سنوات الحرمان
م. مصطفى نعمان
كان لي جار في المدينة الجامعية عندما كنت ادرس بجامعة الاسكندرية وكانت غرفته في بداية الممر
والمدينة تتكون من عدة مباني كل مبنى يحتوي على سبع طوابق وكل مبنى يشكل حرف Y باللغة الانجليزية وكل ضلع من اضلاع الحرف هو عبارة عن ممر والممر به عشرون غرفة ممتدة على جانبي الممر
الغرفة مربعة الشكل لا تتسع الا لسرير وطاولة وكرسي اما خزانة الملابس فإنها مدفونة داخل الجدار لا يزيد عرضها عن ستون سنتيمترا ولها نفس العمق ,
حين تفتح باب الغرفة تجد امامك شباك من الزجاج الشفاف يطل على فناء تحيط به المباني من كل جانب
يتوسط الفناء المطبخ العمومي للمدينة ذات المدخنة السوداء التي تنبعث منها رائحة الطعام وتصل الى انوفنا في الغرف في أوقات تحضير الطعام , وكنا نتجمع في صالات الطعام الخاصة والتي تقبع في الدور الأرضي من كل مبنى يتم توزيع فيه الطعام في أوقات محددة وهذه كانت من الخدمات التي كانت توفرها لنا المدينة لمثل من في حالتنا خاصة ونحن مشغولون بالدراسة وليس لدينا وقت ولا حتى مكان حتى نهتم بتجهيز طعامنا بأنفسنا
وكان الشباك له استخدامات متعددة نروح بها على أنفسنا وللنداء على بعضنا البعض لنوقظ النائم والكسلان ,
يوجد في الغرفة على اليسار بعد الباب مباشرتا خزانة الملابس يليه سرير يطلق عليه سرير سفري يمتد موازيا للحائط وملاصق له وان هناك ممرا وهميا بدون حواجز امام الباب يفصل الجانب الايمن عن الجانب الايسر وعلى الطرف الايمن توضع منضدة وخزنة ادراج وكأنها فصلت خصيصا ومناسبة تماما لعرض الحائط والكرسي من الخشب العادي يقسم ظهورنا من كثرة الجلوس عليه وقت المذاكرة نحتاج بعدها الى الوقوف فترة من الوقت حتى يستعيد ظهرنا استقامته الطبيعية
وفى بعض الاحيان قد لا يفي الوقوف بالغرض فتكون نهايتك بعد التخرج شخصا محنى الظهر ذا نظارة سميكة وبطن منبعجة إذا لم تلحق بزميلة كانت تعرفك اثناء الدراسة قبل ان يحدث لك ذلك فترأف بحالك وتقبلك زوجا لها
والا سوف تحيل الامر الى ست الكل لتختار لك العروس البلهاء بعد ان تستميت في وصفك لها بانك الفارس الهمام ذو القوام الرشيق والعيون الزرقاء لأنها كانت تتوحم فيك على الفنان الفلاني او كانت تطعمك وانت صغيرا جبنة رومي فتحولت بقدرة قادر بعد ان بهتت عليك الجبنة واصبحت كالديوك الرومية ذات العرف الاحمر
ولا تنسى ان تستميت الا تراك الا إذا وقع الفأس في الراس وقبلتك بعلا لها ,
بعد الزواج تكتشف الزوجة الخديعة التي وقعت فيها فتظل تنغص عليك عيشتك طوال حياتها تذكرك بما وصفتك أمك لها بانك أجمل من حسين فهمي او عمر الشريف وانت دائما ترد عليها بان القرد في عين امه غزال
كما أنك كنت تتعجب لماذا قبلت بك وانت على هذه الهيئة الا ان ردك هذا لا يعفيك من تلك المعايرة حتى بعد ان يصبح لك احفادا وتجلس في شرفة البيت على كرسي متهالك وتسمع حفيدك يسال جدته ما الذي أعجبك في جدي يا تيتا حتى تتزوجينه الم يكن لك عيون ترين بها يومئذ ام ان تيتا بابا شربتك شرابا اصفرا
فترد عليهم وتسرد الحكاية بما وصفته ماما جدو لها وهي تخطبها لجدهم وهم يتغامزون ويتضاحكون ولا يسلم الامر من اضافة تحابيش وهوامش حتى تزيد من ضحكاتهم وتعليقاتهم الساخرة وانت تخفى نفسك في الكرسي الخيزران وتتصنع النوم حتى لا يدركون أنك تسمع ما يقولون
