أمُّ صلاح مع الله

د. عبد الله الطنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

هكذا كانت معروفة في قريتها الجميلة بخضرة حقولها ، الغنية ـ نسبياً ـ بما تردُّه على أسرتها من محاصيل الحنطة ، والذرة ، والشعير ، والبطيخ ، والجبس ، وهو البطيخ الأحمر الذي يسميه أهل حلب وريفها (جبس) .

كانت فتاة صالحة ، طيبة ، ولها ، كما لسائر صويحباتها ، أحلامها الوردية ، وكثيراً ما كانت تسرح بخيالها نحو المستقبل ، وهي في المدرسة ، وهي تعمل في حقول أبيها الحاج مصطفى ، وهي في المدرسة ، وهي تعمل في حقول أبيها الحاج مصطفى .. كانت تحلم بالزواج من فارس تلد منه فارساً تسميه صلاح الدين ، يكون كذلك البطل الذي كثيراً ما سمعت عنه من أبيها ، ومن معلمتها ، وها هي اليوم في عامها الخمسين ، وصلاح الدين الذي أنجبته ، في العشرين ، ولكن .. أين هو يا حسرة ؟ إن أولاد الحرام ، لا يا ربي .. أستغفر الله العظيم من هذا الكلام .. أحد رفاقه كان يحسده على أخلاقه ، وعلى تفوّقه في المدرسة عليه وعلى كل زملائه ، كتب عنه للمدير ، واتهمه بأنه من الإخوان المسلمين ، ليعتقلوه ويحبسوه كما حبسوا أصحابه الطيبين : أحمد ، وإسماعيل ، وعبدالرحمن لأنهم مثل ابني صلاح الدين ، شباب متدينون ، يصلون في المسجد ، ولا يؤذون أحداً ، ولا يعصون الله ، فحبسهم الحاكم الظالم ، أما ابني صلاح ، فقد هرب منهم إلى حلب ، واختفى عن عيون الشرطة والمباحث ، ثم هرب مع بعض زملائه إلى العراق .. ودرس هناك ، وصار دكتوراً قدّ الدنيا .. أنا لم أره من عشرين سنة .. ولكني فهمت من صاحبه عبدالرحمن ، أن ولدي وفلذة كبدي صلاح الدين ، سافر إلى اليمن .. أين اليمن ، لا أعرف ، ولكن الذي يسأل لا يضيع ، وقلبي احترق على فراقه .. ربّيته كل شبر بنذر ، هكذا نقول في قريتنا ، وكنت أربيه ليكون بطلاً كصلاح الدين ، ولكن الملاعين خافوا منه ، خافوا أن يصير مثل البطل صلاح الدين ، وسمعت أن البطل صلاح الدين ، أول ما بدأ ، بدأ بالخونة .. والله غريب .. خونة ؟ ومن هم أولئك الخونة ؟ من العرب والمسلمين ؟ عجيب .. العربي يخون ؟ المسلم يخون ؟ والله آخر الزمان .. لكن البطل صلاح الدين لم يقصِّر معهم .. الذي تاب منهم ، أخذه البطل صلاح الدين ، ووضعه في جيشه ، والذي لم يتب ، قتله وخلّص الناس منه .. ولكن يا حسرة ، أين ولدي أنا الدكتور صلاح الدين ؟

قلت في نفسي : لا تخافي يا أمّ صلاح الدين .. قومي سافري إلى اليمن .. قالوا لي :

ـ إلى اليمن يا أم صلاح ؟

قلت لهم : نعم إلى اليمن ، والحمد لله جمعت ثمن بطاقة الطيّارة ، يعني بدهم ياكلوني ؟ أنا أم صلاح الدين .. صحيح ابني صلاح ما عنده جيش مثل جيش البطل صلاح الدين ، وما عنده فرس مثل فرس البطل صلاح الدين ، ولكنه دكتور يداوي الناس ، وينصحهم ، ويحنّ على الفقير ، أنا هكذا ربّيته ، وهو لا يخيّب أمّه أبداً .. قال يخيّب قال .. والله منذ كان صغيراً كان جدعاً ، صاحب مروءة ، شهم ، ابن أبيه وأمّه ، ابن تلرفعت ، تربّى فيها على الفضيلة والدين ، وحبّ الفقراء والمساكين ..

على أي حال .. سافرت إلى حلب ، وركبت الطيارة لأول مرة في حياتي ، وما خفت ، وما ضعت .. أنا أم صلاح ، ومع الله .. دائماً أنا مع الله ، ومن كان مع الله ، كان الله معه .. هذا ما كان والدي يقوله لنا ، وأنا سمعت كلامه ، واجتهدت أن أكون مع الله ، ليكون الله معي ، وهو ، سبحانه ، معي ، وإلا .. كيف ركبت الطيارة ؟ الحمد لله .

الحمد لله ركبت الطيارة ، وإن شاء الله ، بعد كم ساعة أكون في اليمن عند ولدي صلاح ، ويكون أخوه أبو مهدي معنا ، وأفرح بهم وبأولادهم ..

