فوق الواحد والثلاثبن ربيعاً.

الطريق طويل، جِمَالٌ لا تكفُّ عن عبوره كل دقيقة، وسائقين متهورين، وأوديةٌ تنهال عليه من كل جانب، وسائقٌ يأخذه النعاس بين الفَينةِ والفَينة، وشبح الموت يلوح تارة فتارة، وكل معلمة تقبض بيدها على قلبها الغض حتى لا يقع من الرعب.

تقف سيارة (الفان) المتهالكة أمام باب المدرسة المنخلع، تنزل النسوة وكل واحدةٍ منهنَّ قد أكل طائر الخوف من جسدها طِوال الطريق حتى شبع.

 الواجهة الرئيسية للمدرسة الحكومية عبارةٌ عن جُدرٍ متصدعةٍ من الدرجة الأولى، وعناكب ترمق الواقفين بجانب المدرسة، وجرذانٌ تتقافز فوق السور، وقططٌ سائبة تجوب الفناء، وتستريح في (مقصف) المدرسة.

 تدوس كل معلمة منهنَّ بكعبها المخمليّ بلاط المدرسة المتهشم، ويلَجنَ وُلُوجَ المساجين إلى السجون المظلمة.

0000000

في غرفة المعلمات آمالٌ مقذوفة في تابوت اليأس، وهموم ترفرف على رأس كل واحدة منهنَّ، وشكاوى غصَّ بها حلق جهاز الفاكس المهترئ، مبعوثة للمسئولين بطلب الشفاعة في النقل إلى مقر سكن كل واحدة منهن، وأوراق مكدَّسةٌ من يأس العمل، وزهرة شبابهن الأنثوي تذبل يوما فيوماً.

 تدخل مديرة المدرسة عابسة الوجه محدقةً في وجه كل واحدة منهن :

- استمارات النقل المزعوم وصلت .

تقفز منال كحمامة رفعت جناحيها للولوج في جوف السماء:

 - حقاً!!!

تردف سمر:

- لعله الفرج، لعله الفرج.

بدأت كل واحدة بتعبئة الاستمارة الخاصة بها .. هدوء يملأ غرفة المعلمات .. العناكب في سقف المدرسة تجمهرت على هذا الحدث العجيب، وكل معلمة تكتب الرغبات، والأمنيات، والتوقعات، وكلها معقودة بحبل الأمل الضعيف.

وبعد زمن قصير جمعت مديرة المدرسة استمارات النقل المزعوم لدى وزارة التربية، ليتم إدخالها آليا في جهاز الحاسوب العتيق، الذي امتلأ جوفه من الغبار والأتربة، ومن ثم تبعث إلى مقر الإدارة في مدينة أخرى تبعد عن المدرسة المنسية 180 كيلوا.

0000000

كالعادة تنطلق سيارة (الفان) عائدة بهنَّ إلى المدينة 200 كيلوا أيضا ليكون المجموع 400 كيلوا يوميا تقطعها هؤلاء النسوة ذهاباً وإياباً، وخفافيش القلق في كل مرَّة تشيعنهنَّ إلى حيث المجهول.

 يرن هاتف سمر، ليشع اسم أمها المتصلة عبر الشاشة:

- أهلا أمي.

- هل بقي الكثير يا ابنتي؟.

- نحن للتو تحركنا من المدرسة يا أمي.

- هل ستتأخرين كل العادة يا ابنتي؟.

مَطَّت شفتيها قليلا ثم تأففت بشدة ثم أجابت:

- وهل هناك غير هذه الحكاية التي تمارسنا كل يوم.

- تَصِلِين على خير بإذن الله.

- إن شاء الله.

بينما تجلس إلى جانبها الأيسر زميلتها "منال" وقد تصاعد شخيرها الهادئ وهي تغط في النوم ليقصر عليها الطريق.