نعود الى المدينة الجامعية كانت تلك الغرفة بالكاد تسع شخص واحد وهو ما كان يحدث في السنوات التي كنا ندرس فيها وكانت الممرات تؤدى في النهاية الى سلم خارجي به بهو فسيح بكل دور نطلق عليه ساحة المعارك
كانت تلك ملتقى الباحثين عن هواء منعش بعد التعب من المذاكرة واستراحة النفس من كبت الغرفة المغلقة الضيقة الا اننا كنا أرأف حالا ممن اتوا بعدنا فقد ضاقت أكثر عليهم حيث أصبح يسكن في تلك الغرفة الضيقة شخصان ولا ندرى ماذا كانوا يفعلون فيها بعد ان جعلوا السرير الصغير هذا بدورين كالمساجين او الاطفال الصغار لا طلبة جامعيين لهم نفوس مستقلة واهواء مختلفة لا يجتمعون ابدا في مكان ضيق بهذا القدر
اما جارى هذا كان اسمه جمال من قرية تبعد عن الاسكندرية حوالي مائة وعشرون كيلو مترا الا انه كان يأخذ ثلاث مواصلات حتى يصل اليها في الاجازات فلم يكن لها طريق مباشر وليست على الطريق الزراعي الذي يربط بين القاهرة والإسكندرية فكان لا يسافر اليها الا في الاجازات الطويلة التي تستحق عناء هذا السفر
لم يكن صديقنا من اسرة فقيرة ولكن كان ابوه عمدة تلك القرية تبدو عليه امارات العز ولم يكن يقيم في تلك المدينة من عوز
ولا من يقيمون في المدن الجامعية معظمهم بسبب العوز او بسبب مصاريفها الزهيدة جدا تكاد تكون مجانية بل كانت امنية كل طالب في الجامعة حتى الذين كانوا من قاطني مدينة الإسكندرية ان يسكن بها نظرا لما تتمتع به من مزايا مثل التجمع الطلابي الكبير حيث كانت تضم أكثر من عشرة الاف طالب من كافة الكليات وكذلك الجو الهادئ الذي يبعث على المذاكرة بالإضافة الى روح الانسجام بين جميع قاطنيها لانهم يتميزون بنفس مستوى التعليم ونفس الاعمار رغم اختلافهم في مستوى معيشة اهلهم الاصلية
فتجد فيها من جاء من القرية الريفية البسيطة والتي يتميز اهلها بالطيبة والكرم والاخلاص او من مدن بعيدة عن الاسكندرية لذلك اضطروا الى السكن فيها , وتجد فيها ايضا من جاء من أقاصي الصعيد الذين يتميزون بالشهامة والرجولة وانكار الذات بل كان منا من اهل سيناء الحبيبة ومنهم من عاشر اليهود فكانوا يخبرونا عن حكايات ونوادر عنهم وعن افعالهم في سيناء والطبائع التي اخذوها منهم وكانوا يعترفون بأنهم قد تطبعوا ببعض اخلاقهم ولكن طغى عليهم الطابع المصري الاصيل
وكان منا ايضا من مدن القناة كبورسعيد ودمياط والتي كان يشاع عن اهلها البخل الا انهم على العكس من ذلك بل كانوا يتندرون على أنفسهم بتلك العادات ويبررون لنا سبب شهرتهم بها نظرا لأنهم تعودوا على العمل منذ نعومة اظفارهم وكانوا يكدون ويعملون حتى اثناء المذاكرة لذلك نشأوا وهم يعرفون قيمة المال ولا ينفقونه الا فيما يفيد الا انهم كانوا اناس كرماء وزاد في كرمهم ما اشتهروا به من بخل ليدرؤوا عنهم تلك الصفة
قل ما تجد تجمع يجتمع فيه هذا الكم الهائل من الشباب وهذا الخليط المتجانس من العادات والتقاليد العريقة التي تتوارث من جيل الى جيل رغم اختلافهم هذا لم تكن تجد الا التالف والتجانس والاشتراك في صفات كثيرة لا تجد شعب على وجه الارض يشترك ويتجانس كهؤلاء بل ولا حتى تجانس الشعب المصري نفسه هذا عن خبرة بعد ان زرت كثيرا من بلدان العالم لم أجد مثيلا لهم على الاطلاق
