خنجر الحسد ينزف
شريف قاسم
امتلأت الغرفتان الخلفيتان بالنسوة اللاتي جئن يباركن لأم عدنان بعقد قران ولدها الوحيد, على ابنة الشيخ منصور , ذات التربية الصالحة والنشأة الحميدة. وتمنّين للعروسين الرفاه والسعادة, فقد أحسنت الأسرة اختيار الزوجة المؤمنة لابنها الذي عاش يفاعته طاهر السيرة , نقيّ السريرة , فهو من عُمّار مسجد الحي , ومن جلساء الشيخ الداعية محمد أبو الخير الأبطحي ,كان متفوقاً في دراسته , ونال شهادته الجامعية بامتياز , ليصبح وبكل جدارة طبيباً ذاع صيتُه وانتشر خبر قدراته الطبية , وصفاته العالية, مع أنه لم يتم العام بعد تخرّجه .
كانت أمه تذكر له أسماء بعض الشابات اللائي تعرفهن , وهي تتوق لرؤية ابنها الوحيد عاجلاً غير آجل في الدور الأعلى مع زوجه , وكان يبتسم لها بحنان ومحبة قائلاً: اختاري من شئت ياأمي , ولكن لاتنسي أني أريد الزوجة , ولاأريد المرأة لمجرد أنها امرأة , فهمت أمه قصده حتى وجدت بغيته في عفراء بنت منصور المعروف بتقواه واستقامته , وكانت فتاة ذات حجاب وأدب , نأت عن صويحبات التبرج والسفور , وترفعت عن ارتداء ألبسة الفتنة , وأقفلت في وجه شبابها النضر سُعار التحلل والميوعة والانتكاس , حين عرفت مالها من حقوق , وماعليها من واجبات. وعدنان يستحق أن يتزوج هذه الدرّة المصونة , وهو الشاب المنسجم مع فطرته النظيفة, عاش شبابه يتقي ماحرم الله , ويحسن إلى والديه وأخواته ويكرم جيرانه , ولايبخل عليهم بدواء أو كشف طبي , وهو راض بما قسم الله له في دنياه .
كانت جاراتها أم فاطمة وأم زياد وأم أحمد يتبارين في ترديد عبارات التبريك والدعوات الصادقة في حين افتقدن جارتهن أم غبار, حيث لم تحضر وقد عذرتها أم عدنان , بل أرسلت مع ابنتها طبقاً من الحلوى , وهذه من حقوق الجيرة. واختلطت الأصوات بالفرحة التي غمرت الحاضرات , من جارات وقريبات . أمَّا أم عدنان فقد أزهر اليوم بستان عمرها , وفاض بالأنس , وحفل بالبركة , تماماً كوجهها الذي فاض بالسعادة , سعادة غير عادية , سعادة متميزة ولها حضور مشرق , أنارَ لمقلتيها درب الأمل الرغيد بمرح الأولاد ودلال الأحفاد , وكأنها تراهم يلهون ويتدافعون في غرف وبهو دارهم الواسعة الفارهة , وكأنها ذكريات جميلة لم تأت بعد .. وانسابت هذه السعادة نهراً غامراً أغنى مشاعر أمومتها بأعذب الحب , وأنستها آلامها الشاقة مما تعانيه من وجع قلبها الذي لازمها منذ بضع سنين .
كان ذلك في الغرف الخلفية للدار , وأما في غرفة الاستقبال فقد غصت بالمهنئين , من الأقارب والجيران والأصدقاء .. لم يتخلف أحد ممن وصلته الدعوة , محمود وسالم وأبو غبار . جيرانه حضروا , وزوجاتهم حضرن مع الحريم , وإن تخلفت أم غبار عنهن. وانطلق الشيخ محمد أبوالخير , مستغلاً المناسبة الطيبة لتلميذه النجيب عدنان , يلقي خطبة النكاح ,أصغى إليه الجميع , وهو يشهد للزوج بالصلاح , ويذكّر الناس بأهمية النشأة الصالحة للأولاد وللبنات , وتلا آيات الزواج , وعدّد بعض مناقب السير الحميدة للأسلاف , وحذر من انتكاسة الفطرة في هذا العصر , وصب جام غضبه على السفور والفجور والاختلاط , وقال إنها مزارع الشيطان , وسرابه الكاذب , وباطله المزيف , وأنها من أسباب انهيار الحضارات وسخط الله على العباد .ودعا للعروسين بالخير والبركة ونظر إلى عدنان , وقال : بارك الله لك , وبارك عليك , وجمع بينكما في خير , بينما كانت زوجة الشيخ الأبطحي في مجمع النساء تقول لأم عدنان على الخير والبركة , وعلى خير طائر إن شاء الله .