0000000

بعد أن أحكم الظلام قبضته على المدينة، وبعد أن أتم الإمام تسليمته لصلاة العشاء، شدا صوت هاتف المعلمة "منال" المقذوف على سريرها الوردي، بينما كانت هي خاشعة في صلاتها حتى ارتفع صوته، وأفسد خشوعها، فما أن أتمت الصلاة حتى خَرَس الصوت، نظرت إلى شاشة الهاتف فإذا "مكالمة لم يرد عليها" فتحت فإذا بالمتصل زميلتها "سمر"، عاودت الاتصال بها :

- ألو.. أهلا سمر، مالأمر؟!

- لقد اتصلت بكِ قبل ثواني أين كنتِ؟

- أصلِّي، وبالكاد استطعت الخشوع في صلاتي من صوت الهاتف.

- لدي موضوع مهم، مهم، مهم!!!.

- سمر، لقد قلقت، ما الخبر؟!

- هنالك صديق لأخي أحمد عرض علينا عرض مغري.

- وما العرض؟

- وعدنا بأنه سيتسبب في نقلي إلى المدرسة التي أرغب النقل إليها وقد تكون بجانب منزلنا!!

- معقوووووووووووول!!!!

- نعم، هل ترغبين في الدخول في هذا العرض؟

- لكن كيف بإمكانه فعل هذا؟

- قال لأخي: ادفعوا لي 20 ألف ريال واختاروا المدرسة التي تريدون النقل إليها.

- لااااااااا، احذري يا سمر هذه رشوة!!

- من قال هذا؟! هذه أتعاب، ومن حقه طلبها.

- لقد سمعت بهذا الكلام من أناس كُثُر، لكن هناك فتوى بتحريم ذلك لأنها رشوة صريحة يا سمر، اتق الله.

- إذن كما تريدين، أما أنا فقبلت بالعرض وأنتظر الخبر، إلى اللقاء.

- مع السلامة!

 استلقت "منال" على أريكةٍ في زاوية غرفتها الصغيرة، أخذت الأفكار تذهب بها وتأتي:

- هل أفعل كما فعلت "سمر"؟!

هل ارتكب جرم الرشوة ؟!

إنها فرصة العمر ليتحقق لي حُلُمُ النقل إلى مدينتي!!!

ما أكثر الظلم في هذه الأرض!!

الرشوة حرام ... لكنها أتعاب ليست رشوة، أليس هذا هو الصحيح؟!

 وبينما هي تشاور نفسها، وتحاورها ذهبت في نومٍ مفاجئ، وبدأت أجفانها تطبق على عينيها بهدوء.

0000000

قبل أن يدغدغ أذان الفجر حلم المدينة، رنَّ المنبه كالعادة لتستيقظ "منال" وتجد نفسها كما عهدتها البارحة ملقاة على الأريكة، وقد سبحت في النوم بلا شعور، نهضت بتكاسل، دلفت باب الخلاء، نظرت في المرآة ، وآخذت تحادث نفسها:

- هذا الوجه الأنثوي الجميل، كُتب عليه العناء والمشقة، غيري تعمل بالقرب من منزلها أو على الأقل في نفس مدينة سكنها، وتحمل تخصصا أقل من تخصصي أهمية ومكانة، بينما أنا أدرس مادة الأنجليزي التي يهرب من دارستها بنات جيلي، ويقذف بي إلى أبعد ما يُتَوَقَّع.

فتحت صنبور الماء، وأدخلت يديها الناعمتين تحته، ثم دعكت وجهها بالماء والصابون معاً، ورفعت رأسها ونظرت في المرآة تشاهد خيوط الماء والصابون، وهي تتسابق على خديها قاصدةً ذقنها الصغير، معلنةً الرحيل إلى قعر المغسلة، ثم حادثت نفسها مرة أخرى:

- طليقي، أعرف أنك تحبني، واعرف أنك ما زلت تعاود الكرة والكرة لإرجاعي، لكنك طلقتني لجرمٍ لم ارتكبته أنا وطفليّ، طلقتني لأن نقلي لم يتحقق لأكثر من سبع سنوات من تعييني في تلك المنطقة المهجورة، باسم التعليم وأهله.