كان جمال يدرس الطب يكبرني بسنوات قليلة فهو عندما التحقت بالسكن كان في السنة الخامسة الا ان هيئته كانت تعطيه عمرا اكبر من العمر الفعلي له وسبب هذا الامر له ازمة كبيرة وتأثرت نفسيته من موقف حدث له وجاء متأثرا يخبرني به
د. جمال كان من المتفوقين وكان يحصل على امتياز كل عام وعلى درجة من الذكاء لا بأس به لولا انه لا يبدو عليه ذلك وهذا ما يتميز به معظم ابناء القرى
وذلك لبساطة عيشتهم ولصلات القرابة التي تجمعهم في قرية واحدة بداية بكبيرهم العمدة الى بيت اكثرهم فقرا وهذه سمة قل ما تحيد عنها قرية من قرى مصر والصعيد
لا يشترك في ذلك اهل المدن فهم اخلاط وفئات مختلفة من المجتمع وتشكيلة كبيرة من قرى ومدن اخرى وبلاد متفرقة اما اهل القرية هم في الغالب انحدروا من عائلة واحدة او اثنتين على الاكثر لذلك لا تتعجب عندما يخبرك شخصا من القرية ان زميلا اخر لنا ابن عمه فتظن للوهلة الاولى ان ابا هذا اخ لاب ذاك وحينما تبحث في القاب كل واحد منهما فلا تجد تشابها بينهما في الاسماء
ولكنهم يبدؤون في شرح كيف ان اب هذا من اقارب والد ذاك في رابع او خامس جد بل أكثر من ذلك حتى الامهات تجدها من نفس العائلة فام والدة هذا ابنة جد خال ام ذاك لتجد في النهاية ان كل القرية من اب وام واحدة
كان لا يبدو على جمال شدة الذكاء لهذا التواضع القروي الغير مصطنع كيف يتكبر على اهله وعائلته فيشب الولد على صفات الود والتسامح والتواضع فلا تفرق بين عظيم ووضيع او جاهلهم ومتعلمهم إذا قدر لك ان زرت احدى القرى ورأيت كيف يعاملون بعضهم بعضا
الا ان الامر ليس ورديا دائما بل ان هناك صفات أخرى تشوب صفات القرية ولكن لا تتعدى القرية نفسها وهي صفة الجرأة والتبجح فلا تتعجب ابدا ان تجد مثلا رجل من اهل القرية شاربه يقف عليه الصقر كما يقولون يطرق باب أي بيت من بيوت القرية فيفتح له ويدخل ويجلس ويقدم له واجب الضيافة من مشرب ومأكل وان لم يكن رجل البيت موجودا ولا يوجد بالبيت سوى النساء والبنات
واذا حاولت الاعتراض على ذلك ينكرون عليك بالجملة ويكون الرد بان هذا الرجل هو الاخ وابن العم وليس هناك ما يمنع رغم ان كل النساء داخل هذا البيت حل له وليس هناك أي مانع ان يتزوج منهن ,
هناك صفة اخرى والتي ترتبط بأنهم عائلة واحدة هي عدم الخصوصية , تتدخل القرية في ادق الشئون الداخلية والاسرية وحتى الحميمية في كل بيت وليس هناك اسرار في القرية كل شيء مباح كل شيء مشاع , يمكن الحديث فيه من الصغير والكبير يشترك في هذا الشيخ الوقور وحتى السفيه يمكن ان تسمع منه ادق اسرار القرية على لسانه دون مواربة او خجل مما قد يسبب بعض الازمات تصل في بعض الاحيان الى فراق الازواج وتشتت الاسر
تلك بعض سمات القرية التي ينحدر منها صديقنا جمال اقصد د. جمال كما كنا نناديه
لقد افاق جمال فجأة على حاله التي عليها من طبائع ريفية مستقيمة ودراسة تقتل العمر والايام ولا تتيح له الوقت ليتعرف على الحياة من حوله
ولان الحياة في كلية الطب في ذلك الوقت لا تختلف كثيرا عن طباع اهل القرى معظم الطلبة ذكور وان وجد اناث فان ذلك مرهون ببيئتها فان كانت من اهل القرية فلا تختلف عن الذكور كثيرا من حيث الشكل او الطباع ناهيك عن الانغماس في الدراسة حتى الموت
