ماذا أخبرك يا جابر

أحمد ناصر نور الدين

[email protected]

وما عساي أجد من معاني الكلام لأرسم لك بها صورة مشابهة للواقع الذي أعيشه في غيابك؟

ثمة أشياء كثيرة تبدلت في غيابك. وأشياء لا تزال على حالها. لكن الثابت الوحيد وسط كل الكائنات والعوالم هو أنت يا جابر! وسط كل تلك الأشباح، والهياكل، والمعالم الهائجة والراكدة، أعيش أنا، وفي قلبي تسكن أنت. سكنت قلبي منذ زمن فلم أعد أميز بينك وبينه. وذكراك لم تعد تشبه الذكرى.. لقد تملكت عقلي وأحاسيسي، وعمت أماكن عيشي، وباتت تلون كل تفصيل من تفاصيل حياتي.. ولكم بائسة هي حياتي يا جابر؟! لعلها لا تتميز في بؤسها عما كانت عليه أيام كنت معي، لكن لكل شيء في غيابك طعم خاص، وبعد إضافي له صبغة من الحسرة العميقة المعبقة برائحة اليأس.. أجل وأي أمل أرتجي بعدك يا جابر؟ ألم تكن يوما غاية آمالي، وقمة شامخة من قمم الأحلام الزاهرة التي ما اهتزت روحي لشيء سواها؟! ولا تنسى العمر يا جابر! العمر سريع جدا، سريع كالطائرة التي طارت بك الى خارج البلاد، لتدخل الى قلبي سحابة كثيفة من الهم واللوعة لا أظنها تبارحني ما حييت. العمر يا جابر ينكل بي، يحفر في صفحة وجهي التي شبهتها أنت ذات ليلة بوجه البدر الذي يطل من فوق ا لتل المجاور لبيتكم..

قلت لي بأن غيبتك في الخارج لن تطول، وأقسمت بأنك لن تقطع الصلة بيننا مهما وقع من أحداث.. وبفرحة ساذجة صدقت كلامك يا جابر.. وتخيلت اللذة التي ستعمر قلبينا بفعل التواصل، تخيلت دفئ الليل في حضرة الخطاب المرسل من البعيد. ولكن الزمن السائر لم يحمل معه خطابا منك ولا كلاما، ولا صورة ولا خبرا.. ومضيت في حزن وصمت أكابد الحياة وأتجشم الصعاب، وفي صمت واصلت مسيرتي، ولست متأكدة تماما من مدى صوابية خياراتي وقيمة ما قمت به خلال كل تلك السنوات الفائتة، لكنني تعودت أن أسمع أبي يقول في كثير من المناسبات بأنني بنت لا يوجد لها مثيل في البنات، أنني مضحية، مكافحة، وخير مثال يحتذى لمن هن في سني.. بيد أن الكفاح والتضحية لا يلجمان الزمن ولا يكبحان سرعته، فكبرت وجاوزت الأربعين، وظل أبي يقول عني "البنت".. وقد ساورني العجب ذات مرة، وتساءلت طويلا، ألم يفطن أبي يا ترى إلى تراكم السنوات فوق كتفي؟ ألم يرعى انتباهه أنني أسير وحيدة في طريق لا أمل في نهاية سعيدة ، أو آمنة له؟ ألم يراوده حلم بتزويجي برجل يسعدني ويحميني؟ بيد أن أبي مات قبل أن تتضاعف حدة السؤال، فرحل ناجيا من نوبات تدهمني بشدة وقسوة في فترات متباعدة وبشكل مفاجأ..

لعل حديثي لا يسر لك خاطرا يا جابر! ولعله ينغص عليك فرحة عامرة وبهجة تنعم بها حول موائد دافئة وفي أماكن فخمة، لكن الألم ينهش صدري ولا قدرة  بي علي تحمل المزيد.. قد تكون الآن يا جابر في نعيم من السعادة والطمأنينة أو في جحيم من الخوف والقلق.. لست أدري الى أي حال صارت بك الأيام ولكنني لست تواقة في الوقت عينه الى معرفة تفاصيل حياتك، فذلك لم يعد يهمني لا من قريب ولا من بعيد.. إن كان خبرك خيرا فسيشعل في نفسي نارا من الحسرة وينبش قبرا دفنت فيه حظي وأملي، وإن كان خبرك فيه البؤس والشقاء، فذلك شقاء زائد لي، وتعاسة مضاعفة تزيد من أثقال صدري وروحي.. لن أنجو من العذاب في شتى الأحوال، لذلك لا أريد معرفة المزيد عنك، لا أشتهي في تعديل صورتك المحفورة في عقلي وقلبي من قديم، فلتبقى الصورة الواعدة المشعة هي هي، وليبقى الأمل البعيد الباهت كما هو.. فأمل باهت قديم خير من نار متوهجة مستجدة!

أما رغبتي الحقة، فهي في أن أبوح لك بالكثير الكثير عما آلت إليه أحوالي.. أن أطلعك على شؤوني وشجوني، غير أنه لا متسع لي هنا للإتيان على ذلك كله مع بالغ الأسف، إذ لن تكفيني أطنان من الورق والأقلام لتدوين ما تئن به نفسي وتتوق الى لفظه رئتاي. ومع ذلك فلا مناص لي من كتابة بعض من ذلك، جزء يسير منه، لعلي أفلح في التخفيف عن كاهلي بعض الأثقال المضنية.

