بطالة
أكذب عيني ؟! حقيقي ما أراه ؟! الأستاذ جودة ، أبو خليل ، يكنس الشارع ؟! قبل العمل كناسا في دورة بطالة من الوكالة أم من الحكومة ؟! أقترب منه . حجبه عني بعض المارة . عاد للظهور بعد أن تفرقوا . يوليني ظهره . أنيق الملابس . أستاذ . مدرس . قريب من الحاجز الحديدي المصنوع من أنابيب مصبوغة بالأسود والأبيض . يفصل الحاجز طريق السيارات عن ممر المشاة الذي تمتد المحلات التجارية على طوله . أقترب منه . مكنسته دائبة الحركة . سبحان الله ! كيف وضعت المكنسة في يده بدل القلم وإصبع الطباشير ؟! قذفته البطالة والفقر إلى عمل لا يليق به .
حييته : السلام على الأستاذ !
التفت على صوتي ، وأسند المكنسة على الحجز ، وحضنني .
قلت : كيف الحال ؟
_ ما تراه .
_ تكنس ؟!
_ ستعرف القصة .
وقطع كلامه ، ونادى بائع قهوة متجولا في ملابس شامية . سروال أسود وصديري موشى وطربوش أحمر . صب البائع فنجانين نحاسيين . وتحركت يدي نحو جيب قميصي ، فوضع جودة يده على يدي قائلا : وبعدُ معك !
مضى البائع ينادي : قهوة ! قهوة !
مصلصلا بفناجينه . سيرجع ويأخذ الفنجانين .
قلت : ما هذه الشغلة ؟!
_ مكره أخاك .
_ وكالة أم حكومة ؟
_ وكالة . راتبها أحسن .
_ كذبت عيني لما رأيتك .
ابتسم متوترا وقال : طلعت البطالة لوالدي . كبير ومريض. دبرنا الموضوع ، وأخذتها أنا .
_ ليست من قيمة الأستاذ جودة . أبو خليل .
_ الحاجة تجبرنا على ما لا يليق بنا . كيف حالك ؟
_ ماشية بستر الله .
واسترجعنا عملنا في ليبيا ، وتأسفنا على ما انحطت إليه من تفكك ودم وخراب . وقدم عامل مكنسته في يده ، سلم على ، وهمس في سمع جودة ، فقال : ولا يهمك !
سألت : ماذا ؟
قال : مراقب العمل جاء .
ورأيت شابا ضخما ينظر نحونا واقفا مع عاملين .
فقلت : بعد الاستئذان !
ومددت يدي لأودعه ، فقال : لم نتحدث .
_ سأزورك قريبا . زرني يا أخي ! لم تزرني من سنة .
_ ألم تعثر على عمل ؟
ونظر إلى المراقب الذي كان ينظر إلينا بين دقيقة وأخرى ، ويحادث الكناسين القريبين منه .
قلت : ذاهب إلى مجلة " المرأة " . طلبوا مدققا لغويا .
هتف : " المرأة ! تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . عملت فيها وتركتها .
_ لماذا ؟
كنت أحس بالحراج من موالاة الحديث معه .
قال : عمل مضنٍ ، وراتب صغير ، وجو لا يلائم أمثالنا .
_ ما البديل ؟
_ نصيحتي ، لا تذهب ! أو . . . أنت حر . وإن كنت لا أريد لك تكرار تجربتي . لا لغة في كتابات العاملات فيها . تصحح في العدد الواحد ما لا تصححه في سنة في أضعف صف . والجو لا يلائمنا . نساء وبنات .
لم يكن الموقف يسمح بإطالة حديثنا ، فتركته حزينا لما انتهى إليه .
***
مقر المجلة في الدور الثاني من برج اسمه برج النجوم . استقبلتني شابة في العشرينات . أخبرتها سبب قدومي ، فدخلت غرفة ، وعادت مع امرأة في وسط العمر ، قصيرة شيئا ، واضحة البدانة .
جلسنا في بهو المقر . قالت المرأة : تفضل !
فأخبرتها أنني قرأت الإعلان الخاص بطلب المجلة مدققا لغويا ، وأنني يمكن أن أقوم بالعمل .
قالت : صحيح ، وإن كنا ، أصارحك ، نفضل تعيين مدققة .
وابتسمت ، وتابعت : لا تؤاخذني ! البنات تجد راحة في العمل مع بعضهن .
ورفعت صوتها مسترسلة : مثلما ترتاحون للعمل مع بعضكم ، في كلامي غلط ؟!
_ كلامك صحيح .
واستنسبت فتح سيرة جودة ، فسبقتني قائلة : اشتغل عندنا واحد اسمه أبو خليل . قطع الله خبره ! ربنا ريحنا منه .
تفاجأت من قسوة ذمها له ، واردت الدفاع عنه ، لكنها تابعت في انفعال مفاجىء : عقد البنات . أين همزة القطع ؟ الهمزة في هذه الكلمة وصل لا قطع . أسلوبك يا نهى سخيف ، وأسلوبك يا أنغام أعوج .
قلت : أنت رئيسة التحرير ؟
_ نعم .
