زواج أتاتورك

مصطفى نصر

[email protected]

بينما كانت الجيوش التركية تدخل " أزمير" ؛ كانت فتاة ذات شعر فاحم ينسدل على كتفيها ووجه ضاحك جميل ؛تتابع المشهد مع العديد من أهل المدينة .

رأت الفتاة مصطفى كمال أتاتورك بقامته المديدة يسير فوق حصانه ،ينظر إلى الجماهير المحتشدة قي ثقة وابتسام ، أحست الفتاة بأنه يخصها هي بابتسامته، شدت على يد خادمتها " أنجه " التي ترافقها في مشاهدة الجنود:

- إنه يذكرني بآلهة اليونان التي قرأت عنها كثيرا .

ظنت " أنجه " أن شعور سيدتها هذا عارض ومؤقت سرعان ما سيزول، وأن سببه حالة الحماس التي يعيشها الشعب التركي منذ أن بدأت الحرب مع اليونان ، كما أن منظر الجيش التركي بملابسه البيضاء والخيول التي يركبوها ؛ جعل أهل أزمير يصيحون ويهللون، وبكت بعض النسوة من شدة التأثر، لكن الفتاة – لطيفة – لم تكف عن الحديث عنه:

- أنجه، أنني لا أستطيع نسيان منظره وهو فوق حصانه الأبيض،ينظر إليّ ويلوح لي .

أرادت أنجه أن توضح لها بأنه لم يتبينها جيدا ، وأن ابتسامته وتلويحه لم يكن لها وحدها ؛ وإنما لكل الواقفين المتابعين له ؛ لكن أنجه أكتفت بابتسامة لها ، ورددت لنفسها : " إنها ستنساه عندما تنشغل بحياتها " لكن لطيفة انشغلت به أكثر ، تسأل عن أخبار الحرب وما حدث فيها ، وعندما علمت بإصابته بكت وصرخت وامتنعت عن تناول الطعام ، وحامت حول البيت المتهالك الذي يتخذونه مقرا لقيادة الجيش، حتى خافت " أنجه " عليها من أن يرتابوا فيها ويظنونها جاسوسة لليونانيين.

 ازدادت حالة مصطفى كمال سوءا، الضلع المكسور أصاب الرئة وسبب النزيف ، فوجد صعوبة في التحدث . هو الآن يفترش " حشية " قديمة فوق سرير حديدي صدئ.

 تابعه عثمان – مساعده – في قلق، حاول مصطفى الوقوف فلم يستطع، أسرع عثمان وضمه إليه :

-  أرتح ، لقد حذرك الطبيب من الحركة .

-  لا تهتم بحالتي الصحية ، المهم جنودنا الذين يحاربون اليونانيين الغزاة .

-   بذلت مجهودا جبارا في المعركة، لم تهتم بجرحك وصعدت فوق حصانك وناديت بأعلى صوتك حتى دفعت الجنود للصمود .

صاح مصطفى في صوت ضعيف :

-  لولا هذا لضاع كل شيء ولأحتل اليونانيون بلادنا .

سعل مصطفى في ضعف شديد فاقترب عثمان منه جزعا:

-  أرجوك ، أرجوك أن تكف عن الحديث الآن .

قبل أن يكمل عثمان حديثه دخل حسن – الحارس الخاص لمصطفى – قال :

-  رسالة لسيدي القائد .

نسى مصطفى آلام صدره ورفع نصفه الأعلى وأراد أن يمسك الرسالة، لكن عثمان كان أسرع منه، قرأها وصاح :

-  حمدا لله ، لقد احتل جيشنا " شال داغ "

وقف مصطفى ، انتصبت قامته التي كانت منحنية منذ أن أصيب في المعركة :

-  لقد اطمأنت نفسي وأستطيع الآن أن أنام بعض الوقت .

اقترب عثمان منه وضمه لصدره :

-   أخشى عليك من هذا الجرح، ذلك البيت الخرب الذي نتخذه مركزا للقيادة ؛ ليس نظيفا ، جدرانه متآكلة وبلا طلاء.

-  إنه البيت الوحيد الذي وجدناه خاليا ، أتريد أن نخلي بيوت الناس بالقوة ؟!

ساعده عثمان لكي يعود إلى فراشه المتسخ:

-  أقصد أن تسافر إلى أنقرة لتجد الرعاية الكافية هناك .

صاح مصطفى في حدة :

-  وأترك المعركة ؟!

-  حذرك الطبيب من تلوث الفرش والأغطية هنا .