او انها من اهل المدن حيث الصخب والتحرر والانفتاح والذي كان غير مقبولا في تلك الفترة بين اوساط الطلبة وحتى ممن هم من اهل المدن أنفسهم
استيقظ الدكتور فوجد نفسه وسط كل هذا فطاوعته نفسه تغيير هذا الوضع وساعد على ذلك الفسحة التي تعطى لطالب نهائي طب ان تقسم السنة النهائية الى سنتين او شيء من هذا القبيل فحاول صاحبنا ان يستغل ذلك بصورة خاصة فحمل نفسه وأصبح يتريض في الحدائق والمتنزهات
وما إدراك ما الحدائق التي كانت تنتشر على كورنيش الاسكندرية أضف اليها جو البحر الذي يعطى مزيجا من الروعة والجمال قل ما تراه في مكان اخر ثم يزيد الجمال والروعة حين يوشك الشتاء ان ينقضي ويطل الربيع بعبير الازهار والورود في تلك الحدائق فتلتحم مع عبق البحر وتيارات النسيم العليل التي تهب منه فيشع بهجة تملا القلب الكسير فرحا وتسلب لب الرزين فتراه يترنح من الهوى كأن مسه لوثه جميلة او تجرع خمرا ذهبت بعقله
إذا سرت بين الكورنيش والورود على ضفاف البحر والعبير فكل شيء مباح تسرح في ملكوت ملائكي وتطير بجناحين في الهواء وأنت في هذه النشوة الجميلة تتراءا لك بنات حسان من أجمل ما خلق الله على الارض تجد براعم تفتحت بين ضباب رذاذ البحر ورحيق الزهور ترى الملائكة تسير على الارض لن تنسى ذلك المنظر ما حييت ولن تراه في أي مكان اخر ,
نصف عمرك لم تعشه يا من لم تعش لحظة من هذه اللحظات
وجد نفسه بين كم هائل من اسراب الاطفال والبنات تهب وتغدو من حوله عائدة من المدارس او ذاهبة اليها تسير في مجموعات كسراب الحمام والطير وهي تحلق في السماء وقت الهجرة منظر يأخذ بالألباب وتتيه منه العقول
تعب يوما من كثرة تجواله واراد ان يستلقي بعض الوقت ويجلس على احدى المقاعد في الحديقة وهو مأخوذ مما يدور حوله ومنظر البحر امامه يردد في نفسه ويتحسر على الايام التي ضاعت منه منذ ان وطئت قدماه الاسكندرية ولم يرى هذا الجمال من قبل
كم هو أحمق ان ترك نفسه تتعفن في كتب الطب والدواء والمرض ولم يتمتع بتلك اللحظات الرائعة والتي كان من الممكن ان تنتهي دراسته ولا يدرك من هذا شيء
وبينما هو جالس يتحسر اذ بسرب من الملائكة حط بجانبه وجلست مجموعة من البنات الصغيرات بجواره دون تكلف ولم يعبئن بوجوده على الاطلاق يغردن كالعصافير ويتحدثن في امورهن بصوت عال كعادتهن ويضحكن ويتغامزن وكانت جلستهن في طرف المقعد يفصل بينهن وبينه مسافة كافية تسمح له بالنظر اليهن بطرف عينيه
يا الروعة والجمال وقع بصرة على احداهن فلم يتمالك نفسه وأحس بشيء في داخله لم يحس به من قبل شلت أعضاءه ويبست حنجرته وزاغت عيناه
لم ير وجها كالبدر مثل وجهها من قبل , تتخلله حمرة تكاد الدماء تنبثق من وجنتيها وبشرة جبهتها البيضاء الناصعة تنساب كالحرير من أطراف شعرها الى اهداب منسقة كأنها خطت بقلم رسام محترف وفم ضيق وعين واسعة يتدلى الشعر على الاكتاف تهب نسمة خفيفة تظهر من تحت الشعر اذن دقيقة تنحني خطوطها في انسجام رائع لا ينكره فنان ولا يستطيع الا ان يلتمس ريشة ليرسم بها هذا الوجه الجميل
زاغ صاحبنا وسقط في مقعده وحدثته نفسه ان يخترق الجدران الفاصلة ويسحق الصمت الذى غرق فيه طوال تلك السنوات