وابتسمت . وأحضرت الشابة التي استقبلتني القهوة ، فقالت رئيسة التحرير : حتى مزاحه جاف لا يراعي الشعور .
مرة قال للآذنة بعد أن قدمت له القهوة : قهوتك تدخل من يشربها غرفة العناية المركزة . كيف زوجك صابر عليك ؟!
بكت من كلامه . لم يمضِ على زواجها إلا شهور ، ويقول لها مثل هذا الكلام ! لم نستغنِ عنه على شره . مشى بمزاجه . ربنا ريحنا منه . لا أعرف كيف تعيش معه زوجته ؟!
هالني ما قالته عنه . من أين جاءت بهذه "النسخة" الغريبة البغيضة لجودة ؟! صحيح هو لاذع اللسان ، لكنه ليس بذيئا ، وهو عاتي الحرص على صحة اللغة مثلما عرفته أيام المدرسة التي عملنا فيها معا . كيف سأسلم من أن تصنع لي نسخة مشابهة للنسخة التي صنعت له في المجلة ؟! وفكرت بأنني قد أكون أبرع منه في التعامل معهن ، فأفلت من هجاء رئيسة التحرير الذي لابد أن كل العاملات في المجلة يشاركنها فيه ، وربما عند بعضهن ما هو أعنف منه . مسكين أبو خليل . صنعن منه شيطانا . واجتهدت في طمأنة نفسي بأن هذه هي طبيعة النساء إجمالا . إذا رضين عنك صنعن منك ملاكا رحيما، وإن سخطن عليك صنعن منك شيطانا رجيما ، وفي الحالتين لا تبدو الأسباب واضحة مقنعة . أنت وحظك معهن .
قلت : تسمحين لي بالاطلاع على أي موضوع من موضوعات العدد الجاري إعداده ؟ من يدققه الآن ؟
قالت : واحدة من البنات العاملات في المجلة . خريجة إعلام ولغة عربية . نريد تخصص لغة عربية .
ونادت : هاتي يا زينات تحقيقك للأستاذ ! يا رب يعجبك !
التحقيق عن " نساء فقدن أكثر من شهيد في حروب إسرائيل على غزة " . كان أسلوبه حَسنا حُسنا ظاهرا أثار اهتمامي ، وأخطاؤه النحوية والإملائية قليلة يسهل التسامح معها ، والتخلص منها بجهد يسير من كاتبته زينات التي تجلت حقا " زينات " لا زينة واحدة . وفي التحقيق حس قصصي يطلع القارىء على الجو البيئي والنفسي الذي كتب فيه .
قلت باقتناع : حقيقة تقرير جيد من نواحٍ كثيرة . لغته قليلة العيوب .
فاتسعت ابتسامة رئيسة التحرير ، وأشرق وجه زينات ، وتفتح ثغرها عن ابتسامة يتهاوى أمامها كل قلب .
قالت الرئيسة : ولا مرة سمعنا من جودة كلمة " جيد " . ارتحنا من لسانه .
وناولت التحقيق المسحوب على الطابعة لزينات قائلة : أعطيه لنعمة تدققه !
نهضت للانصراف ، فقالت : أعطنا رقم جوالك !
وأمليته عليها ، فكتبته على جوالها . ومع شعوري بأنني تركت لدى رئيسة التحرير وزينات أثرا مريحا ، وأتوقع أن يشاع بين بقية العاملات في المجلة ، إلا أن حماسي للعمل تراجع . من يضمن ألا ينقلب الأثر المريح انزعاجا ونفورا ؟ العمل المشترك بطبيعته يخلق خلافات ويكشف ما في طباع الناس وسلوكهم من اختلافات تدفع للتنافر ، وأحيانا للتباغض . فوق أن عمل الرجل مع النساء يخلق حساسيات وزلات مفاجئة لأسباب تبدو واهية إذا قيست بما يحدث في عالم الرجال أو عالم النساء الخالص . وقد لا تكون الحال دائما مثلما قال جميل بثينة : " لكل حديث بينهن بشاشة ... " . وتنامى فتور حماسي للعمل في المجلة مع متابعتي السير نحو موقف السيارات . وعلى مدى عشرات الأمتار رأيت كناسين في المكان الذي قابلت فيه جودة . ودققت النظر ، فلم أره . اقتربت منهما ، فنزع أحدهما ، الذي أخبر جودة بحضور المراقب ، سيجارته التي استهلك نصفها ، من فمه ، وقال : صاحبك عمل مشكلة .
وتدخل الآخر قائلا : كسر المكنسة على كتف المراقب . صاحبك رأسه ناشف .
وقاطعه الآخر : الرزق يحب المسايرة لا المعاندة .
سألت منزعجا : أين هو الآن ؟
فأجاب الاثنان معا : أخذتهما الشرطة .
ورن هاتفي . قالت رئيسة التحرير : سامحنا يا أستاذ ! جاءتنا واحدة وعيناها . رزق الله أكثر من عباده .
وعصر نفس اليوم علمت أن جودة فصل من العمل .
وسوم: العدد 624