دخلت إلى غرفتها مرة أخرى، أخذت في ارتداء ملابسها، ثم اتجهت لرب السماوات والأرض مؤدية صلاة الفجر.

وَقَفَت بعدها على المرآة الواقعة في أول الغرفة، ثم أشرعت في وضع أدوات التجميل الخفيفة على وجهها البدريّ، وهي تقول لنفسها:

- لمن تضعين هذا الكحل يا منال؟! .. لزوجٍ يأس من نقلي إليه، وجعل من الطلاق قراراً زاد به من حمولة الظلم التي أُقلُّها كل يوم، أم لخاطبٍ جديد كلما عَلِمَ بمأساتي خَرَجَ، ولم يعاود المجيء هرباً من الدخول في واقعي التعيس؟!

أخذت نفساً عميقاً ثم مَجَّتهُ في فضاء الغرفة، وهَمَّت بلبس عباءتها وطرحتها.

 دقائق حتى أتى صوت مزمار السيارة (الفان) من الشارع الذي يطل عليه شباكها الحزين، فتحت الشباك قليلا نظرت بعينها اليائسة، تأكدت أنه هو ثم نزلت من غرفتها تمشي بخطواتٍ تعبه، صعدت إلى سيارة النقل، فإذا بزميلتها "سمر" تبادرها قائلة:

- صباح الخير.

- صباح النور.

- تأخرتِ في الخروج قليلا.

- آسفة لقد أخذ وقت الاستعداد قليلا من الوقت.

- هل نمتِ جيدا.

- نعم، ولله الحمد.

0000000

أخذت الأسابيع تجر بعضها البعض، والأيام تتدافع بالأكتاف، وجميع المعلمات في انتظار ناريٍّ للنتيجة.

"مريم" التي أتى تعيينها في إحدى المدن التي تبعد عن مدينتها 1400 كيلوا، رفضت هذا الإجحاف، وفَضَّلَت أن تبقى رَبَّة بيت بدلاً من الظلم الذي تمارسه وزارة التربية في البلد.

 في إحدى الليالي الحالكة أتى صوت "منال" مسكوباً في سمع مريم فقالت:

- ما أجمل هذا الصوت!!

- أنتِ الأجمل.

- هاه، ما أخبار نتيجة النقل.

- أعلنوا اليوم أنها ستعلن غدا صباحاً.

- جميل، جميل.

- ليس هَمُّ إعلان الموعد أكبر من هَمِّ النتيجة.

- ستكون النتيجة خيراً إن شاء الله.

- سبع سنوات يا مريم وأنا أجاهد هذا الطريق المخيف.

- هانت، يا أُخَيّتي، هانت، أنا متفائلة هذه المرة.

- حتى لو كُتب لي نصيب في النقل سأبقى مطلقة بعيدة أن أبنائي، وكله بسبب هذا النظام الجائر.

- تفاءلي بالخير، لا تكوني بهذا التشاؤم.

- أختي مريم خدمة الإنترنت معطلة لدي من يومين هل بالإمكان أن تكوني على اتصال بي غدا صباحا لإعلامي بالنتيجة.

- أنا في الخدمة، فقط ابعثي لي برقم سجلك المدني على هاتفي، حتى أتمكن من المتابعة غداً.

- اتفقنا إذن، استودعك الله.

- في أمان الله.

 بعد دقائق غرّد هاتف "منال" نظرت إليه فإذا المتصلة هي زميلتها "وضحى" فبادرت بالرد عليها قائلة:

- أهلا يا وضحى.

- كيف حالك يا منال؟

- الحمد لله، ها أنا أنتظر نتيجة النقل ومتفائلة بعض الشيء.