اليوم عدت الى البيت بعد يوم طويل من العمل. كان الوقت فجرا، والفضاء يصدح بالأذان، هفت على نفسي وأنا أبدل ملابسي رغبة مفاجأة قوية في تأدية صلاة الصبح، ولكني صحوت على حسرة مفجعة وواقع صادم أحاول عبثا تجميله من آن لآن. كيف أصلي ورائحة الخمر لصيقة جسدي لا تبارحه حتى بعد أن أستحم وأدعك جلدي بالصابون وأغتسل عدة مرات متتاليات؟! كانت الصلاة طقسا مقدسا من طقوس أبي، وكان يجلد أحدنا بحزامه إذا ما تهاون أو تجاوز فرض صلاة، فنشأت وسط إخوتي في جو يسوده وسواس الصلاة وهاجس الحزام الغليظ الذي يفرقع فوق جلودنا ككرباج!

إلا أنني هجرت الصلاة منذ زمن بعيد، حتى قبل أن يموت أبي، وكان في آخر أيامه قد انصاع مرغما لعجز الكبر، وغادرته حماوة الرجولة وشدة بأسها، فاستحال الى مخلوق هش ضعيف ينشد السلامة من أحقر المخلوقات وأو   ضعها! وشغلته علل صحته عني انشغالا تاما حتى غاب بوعيه عن الدنيا جميعا..

أحن الآن الى الصلاة حنينا غريبا لا أعرف له سببا، وإذ يراودني الشعور لا يتستحضر عقلي ذكرى الحزام بأي صورة من الصور. ولكنني أخاف الصلاة بقدر ما أحن الى تأديتها، وليس بي من جرأة على اقتناء سجادة صلاة، فضلا عن الوقوف فوقها بكامل جثتي الملوثة. ونسخة من كتاب القران تربض فوق فاترينة في الرواق، لا أجسر على مجرد لمس غلافها أو إطالة النظر الى زخارفه الملونة..

وما يلسعني من حيرة في صدري يصرخ في أذني قائلا: كان أبوك نديما قديما لموائد الخمر، فما الجامع بين الخمر والحرص على صلاة؟!

الآن أضحك، أضحك من أعماقي.. ولا تسألني عن السبب.

يا جابر، إختفاءك، وانقطاع أخبارك عني كانا من أهم الأسباب التي أدت بي الى عالم اليأس الذي لا رجوع منه. لن أخبرك عن أحلامي التي طالما تهت في بحورها، لن أخبرك عن الآمال العريضة التي علقتها عليك وعلى زواجي بك، لكن يجب أن تدرك مدى التأثير الذي تركه اختفاؤك على حياتي.. لقد دمرها، سد نوافذ البهجة فيها، وأقفل أبواب المستقبل الذي كنت أمني النفس به يوما..

وكل ما أمر به اليوم، كل ما أعانيه وأكابده، ليس إلا نتيجة طبيعية، أو لعلها غير طبيعية، لإختفائك، والأرجح أنها غير طبيعية، لأنه من غير الطبيعي أن تتحطم حياة إنسانة بسبب عزوف شاب عن الزواج منها.. أليس كذلك يا جابر؟! أسأل الآن نفسي، لماذا لم يتقدم أحد غيرك للزواج مني؟! هل كنت قبيحة يا ترى؟ كنت تقول بأن وجهي أجل من وجه القمر.. هل كنت فتاة سيئة السمعة؟ كنت تقول بأنك تعشق فيي العفة والطهارة.. فما هو السبب إذن؟ لعلها أسباب كثيرة لا قبل لي بحصرها الآن، المهم أن حياتي كانت معلقة على أملك ولم يكن لي من مرتجى سواك.. فلما ضعت مني ضاعت كل الآمال..

أنا بصحة جيدة يا جابر.. وأتمنى أن تكون أنت كذلك.

لا أعرف عن حياتك شيئا، ومع ذلك فإن هاجسا ما في دخلي يخبرني بأنك لست على ما يرام. أكتب إليك اليوم هذا الخطاب، وأنا على تمام العلم بأن مصيره درج خزانتي الذي يحتوي على كل الخطابات السابقة التي لم يكتب لها مصير الإرسال..

هل تراك تعود في يوم من الأيام يا جابر؟

إن عدت فسأسلمك الأمانة كاملة كما هي. سأعطيك كل الخطابات التي خطتها يدي طول سنوات غربتك وغيابك. وإن لم تعد فسيطويها النسيان الى الأبد، أو تعثر عليها يد عابثة فتفضح سرها أو تتلفها..

سأكتفي هذه المرة بهذا الحد، وأعرف أنني منساقة الى الكتابة اليك مرة أخرى لا محالة..

لي معك مواعيد كثيرة يا جابر.. وفي النهاية صدق وعدك القديم لي.. إذ وعدتني أن تلازمني الدهر كله، أن لا تتركني وحيدة ولو للحظة، وها أنا اليوم أشهد لك بوفائك بالوعد، وأعلن لك ولنفسي وللفراغ من حولي أنك ما برحتني للحظة واحدة من لحظات عمري الذي مضى، وأغلب إعتقادي أنك ستبقى معي في القادم من أيامي، وعلى هذا الأمل أعيش، فليس لي من الدنيا كلها إلا ذلك، وعليه أغمض اليوم عيناي اللتان أنهكمهما سهر طويل.. أما الغد فلي فيه موعد مع سهرة جديدة وزبائن جدد..