-  ليس لدينا وقت نبذله في كلمات لا طائل منها ، هيا لنراجع خطط المعركة

 تعيش لطيفة وحدها في قصر كبير فوق تلال" بورنونو" ، ويخدمها عدد كبير من الخدم والحشم. والدها تاجر كبير يقضي جل وقته في فرنسا ؛ حيث يدير أعماله من هناك ، وقد أخذ أبنته معه بضعة سنين ؛ تلقت فيها العلم في أرقى مدارس باريس ، ثم عادت إلى " أزمير " تنتظر والدها الذي يأتي كل عدة أشهر ، يقضي أياما معدودات ثم يعود ثانية إلى باريس .

استيقظت لطيفة قبل موعدها، ارتدت ملابسها على عجل، ظنت أنجه أنها سـتأخذها معها ككل مرة تخرج فيها ، لكنها لم تطلب هذا ، سارت كأنها منومة أو مسحورة .

اقتربت من البيت الذي يتخذه مصطفى كمال مقرا للقيادة ، قالت :

-  أريد لقاء القائد في أمر هام .

تعوّد الحارس هذا، أن تأتي امرأة أو فتاة تطلب القائد لتشكو له الجنود الذين أخذوا أشياءها أو أساءوا إليها ،عاملها الحارس بجفاء وأراد أن يصرفها ، لكن التجربة علمته أن ذلك لن يجدي.فهن يصرخن ويبكين حتى يضطر أن يدخلهن ، كما أن القائد أوصاهم بحسن معاملة أهل المدينة .

سارت لطيفة ناحية حجرة القائد ، رأته على الفراش ويده مكتئة على حافته؛ رافعا صدره الذي يؤلمه قليلا ، قالت :

-  أريد القائد في خدمة .

تنهد مصطفى في أسى ، وقال عثمان – مساعده - :

-  أساء إليك أحد جنودنا ؟

-  لا

-  أحد أقاربك في مدينة قريبة وظروف الحرب تعوقك عن الوصول إليه ؟

قال مصطفى وقد ضاق بأسئلة عثمان الكثيرة إليها :

-  ارتاحي يا آنسة، أراك متعبة ، الحرب أتعبتنا كلنا .

-  جئت من أجل إنقاذ القائد .

ظن عثمان أن الفتاة اكتشفت مؤامرة لقتل القائد ، وجاءت لتبلغ عنها ، قالت :

-  جئت أنقذ القائد من هذا البيت الموحش الكئيب .

صاح مصطفى مبتسما :

-  وكيف سيكون الإنقاذ؟

-  أن تأتي لتعيش في قصرنا .

-  وأسرتك ؟

-  أعيش في القصر وحدي مع الخدم والحشم ، فوالدي يقضي معظم وقته في فرنسا .

وصاح عثمان مستجديا: وافق يا مصطفى من أجل إنقاذ نفسك .

لم يكن مصطفى مرتاحا لهذا ، كيف يسمح لنفسه بأن يدخل بيتا غير بيته، ويعيش فيه هو ومن معه من ضباط وجنود؟! . البيت الذي يقيم فيه الآن كان مهجورا ، تركه أهله وارتحلوا بسبب الحرب .

لكن لطيفة ألحت وبكت:

-  سأقوم بتمريضك بنفسي ، فلدي فكرة عن التمريض .

ووافق مصطفى مضطرا، حمل رجاله معداتهم وانتقلوا إلى القصر الكبير .

***

 استطاع حسن – الحارس الخاص لمصطفى كمال – أن يتقرب من أنجه ، فهو يقضي أوقاتا طويلة معها في المطبخ يتحدثان :

-  أنقذنا هذا القصر من الضياع، هنا نجد الطعام الساخن والفراش النظيف .

-  لكن القائد مازال متعبا .

قال حسن في أسى :

-  لقد أهمل نفسه كثيرا حتى وصل إلى هذه الحالة .

-   سيدتي لطيفة تقضي أوقاتا طويلة في حجرته ، تغيّر على الجرح، وتضع الكمادات على رأسه لكي تخفض الحرارة المرتفعة .

في ذلك الوقت كانت لطيفة بجانب مصطفى ، تضع يدها على جبهته، فجأة ، أفاق من غيبوبته التي طالت هذه المرة ، صاح :

-  أين أنا الآن ؟

وهبت لطيفة فرحة : حمدا لله على سلامتك .

-  ماذا حدث لي ؟

أمسكت يده : حالتك تحسنت، يدك كانت باردة كالثلج.