ان الفرصة سنحت لك فلا تضيعها هكذا قال لنفسه وهم ان يبدا بالكلام واخذ يقاوم نفسه لكى يبدا بالكلام فلم يستطع , جاهد , وجاهد بل سمع شيء يتكلم ولكنه لم يسمع صوتا , لقد تحدث كثيرا بكلام ولكن لم يخرج من فمه شيء , مازال يستعصى عليه لسانه كأنه الجم
اه يا كل فصيح على الارض اين انت كي تحفزني , اه يا من تدعى الجرأة والشجاعة هنا تخور القوى هنا يندحر الشجعان
اين انت ايها الفلاح الفصيح يا من كسرت جدار الصمت وخلدت اسمك على جدران المعبد وانت تتجرأ وتخبر الفرعون العظيم بمظلمتك , اين انت وقد اسهبت وتماديت بصوتك امام الفرعون بلا خوف او خجل حتى ذكروك وتحدث عنك الجميع بالا مثيل لك ولا ند لك
اريدك الان ان تقف الان موقفي لأرى منك شجاعتك وغرورك الذي وقفت به امام الملك , لا ... ليس لك ان تفعل شيئا في موقفي هذا , لم نرى حتى الان فلاحا فصيحا قد خلد اسمه وهو يتجرأ ويكشف لمحبوبته عن مكنون فؤاده لم نسمع به لم نرى ذلك مكتوبا على اعمدة المعابد لأنه لم يولد حتى الان هذا الفلاح الذي يفعل ذلك , ليس انت سوى فلاح بسيط قال ما قال امام الفرعون ولكن لم يختبر هذا الفلاح الان لنرى ما كان منه
من اين إذا اتى بالقدرة على التجرأ. ااكون انا هذا الفلاح الذي سوف يقطع هذا الحبل الطويل المتين الممتد من الاف السنين المجدول بعصارة الخجل والمشدود على صراط الحياء .... انى لي ذلك؟
وهو في غيبوبته تلك خرجت منه كلمة دون ان يدري من هول ما يكبت في داخله فالتفتت اليه الصبايا ولم يكن من بد الا ان يتكلم والا ظنوا به الظنون
فأردف قائلا ما الذي اتى بكن في هذا الوقت والمدارس مازالت تعمل؟
فردت عليه: كنا في رحلة مدرسية ورجعنا منها واتينا هنا لنستقل الاتوبيس قالت ذلك دون تردد ولا مبالاة كان صوتها سيمفونية تعزف أعزب الالحان
فتجرا قليلا وقال لها: ولماذا تأخذون الاتوبيس من هنا
فقالت: اننا دائما نأخذه من هنا الى المندرة (والمندرة حي من احياء الإسكندرية يبعد عن الكورنيش حوالى 20 كم) لأنه اول الخط حتى نستطيع ان نجلس في الاتوبيس
اذن أنتم تأتين كل يوم الى هنا بسبب الاتوبيس
قالت: بالضبط ومدت شفتاها ظنا منها ان الحديث قد توقف او هكذا ارادت
الا انه لم يرد ان يفقد جراته فقال لها في أي مدرسة تدرسون
قالت: في مدرسة السيدة سكينة الثانوية للبنات
قال معقبا: باي صف
فردت عليه باقتضاب: بالصف الثاني الثانوي قالت هذا وهي تحدق فيه على استحياء وقد احست بشيء ما
وبتمرس الانثى رغم صغر سنها لاحظت عليه بعض مما فيه ولكن لم تعرف سببه
ولكن استمر الحديث البسيط المسترسل الذي ليس به أي تكلف أو سوء ادب
فقالت له: يبدوا عليك الضيق بعض الشيء قالت هذا بدافع من المواساة كطفلة رات اباها في طور حزين
فقال في نفسه ان الملائكة تحس بما يشعر به البشر وأحس انه فقد احساسه بالمقعد وكأنه ارتفع بقدر غير محسوس عن مجلسه وأصبح في الهواء بماذا يرد عليها وماذا يقول لها ولكنه واصل الحديث حتى لا ينقطع
وقال: لا إنني فقط مهموم بعض الشيء فقد احسست بضيق في النفس وانقباض في القلب فظننت إنني مريض ولكن الطبيب طمأنني وقال ليس بك مرض ولكن يجب ان تغير من طورك وتخرج في الهواء الطلق لتتنسم هواء منعش
فقالت: لا تبتأس ليس هناك ما يدعو للضيق في هذه الدنيا اترك وراءك من هم مثلما افعل فان
صويحباتي اللائى تراهن بجواري ما أكثر ما يكدن لي وكذلك إخوتي في البيت يفعلون