أمضى عدنان عدة أيام مع زوجته في دارهم , وسط أفراح وولائم وأمسيات طيبات , وساد المنزل صفوٌ ملؤه الهناءة والبر , ماندّت فيه كلمة عقوق ولااكفهر فيه وجه , ولم ير الجيران بيتاً أوضأ من إشراقات المنى والأنس كهذه البيت , وهاتف خاله المقيم في أحد مصايف البلاد أبا عدنان وأمه, مهنئاً لهما, وراجياً منهما أن يرسلا ولده وعروسه, ليقضيا بضعة أيام بين أحضان الربيع في مصيفهم الحافل بسحر وجمال الطبيعة التي خلقها الله سبحانه , فاستجابا , ولبى عدنان دعوة خاله , فودّع أمه وأخواته في المنزل , وخرج مع زوجته يرافقهما والده مودعاً لهما , وعند الباب يرن جرس الجوال الذي يحمله عدنان , وإذ به من خاله , يحثه على المجيء , ويطلب منه أن يكلم أباه , فيناول عدنان أباه الجوال قائلاً : معك خالي ياأبي , ويطول حديث الخال مع والد عدنان , بينما انطلق عدنان بسيارته الخاصة مردداً أدعية السفر, وقد نسي محفظته وفيها بعض حاجاته, كما نسي جوّاله بيد والده , ففي السفر مجهدة , وتشتيت للفكر , وترجمة لأقدار الله جلت قدرته .
وتزور أم فاطمة جارتها أم غبار, وهي تعرف ماينطوي عليه قلبها من ذميم الخصال وقبيح الأفعال, ولكن مازالت العلاقة بينهما عادية , أما النوايا فهي بيد الله . وجلستا تتحدثان , ولابد من ذكر الحدث الهام في حيهم, وهو زواج وسفر الدكتور عدنان إلى خاله , فرأت أم فاطمة كيف غيّر الحقد قلب جارتها, وعصفت كلماتها ناراً حرقت حقوق الجيرة, وسفتْ أطياب المودة , وجعلتها جيرة مشوهة تنفث بالسموم , وطمرت وصايا النبوة في سراديب مطاردات القيم , كم عاتبتها أم فاطمة على تصرفاتها السيئة تجاه جاراتها عامة , وأم عدنان خاصة.. وكان جوابها يقطر حسداً ممزوجاً بكره عجيب .. هي السبب , أم عدنان .. إنها لاتجلس معنا , لاتخالطنا , أتظن أنها أفضل منا , وتستدرك أم فاطمة .. لا يا أم غبار, إن أم عدنان طيبة , لاتذكر الناس إلا بخير , ولعل مرضها المزمن بالقلب يحول دون كثرة زياراتها للجارات والقريبات . ردت أم غبار: هذا شأنها والمرض قدرها , أولم يكفها أنها زوجت بناتها وزوجت ولدها بعد أن صار طبيباً , ولديها قصر منيف .. وراحت تعبر عما يجيش في حناياها من رعود الحسد وبرق الحقد , وانهمار سحب كمدها التي اختزنت فيها سوء معاملتها لجاراتها .. اشرأبت عينا أم فاطمة تطل على وجه جارتها الذي جللته قترة السوء وغبرة الشر , وأخذت هي تحدث نفسها قائلة : ويلك ياأم غبار , لم تتذوقي حلاوة المودة لجارتك , ولا لأية مخلوقة فضلها الله عليك بكثرة مال أو نشأة طيبة للأولاد , ماذنب جارتك إذا كان أولادك فاشلين في دراستهم بل في حياتهم , أنت المريضة ياأم غبار , أنت المصابة بداء الكراهية ولكنه داء غير معد بفضل الله , شأنه شأن مرض السكري , حرم الله على صاحبه كل أنواع الحلوى الطيبة.. وقامت أم فاطمة مستأذنة بالخروج ولم تزل جارة السوء ترعد وتزبد , وكأنها في معركة .. .تصارع عقدها النفسية , ونار الحسد إذا اشتعلت في جوف مخلوق لاتخمد إلا إذا احترق صاحبها . وجلست أم غبار تفكر في عبارة تقدمها لأم عدنان بمناسبة زواج ابنها , هكذا نصحتها أم فاطمة , فلابد من التهنئة , وعضّت شفتها السفلى , وتسللت إلى عقلها الأعمى عبارات امتزجت بضميرها الميت , منذ أن شهدت شهادة الزور وكانت سبباً في طلاق إحدى قريباتها. وراحت ترغم نفسها وتقودها إلى سوق الشيطان لتتخير العبارة المناسبة والمعبرة التي تقدمها على طبق من المكر لأم عدنان.
كان عدنان يعيش في المصيف أحلى ساعات عمره , بشاشة وجه خاله وزوجته وسائر أفراد أسرته لاتفارق أحاديثهم العذبة وأمنياتهم الجميلة.
وفي المسجد المجاور لدار خاله وجد إلفَه الذي اعتاد الجلوس إليه منذ نعومة أظفاره ,إنه الدرس اليومي لإمام المسجد , أغراه مافيه من زاد لروحه , وسيرة حميدة لحياته , والفرص سانحة في كل مدينة وفي كل قرية بفضل الله .. وكانت كلماته لوالديه وأخواته تتدفق سروراً وبشراً يومياً من خلال الهاتف , وطفق ينقل خطاه في مروج سعادته الآمنة . ومضت عشرة أيام وكأنها عشر دقائق , واستأذن خاله بالعودة إلى بلدته , حيث الأهل والعمل الذي ينتظره , وأقفل الفتى عائداً ممتطياً سيارته الخاصة , يتجاذب حلو الحديث مع زوجته .