انتبهت أم صلاح إلى المرأة التي تجلس بجانبها في الطائرة ، وقالت في نفسها :

" ما لها هالمسكينة لا تتكلم ؟ هل هي مثلي غريبة ، ولها ولد دكتور في اليمن ؟ يجب أن أتسلى معها " :

ـ إلى أين يا أختي ؟

ـ إلى صنعاء .. عندي ولد هناك ، اتهموه أنه من الإخوان ، فهرب منهم ، وهو في صنعاء .

سألتها أم صلاح :

ـ هل ستمر الطيارة بصنعاء ؟

ـ طبعاً .. وأنت ماذا تفعلين بصنعاء ؟

ـ لا أنا مسافرة إلى اليمن .

ضحكت جارتها وسألتها :

ـ اليمن كبيرة يا أختي ، فإلى أي مدينة أنت مسافرة ؟

ـ قلت لك : إلى اليمن .. يعني اليمن أكبر من حلب ؟

ضحكت الجارة وقالت :

ـ اليمن فيها مدن كثيرة ، منها العاصمة صنعاء ، صنعاء مثل الشام عندنا في سورية .. هي العاصمة .. فهل ابنك في صنعاء ؟

أجابت أم صلاح في حيرة :

ـ والله أنا مسافرة إلى اليمن وبس .. قالوا لي : يا أمي اركبي الطيارة وتعالي إلى اليمن .

وسرحتْ أم صلاح بخيالها :

" كلّها ساعة ونكون في اليمن .. حتماً صلاح وأخوه مهدي في انتظاري على باب الطيارة ، وإذا تأخروا أنتظرهم حتى يأتوا .. "

***

وشاءت الأقدار أن تدفع ولدها صلاح الدين أن يفكر في السفر إلى اليمن .. ولكن .. أنّى له هذا ، وهو في العراق .. في الموصل ، وهناك إجراءات تسبق السفر ، والعيد على الأبواب ، ولكنّ رغبته الجامحة في السفر إلى اليمن ، ليكون إلى جانب أخيه أبي مهدي في العيد ، جعلته يبذل جهوداً كبيرة لا يدري كيف تأتّتْ له .. كان القدر يدفعه دفعاً .. قالت له زوجته أم منصور :

ـ على مهلك يا أبا منصور .. قتلت حالك وأنت تركض وراء معاملة السفر .

قال صلاح :

ـ والله يا أم منصور لا أدري إلى ماذا تسوقني أقداري ؟ كلما فكرت بالعدول عن السفر ، وجدتني متحمساً أكثر لأعيّد في اليمن ، مع أخي وأولاده .

ورنّ الهاتف ، وكان المتحدث الأستاذ أبو داوود الذي يقوم على خدمة السوريين ، في تأمين الإذن بالسفر .. وبشّره بإنجاز المعاملة ، ويجب عليه الحضور فوراً إلى بغداد ، فالطائرة سوف تقلع بعد ست ساعات .

وسرح صلاح وهو يجلس بجانب زوجته في الطائرة المتوجهة إلى صنعاء :

" يا إلهي ألف حمد وألف شكر لك ، فقد يسّرت لي سفري بقدرتك ، وليس بحولي وقوتي ، ولست أدري الأسباب التي تدفعني دفعاً إلى اليمن .. عندي أشغالي ومتاعبي الكثيرة في العراق ، تركتها ، نسيتها .. وشُغلتُ بالسفر إلى اليمن .. قلت لنفسي : يا صلاح اعقل ، لو فرضنا أن أبا داوود تمكن من تأمين تأشيرة الخروج من العراق ، فمن أين تأتي بثمن البطاقات لك ولزوجتك ولطفلك الصغير .. ولكنّ القدر غلّاب ، فها أنا الآن بقدرة قادر ، أنا وزوجتي وطفلي في الطائرة إلى صنعاء ، وأخي أبو مهدي لا يعلم بسفرنا ، لم أتمكن من مهاتفته .. يا الله .. أكلمه من المطار ، وننتظره حتى يجيء ويأخذنا .. هذه أول مرة أسافر فيها إلى اليمن ، والغريب أعمى ولو كان بصيراً ..!!

انتبه صلاح إلى زوجته التي تكلمه :

ـ أين أنت سارح يا صلاح ؟ ابننا منصور محتاج للحمام .. تأخذه أنت أم آخذه أنا ؟

ـ خذيه أنت .

نهضت أم منصور وسحبت طفلها إلى الحمام ، ووقعت عيناها على امرأة تلبس لباس الفلاحات في ريف حلب ، وبعد عودتها من الحمام ، وقفت أمام تلك المرأة الفلاحة ، وتبادلت معها أطراف الحديث ، وقام في حدسها أن هذه المرأة هي حماتها ، فأسرعت إلى زوجها :

ـ صلاح .. صلاح .. هناك امرأة أظنّها أمّك .

هبّ صلاح واقفاً وسأل زوجته :

ـ كيف عرفت أنها أمي ، وأنت لا تعرفين أمي ؟

ـ لا أدري .. اذهب إليها هناك ..

أسرع صلاح إلى حيث أشارت زوجته ، وإذا هي أمّه .. أم صلاح .. انكبّ على يديها وعلى رأسها ، وعلى خدّيها ، ، وأشبعها قبلات ، وغسلها بدموعه الحرّى ، وأمّه التي لم تر وجهه تصيح وهي تشمّه وتقبله :

ـ ابني صلاح .. ابني صلاح ..