وهو ما يعرضني دائما للعقاب الا إنني كما ترى اخرج معهن ولا اعبا فتلقت زغده من كوع
احداهن وضحكن ضحكة خبيثة فغمزت لهن ان يصمتن
كانت تنظر اليه وترثى لحاله ولم تتجاوز في حديثها عن الادب فهو يبدوا شخصا محترما تبدو عليه علامات الوقار في بذلته التي تبدو انه اعتاد على لبسها وانحسار مقدم شعره عن مؤخرة جبهته ولا يبدو عليه من الشباب العابث بل احست انها تتحدث الى شخص جاد
طال الحديث قليلا واخذت تسري عنه بكلامها حتى نسى ما حوله ولم يعد يظن انه مازال على قيد الحياة فلو انه ذهب الى امه وأخبرها ما حدث له فلن تصدقه
هكذا قال لنفسه: اين انت يا أماه لترى ابنك وهو وسط الجنان تحدثه الملائكة بنفسها وتطوف به في السماء الصافية لم يعد يسمع الكلمات وتوقف عنده الزمن وهام في غيومه يتمنى الا ينتهي اللقاء الجميل الا أنه لم يصدق ان يأتي عليه مرة اخرى او يتكرر
في لحظة ضربت احداهن على كتفها وقالت لها ان الاتوبيس قد جاء فلنسرع حتى نلحق به فأشارت اليه بيدها مودعه ولكن اخبرته انها تأتى دائما الى هذا المكان بعد انتهاء المدرسة لتلحق بالأتوبيس وانه إذا أحب ان يلقاها هنا فأنها سوف تكون سعيدة
لا يمكن ان يكتب روائي هذا المشهد دون ان يحصل على جائزة نوبل في الادب ان استطاع أن يرى قلب جمال وما وصل اليه من نشوة السرور وفرحة وانبساط
سار من المنشية وحتى غرفته في المدينة الجامعية دون ان يرى الطريق وقد قطعها سيرا على الاقدام نسى كل شيء نسى عمره ونسى وقاره ومركزه الذي ينتظره بعد بضعة أشهر كونه سيصبح طبيبا محترما يوقره مرضاه ويطلب وده الناس اما هو فقد أصبح في عالم اخر وشعر بما لم يشعر به من قبل
ووجد نفسه في الموعد، تأخذه قدماه الى المكان المعلوم ويجلس في نفس المقعد وتأتى الفتاة الى نفس المجلس مع صاحباتها يتحدثن أحاديث قليلة حتى يصل الاتوبيس فتقوم مودعه له على ان تلقاه في وقت لاحق بينما يزداد الغمز واللمز من صويحباتها وأصبح الضحك يزداد ويخرج عن حدوده وهو لا يعبأ الا بها ولا يلاحظ ما يدور حوله
تكرر اللقاء وازداد تعلقه وكثرت الأحاديث ولكن لم تكن تخرج عن حدود الادب والاحترام له ولم تتجاوز في الكلام عن الامور العامة الشائعة
هام شغفا وظن في غفلة من نفسه انه قد تغير وصار شخصا اخر
وما العيب في ذلك وما الذي يضير فهو شاب ينتظره مستقبل رائع يتمناه كل شاب اخر وهي بنت في مقتبل شبابها لا يمنع الارتباط بها وهي في ذلك السن الصغيرة فهو يرى بنات بلدته يتزوجن في اعمار اقل من عمرها وينجبن وهن لا يزدن في اعمارهن عنها فما المانع الا انه نسى أن قوانين القرية لا تسر هنا وان احاسيس بنت المدن تختلف عما تحس به بنت القرية
مر وقت ومازالوا يقطفان بعض اللقاءات قبل ركوبها كل يوم وبدا في أحسن حال ودار هذا النقاش الاخير بينهما
اقبلت مع صديقاتها بنفس المظهر ونفس العادة التي اعتدن ان يأتين بها من صخب وضحك ودلال
سلمت وجلست فابتسم وهز راسه بالسلام قالت: تبدو الان في أحس حال اليس كذلك
رد: نعم وهذا بفضلك لولا حديثك لظلت نفسي منحسرة وزاد ضيقي
قالت باستغراب: بفضلى انا !! ولكنى أحس براحة كبيرة وانا اتحدث اليك ولا أدري سبب ذلك
قال: إذا فان الشعور متبادل وهذا ما يسعدني كثيرا -يقولها بصوت شاب يتحدث الى فتاته
ردت هي: هو يسعدني ايضا ولكن الا تعرف ان اجازة الامتحانات قد اقبلت وإنني سوف انقطع