علم الأهل بمقدمه , واستعدوا لاستقباله , أمه مازالت فرحتها تملأ عينيها بالدموع , ولسانها يلهج بالحمد والثناء على الله الذي أنعم وتكرم وأعطى . وقبل أن تصل السيارة مبركها , وصل الهمس إلى آذان الناس ينبئ أن حادثاً مرورياً أودى بحياة العروسين , وكان في حيهم رجل يماني يجاورهم منذ سنين , ولطالما أكرمه الطبيب عدنان بأنواع الأدوية والكشوفات , فصاح الرجل متعجباً (مَهْيَمْ) سمعتها أم غبار من وراء الباب, فأسرعت إلى زوجة اليماني تسألها عن معنى هذه الكلمة . فقالت : إن حدثاً مفزعاً قد جرى , وما أعجل ماتوصلت أم غبار إلى إشاعة السوء , ومن غير أن تتبين حقيقة الأمر , ومن غير أن تعرف من القائل ومن هما في السيارة المنكوبة , فحوادث السيارات تتعدد وتتنوع في كل يوم بل في كل ساعة .. انطلقت وجه الشؤم إلى دار أم عدنان وطرقت الباب , تفتح لها أم عدنان وهي تترقب وصول ولدها , ولكنها سرعان ماترجمت بقلبها الطيب مجيء أم غبار إلى مقدم تهنئة , فعاجلتها أم غبار بقولها : جبر الله مصيبتكم , هذه حال الدنيا , أمسكت الدهشة لسان أم عدنان , أية مصيبة يا أم غبار!! وأسرع لسان المكر والحسد .. موت عدنان وزوجته بحادث مروري .
سقطت أم عدنان أرضاً , بناتها وزوج إحداهن حملنها إلى الداخل , أخبروا والدهم , حضر مسرعاً وأفكاره تترنح في رأسه وعلى الفور تم نقل المفجوعة إلى المستشفى واجتمع الأرحام والأصدقاء , أخرج أبو عدنان جوال ابنه الذي نسيه بيديه ساعة سفره , تأكد من أن عدنان وزوجه غادرا المصيف منذ الصباح .. ياالله .. الإشاعة صحيحة , وكلمات أم غبار ليست وهماً !! ويصل عدنان إلى باب الدار قبيل الغروب , لاأحد في الدار, في الشارع بعض المارة والجيران والأولاد , ولكن من يجرؤ أن يخبره بالإشاعة أو بنقل والدته إلى المستشفى , وتخرج أم غبار من بيتها المقابل لدار جارتها أم عدنان , قائلة لعدنان : الحمد لله على سلامتك يادكتور . أمك نقلوها إلى المستشفى قبل ساعة. أجفلت زوجة عدنان وارتعدت أطرافها , بينما ركب عدنان سيارته , وجلست زوجته إلى جانبه ليجدا الناس في صمت مطبق , إلا من ترديد والده وزوج أخته ل: لاحول ولاقوة إلا بالله , إنا لله وإنا إليه راجعون .
بقيت الأم في ثلاجة الموتى لليوم الثاني وأمضى زوجها وابنها وبناتها وبقية الأهل والأرحام والجيران ليلة مأساوية ماكانت لتكون , لولا تلك التي تسترق النظر من باب بيتها لترى مايجري في قصر أم عدنان.
وتم دفن المرحومة في صباح يوم مشمس هادئ وسط حشد من المؤمنين أفاضوا على قبرها العبرات والدعوات الصالحات , وأخلصوا في عزائهم وهم في حالة من الدهشة , للخبر الكاذب كيف يفعل !! وتقدم رجل إلى أبي عدنان قائلآً : قدّم شكواك إلى المحكمة , فوالله إنها امرأة تستحق العقوبة الصارمة . رد أبو عدنان : محاكمنا الوضعيّة وقوانينها المستوردة عمياء صماء لاترى فعل خناجر الحقد والحسد ولاتسمع صوت تدفق
الآهات , ولكن أقدم شكواي لله رب العالمين . وتفرق الناس آيبين إلى أعمالهم وبيوتهم , ويعود آل الفقيدة إلى بيتهم , فإذا الشارع مليء بالناس والدخان وسيارات الإطفاء ورأوا سيارة إسعاف تُحمل فيها أم غبار التي ماتت محترقة بعد انفجار مطبخها بالنار المتأججة من انتشار الغاز. وجم الناس مرة أخرى وتنوعت العبارات في هذا الحادث غير المروري , ولكنها أجمعت على أن الله جلت قدرته يمهل الظالم حتى إذا جاء أجله لم يُفلته , فلا حول ولا قوة إلا بالله!!!..