رفع مصطفى جسده ونظر إلى الحجرة في دهشة وصاح:

-  ماذا حدث في المعركة ، أين عثمان ليطمئني ؟

- أرتح الآن، كل شيء على ما يرام ، وسأخرج للبحث عن عثمان،لا تتحرك من مكانك

وعادت لطيفة بعثمان الذي لم يصدق أن مصطفى عادت إليه الصحة وأنه يستطيع الحركة والتحدث . ارتمي عثمان فوقه وأخذ يقبله وهو يقول :

-  قواتنا طردت اليونانيين خارج الحدود وانتهت الحرب .

تنهد مصطفى: ياه ، إنه عذاب طويل .

وقال عثمان:

-  أنقذتك لطيفة ، سافرت إلى أنقرة وجاءت بالطبيب من هناك .

وهمست لطيفة بكلمات قريبة من أذن مصطفى ، أحس بها وكأنها الموسيقى .

-  كلنا كنا قلقين من أجلك .

وأكمل عثمان :

-  لقد سهرت طويلا لترعاك .

كان لابد أن تذهب لطيفة إلى فراشها لترتاح بعد أن اطمأنت على مصطفى كمال،فقد قضت ليال طوال بلا نوم؛ ترعاه وتمرضه كما أن مصطفى كمال استرد صحته ويستطيع الآن أن يسير في حجرته بمعاونة عثمان .

 أراد مصطفى أن يسأل عنها فقد أوحشته، لكنه خشى أن يظن عثمان به السوء . شرد مصطفى طويلا ، وفوجئ بعثمان يقول له :

-  ها أنت قد شفيت، ولابد أن تحدد موقفك من لطيفة .

-  ماذا تقصد ؟

-  يجب ألا تفوتك الفرصة ، فأنك لن تقابل كل يوم فتاة تحبك كل هذا الحب .

-   لكنك تعرف أن الطريق مازال طويلا، السلطان وحيد الدين – سلطان البلاد – يعيش في غياهب الماضي بين حريمه وعبيده، ولابد من التخلص منه .

-  لا تنس أن لطيفة هي التي جاءت إليك، معنى هذا أنها على استعداد لتحمل المشاق من أجلك .

دق الباب ودخل حسن ، قال:

-  معذرة، أريد سيدي القائد في أمر هام .

-  - ماذا ؟

قال مرتبكا: أريد أن تسمح لي بالزواج .

-  انتظر حتى تعود إلى أنقرة .

-  لا أستطيع ، فالعروس تعيش هنا في أزمير .

ضحك مصطفى كمال: استطعت أن تجتذب فتاة نحوك .

قال عثمان الذي ظل صامتا ومتابعا لما يحدث في ابتسامة : هي أنجه خادمة لطيفة .

أومأ حسن برأسه ، فضحك مصطفى حتى أحس بالألم مكان الجرح:

-  تعرف يا عثمان أنه يحب أنجه ؟

-  أعرف منذ أن جئنا إلى هذا القصر .

لطيفة زوجة مصطفى كمال أتاتورك

 كان مصطفى يقف متكئا على السور الحديدي، يتابع مياه البحر أمامه وهي تدفع الصخور القريبة منه في عنف، اقتربت لطيفة منه :

-  أرجو ألا أكون قد أقحمت نفسي عليك .

فوجئ بها أمامه، فصاح فرحا :

-  لا، إنني سعيد بوجودك، كنت أفكر طوال الوقت ، لو تركنا أزمير في الغد ؛ هل سأستطيع العيش بدونك ؟

-  الغد، يا له من يوم ، أنني من خشيته لا أريد أن أفكر فيه .

-  ماذا ستفعلين عندما أترك أزمير وأسافر .

-  لا أظن أنني سأفلح، لا أظن ، فقد اعتدت الحياة وأنت بجانبي .

-  وأنا أيضا، لم أتوقع أن أحب هكذا، وأن أرتبط بفتاة كل هذا الارتباط .

وبكت لطيفة ، أنها لا تملك الآن سوى دموعها . ضمها مصطفى إلى صدره حانيا، وصاح:

-  إنني مثلك، لن أستطيع العيش بدونك، أريد أن أتزوجك يا لطيفة .

هبت فرحة:

-  حقا ؟

-  نعم ، هيا بنا لنبحث الآن عن مأذون .

ضحكت وقالت :

-  الوقت متأخر، انتظر إلى الغد .

-  لا أستطيع الانتظار إلى الغد ، سأبحث عن مأذون الآن .