عن الذهاب الى المدرسة كي استعد للامتحانات في الفترة القادمة وسوف تبدأ الاجازة
من اليوم
قالت هذا وهي معتقدة انها ادت ما عليها وانه أصبح في حال أحسن عن السابق ولم يعد يحتاج الى طبيبه الخاص بعد الان
كلامها قد الجمه بسياط من نار ولكن حيائه ووقاره منعه من اظهار ذلك وسكت ولم يعقب
فعادت الى الحديث وقالت: ما الذي اسكتك هل تعود الى سابق عهدك ويضيع ما صنعت؟
ولكنى كنت افكر في امر ما , قال لها هذا وهو يطرق ببصره في الارض
وكان يهم ان يسألها عن عنوان بيتها وكيف يقابل والدها
لا أدري هل هي احست بغريزة الانثى ام انها قررت ان تنهى تلك المقابلات بصورة ودية تحمل في ذاكرتها اشياء جميلة وهي قد ادت ما عليها دون ان يكون لها غرض وكذلك هو ايضا
فسارعت تقول له: لم أكن اتصور ولا صاحباتي ان نقابل شخصا مثلك يا عمو دائما نذكرك ونحن في الفصل بكل خير ولكن حتى الان لم اعرف ماذا تعمل وكم من الاولاد لديك
ما ابسط الكلمات وما اعذبها لا تجرح ولا تعطيك فرصة في ان تفكر في امر مختلف
فانت إذا عمو هذا بكل بساطه , عمو ما أجملها من كلمة , الا انها اخطأت الشخص فكانت هذه اخر كلمة كان يريد ان يسمعها ..... عمو
حاول ان يجرب الطريقة المعتادة وهي الرد بالصدمة وبيان الحقيقة ربما يثنيها عن قرارها بانه عمو
فقال لها: هل تظنين إنني كبير في السن الى هذه الدرجة فانا في نهائي كلية الطب وادرس مثلما انت تدرسين
تعجبت وردت عليه: تلك مفاجأة , كنت اظن أنك تجاوزت الثلاثين وهذا ما تبدو عليه ملامحك ولكن لن يغير هذا من نظرتي اليك فانت بمثابة عم لي ففارق السن وهيئتك الوقورة لا تتيح لي ان اعاملك الا بكل ادب واحترام كما اعامل والدي وانت تستحق ذلك يا عمو وقالتها بصورة فيها حنان الطفل وصرامة المرأة الواعية توحى له بانه لا عودة ولا امل في غير ذلك
افاق من سباته وأسقط من الجنة , هكذا حدث لآدم ابونا الكبير لعله خرج من الجنة بفضل بعض من هذه الكلمات كما سمعها الان الا ان الحقيقة التي نعرفها أنه اكل من الشجرة كان سبب خروجه من الجنة ولكن الكلمات اشد
هل من الممكن ان يكون هذا الحلم الجميل قد أوشك على الانتهاء
هل الامر بهذه البساطة حتى يتلاشى هكذا
هل هي بالفعل ملاك من السماء اتت لتفعل به ما فعلت ثم تراها قد فتحت جناحيها ورفرفت عائدة بعد ان سمعت نداء السماء يدعوها ان تعود
طبعا لم يكن صاحبنا من هؤلاء الشباب الطائش الذي تصدمه المواقف فيتحول الى الضائع العاشق الغشيم التي تسود الدنيا في عينيه ويهيم يلعن الايام ويصب جام غضبه على المحبوبة او يركع امامها كي تقبله وترضى عنه وان تتزوجه كما يشيع في الافلام الهابطة والمسلسلات التي تمجد بزعمهم الحب والحبيب والهوى الفارغ الذي لا مضمون فيه سوى ابراز اللوعة وضعف الرجال وذلهم ومهانتهم بسبب حب اعمى لا يثمن ولا يغنى من جوع
رغم ان الصدمة كانت لتهد الجبال وتغير من صفاته وتحوله الفجائي الذي كان يبحث عنه الا انها تلك هي الحقيقة المرة , ذلك هو الواقع الاليم , ليس للمرء ما تمنى ولكن الاقدار تفعل ما تشاء
نعم هذا هو كل شيء فاحفظ كرامتك وصن عرضك وتوشح بكبريائك فانت الوقور المحترم
وحيث ان الامر وصل الى هذا الحد فلا بأس
