عادت إلى الحياة

عادت إلى الحياة في هجير الصيف . لم تعدها إليها بقية أمطار الشتاء . بزغت ضمة أماليد على ما تبقى من أصل الساق . ابتهج قلبي لعودتها ، وقعدت قربها أحدق في خضرتها الغضة الموشاة  بلون ذهبي خفيف . تألمت لما نكبها في وسط فبراير السالف . سمعت حينئذ صوت تكسر واحتكاك أغصان بالأرض يختلطان بهدير المحراث الآلي . انبثقت خارجا من البيت ، ورأيت المحراث يبتعد عنها مرمية على الأرض .

صرخت في الحراث : ماذا فعلت يا مجنون ؟!

توقف هدير المحراث ، وقال سائقه النحيل : سامحني ! زللت فيها .

_ أعمي ؟! لم لم تتراجع حين اشتبكت بها أسنان المحراث ؟!

_ هذا ما حدث . مزاجي اليوم سيء . طالبني الذي اشتريته منه ببقية ثمنه .

وتابع حرث بقية البستان الجامع لأشجار متنوعة . قصدت الشجيرة المقلوعة . وقفت مفجوعا شبه عاجز عن التنفس من عنف حرقة الغضب على الحراث الأخرق ، وسددت إليه نظرة غضب واستياء . سحبت الشجيرة من ساقها . أضحت جثة .نبشت  منبتها الذي غُطي بتراب الحرث ، فلم أجد بقية لساقها . لا أمل في انبعاثها ثانية . انقضت علي ذكرى الثالث عشر من يوليو 2004 . في ذلك اليوم البعيد ، يوم الثلاثاء، عند الضحى . أغارت  جرافة إسرائيلية متوحشة على البستان في حراسة مجنزرة . تعالى صوت تهرس الأغصان تحت ثقلها ، وبعد ثلث ساعة استحال أكواما وأخاديد من التراب والأغصان والسيقان والجذور المهشمة . وفي أول الشتاء فاجأتنا بعض الأشجار بالظهور . بقي جزء من أصل سيقانها  مهد لعودتها إلى الحياة . ماذا سيحدث لهذه الشجيرة التي لم أجد لساقها بقية ؟ جر الحراث برعونته نفسه للتشابه مع الجرافة الإسرائيلية . وسدت إليه نظرة غضب . ذكرني بما فعلته الجرافة الإسرائيلية الحاقدة . ما من عدو في العالم يقتلع الشجر إلا الإسرائيليون . تشابه الحراث البائس معهم  دون نية . هل أحرمه الأجر ؟ بدأت الشجيرة الراحلة الإثمار في 2014. وفي العدوان الإسرائيلي على غزة ذلك العام ، حفظتها من غاشية الموت عطشا بعد أن تركنا البيت ، ولذنا بمدرسة لوكالة الغوث . ذبلت أوراقها واسودت ثمارها الصغيرة عطشا وحرا . هكذا وجدتها حين تسللت عائدا إلى البيت أول مرة بعد تركه . سقيتها ثلاثة جرادل من الماء القليل في خزان البيت القائم على سطحه . وهذا ما فعلته في كل تسلل مكتفيا بجردل واحد بعد الجرادل الثلاثة الأولى لتوقف تزويد البيت بالماء في الحرب .وعاد إلى ورقها قليل من الاخضرار وروح الحياة ، أما الثمار فتساقطت ذابلة مسودة سوى حبات متفرقة تائهة في غصونها . لو عرف الحراث عمق حبي لها وحرارة أساي عليها ! تأسف حين نقدته أجره ، ولم يجادل في زيادته على عادة بعض أصحاب المهن حين يؤدون عملا لم يتفق سلفا على أجره . ها هي الآن تعود إلى الحياة بعد أن خلتها ماتت للأبد . الأشجار كائنات حية . الله _ سبحانه واهب الحياة _ يقول لنا هذا . ألا تسبحه ؟ وأنا أحب الأشجار . أحب الحياة في كل صورها . في الإنسان والحيوان والطير . يا لهم من قساة غلاظ الأكباد الذين يقتلون الحياة في واحدة من تلك الصور ، وأولها الإنسان ! قتلة الحياة موتى ، جثث ، وإن قتلوا غيرهم . أحب الحياة ، وكم أنا فرح القلب بعودة الحياة نضرة متوهجة لشجيرة الجوافة الحبيبة التي خلتها ماتت للأبد في وسط فبراير الغابر لرعونة وطيش ذلك الحراث . سويت التربة حول الأماليد بالفأس . أماليدها النابتة على ما تبقى من أصل الساق الغائر في التربة ؛ بيضاء سهلة الانفصال منه . هيأت حولها حوضا دائريا ، ومددت إليها خرطوم المياه وسقيتها لتبدأ مسيرتها في تيار الحياة الزاخر بالحب والجمال من جديد بعد أن أنقذتها قدرة الله ورحمته من أنياب ظلمة الموت . زففت البشرى لزوجتي ، فاستضاء وجهها ، وسارعت لرؤيتها .

قالت : سبحان الله ! يحيي العظام وهي رميم . 

وسوم: العدد 624