- ألم تستجيبي لعرض سمر؟

- كلا، الرشوة حرام، وكبيرة من كبائر الذنوب، وأنا أخاف من الشروع في مثل هذه الأمور.

- إذن ستبقين على هذه الحال سبع سنوات أخرى وأنتي ذاهبة عائدة.

- لكن يا وضحى....!!

- أنا عن نفسي تمكنت من معرفة مكان نقلي مقدماً.

- دفعتي رشوة!!!

- لا تقولي رشوة، هذه أتعاب، أنتظر إعلان النتيجة فقط حتى ارتاح نفسياً.

- حرام يا وضحى حـ...!!

- يا منال حتى لو كان حراماً فلا لوم علينا، النظام ظالم ومتجبّر، ولا نشمُّ فيه للعدل رائحةً البتَّة، والمسئولين لا يهمهم الأمر، وأنا امرأة قابعة وحدي في بيتٍ شعبيٍّ متهالك في نفس مقر عملي، تاركةً أهلي وأخوتي على بُعد 600 كيلو، والأخطار تدور حولي، وسُبل العيش في هذه القرى ضعيفة جدا، وقد خسرت فرصة الزواج أكثر من مرة بسبب هذا النقل.

- هل هذا قرار أخير يا وضحى.

- نعم أخير، ولا رجعة فيه، تعلمين أن الدولة لم تخصص لنا بدل هذه المعاناة التي قصمت ظهورنا، مخاطر الطريق من المفترض أن يصرف لنا بدلاً عنها، والسكن الذي نستأجره من المفروض أن يصرف لنا أيضاً بدلاً عنه، كما ترين الظلم بعينه، أنا وأنتِ مشقتنا وتعبنا متساوٍ مع زميلاتنا اللاتي يعملن بجوار منازلهنَّ، واللاتي يعملن في نفس المدينة.

- لكن يا وضحى أناااا.....

- إنها فرصة العمر يا بلهاء، لا تضيعيها بالمثاليات والمبادئ العتيقة، وداعا أراكِ غداً على خير.

- على خير إن شاء الله وادعا.

0000000

وفي صبيحة يوم السبت، وفي منتصف الطريق بالتحديد، ثمَّة سيارة (فان) التهمتها إحدى الشاحنات، وفي مكانٍ ما، في نفس الزمن تدخل "مريم" فتاة في عامها السادس والعشرين على الشبكة العنكبوتية، وتلقمها الرقم الخاص بصديقتها "منال" ليرتسم أمام عينيها عبارة:

( لم تــنـقـلـي).

 وفي نفس اللحظة في مكانٍ بعيد عن المدينة، وفي باطن سيارة (فان)، وتحت وطأة أحد الشاحنات الثقيلة، تصعد أنفاس "منال" إلى السماء مودعةً ذلك الظلم الذي تسبب عليها.

وحين أطلقت شمس الأحد ثاني أيام الأسبوع شعاعها على الدنيا، ظهر على صفحات أغلب الصحف المحلية خبرٌ هزَّ أركان المجتمع:

 (وفاة سبع معلمات وسائقهن على أحد الطرق البرية صباح أمس السبت).

 سَرَت هذه الحادثة في المجتمع مسرى النار في الهشيم، تلقفتها أفواه الناس، وأخذ يَلُوكُهَا المجتمع بدهشة، المسئولين القابعين على كراسي المسئولية في الجهات المعنيَّة يرددون بوقاحة عالية المستوى:

- النظام لا يسمح، النظام لا يسمح.

بينما على الشاشة المقابلة لمريم المخنوقة بالبكاء، ما زالت عبارة "لم تـنـقـلـي" مُعَلَّقة كأنها مشنوقة.

 هناك في مكانٍ ما، روح منال، وهناك في مكان آخر، جثتها في برزخ التعليم.

-- ----------

· صورة مع التحية إلى معالي وزير التربية والتعليم.

· صورة مع التحية إلى أولياء أمور المعلمات.

· صورة مع التحية إلى المعلمات المستجدات.