اغلق صاحبنا جمال قلبه ولكنه لم يغلقه على فراغ ولم يعتصره الالم بل اغلقه على ذكرى جميلة لن ينساها طوال حياته وخبرة لم يكن يتمنى أفضل منها حتى يشعر بدفيء ما يحس به وان هذا الشعور الجميل هو حقيقة لا خيال كما كان يظنه
وبعد طول انتظار وصمت من الجميع
ضحك جمال .... ضحك ليخفى دمعة اوشكت ان تنسدل فتغير من الموقف
وضحكت هي ايضا فظهرت اسنان صغيرة من ثغرها لآلئ تصطف في موج البحر الهائج ليلتقط ندى الرضاب ينظم به حبات المطر
كأنهما قد تراضى بما نهما منه في غفلة واكتفوا بما نالاه من اوقات جميلة لتمضي بهما الايام بعيدا دون ان يدريا اكان حلما ام حقيقة , أمن حكمة تقابلا ام مجرد صدفة رمت بهما وانقضت
هذا كان اخر مشهد بينه وبينها وهي تأخذ بيد احدى صديقاتها
وهي تقول لهن بصوت خافت: الم اقل لكن بانه صغير الم اقل لكن انه شخص محترم ولم تصدقنني ,هذا ما حدث بكل بساطة وأنتن كنتن تظنن ان الامر لن يمر بسهولة يا خبثاء ولكنه نادى عليها قبل ان يبتعدن فأسقط في نفسها وانفجرن ضاحكات
لكنه قال: تعرفي إنني لم اعرف اسمك حتى الان ... ممكن تذهبي ولم اعرف اسمك؟
فقالت وهي تتنهد: عبير يا دكتور
طبعا عبير وهل هناك اسم اخر يحتويها غير هذا الاسم وقد تنسمه بين الزهور ولفحات الندى
لقد اكتفى جمال ورد عليها: جمال د. جمال هذا اسمي
فصاحت مبتعدة: عبير الزهور يودع جمال الطبيعة وهي تبتسم لترسم على وجهه بسمة مازالت تترك أثرها حتى الان وانا اراه أمامي وهو يحدثني عن حكايته
سكت د. جمال عن الحديث وتوقف عن سرد أجمل وارق موقف يمكن ان يتفوه به عاقل رزين وليس طائش ارعن
كل تلك الكلمات العذبة التي انسابت من فمه وهو طالب الطب الماهر الذي قضى جل وقته في المعامل وبين حثث التشريح ورائحة الدواء التي تملا جنبات المستشفى التي يتدرب بها
انى له ان يصل الى ما وصل اليه , لقد مر اذا بتلك التجربة وهى حقيقة لا خيال فكيف يمسك بعد الان بمبضع ليفتح به اجساد البشر ,كيف يقبل بعد الان ان مشرط الجراح داخل أعضاء بشرية تنتسب اليها هذا الملاك
الى هذا الحد وصلت به هذه التجربة من شفافية ونقاء
بل ان ما مر به لم يكن الا قطوف من اطياف الخيال نسجت حول قلبه وسائد السكون البهاء
سكت الطبيب
سكت ولم اهمس بكلمة حتى فرغ ولم أجد ردا على أي لحظة مر بها
ثم ضحكت انا ايضا كأنني كنت معه وهو يتلقى تحيات الوداع , كأنني كنت معه أحس بما أحس به وقت ان ضاع الامل
ماذا لو كنت انا مكانه هل كنت أستطيع ان اتماسك كما فعل
وهل كنت أصبح هادئا كما يحدثني الان وكأنه يتحدث عن شخص اخر ليس هو
يا لجبروته وروعته ياللمسكين كيف يشعر في داخله الان وكيف يستطيع ان يبقى على الارض ولم يحلق في السماء حتى الان
بعد سكون طال امده بادرته: حرام عليك والله يا دكتور ما تفعله بي بجبروتك هذا هل انت شخص عادى ام انت جبل من الثلج وسط غيوم حالك
ضحك ورد في اقتضاب: عادى والله عادى جدا
ماذا تظنني انى فاعل عادى جدا واشاح بوجهه ليخفى عينيه عنى
فقلت وانا احاول ان أسري عنه: أحسن حاجة تأخذ بعضك على الست الحاجة تعمل لك دكر بط تأكله وتنام وتصبح في الصباح على عاداتنا القديمة خاملا كسلان حتى لا تحدث لك انتكاسة
رد على: انت شايف كده برضوا
قلت: أحسن حاجة في حالتنا دي ولكن لا تنسني الست الحاجة من الدعاء وأيضا ورك من دكر البط لا يضر
قال وهو يخرج من غرفتي: يوصل