هو حبيبها دائماً
دخلت إلى صالون حلاقة للسيدات .. في هذا الحر الشديد .. ارتميت على كرسي مريح في الصالون وأنا أدعو الله أن يجيرنا من نار الدنيا والآخرة .. ونظرت بمرح نحو فتاة الصالون وإذا وجهها أحمر ومليء بالماء لم أميز أهي دموع أم قطرات من العرق من شدة الحر .. خاصة أنها تشتغل بالسيشوار وربما لفحها شيء من حره .. سألتها :
ـ كيف حالك ؟ كأنك عاملة جديدة هنا ؟ أين نادية ؟
مسحت القطرات عن وجهها واصطنعت ابتسامة وقالت :
ـ في الحمام تغسل وجهها والآن تأتي ..
ولم تمض ثوان قليلة حتى أطلت نادية مبتسمة .. رحبت بي وبدأت تستفسر عن طلباتي ودار الحديث العملي بيننا حتى اتفقنا على الصبغة والقص واللون والتفاصيل وأجلستني على الكرسي الدوار وبدأت تعمل في شعري ..
سألتها : ما قصة هذه البنت الجديدة ؟
قالت نادية بأسف :
ـ لقد أخبرتني بقصتها أكثر من عشر مرات وتحكيها لكل زبونة ، وكلما ترويها تبكي وتبكي من ترويها لها ..
ـ وما هذه القصة المؤثرة ؟
أجابت :
ـ هي قصة تلمس مشاعرنا نحن النسوة المحرومات من حب الرجل الحقيقي والإخلاص في هذا الزمن الصعب ..
ولما انتهت من عملها ، وطلبت مني أن أجلس على كرسي السيشوار ، قلت في نفسي : والله لأسألنها عن قصتها وإن بكت وأبكتني ..
نظرت إليها بابتسامة وعيوني تتحدث وتسأل قبل لساني .. قلت لها:
ـ الله يعطيك العافية .. تعبانة بالعمل وتشعرين بحر شديد أليس كذلك ..؟
ابتسمت وقالت :
ـ أكيد ..
قلت لها :
ـ ولكن ما هذه الدمعات الحلوات على خديك ؟ أنت في أحلى سنوات العمر صغيرة وجميلة فلم الدموع يا قلبي ؟
ابتسمت وقالت :
ـ والله يا أختي ما عاد للحياة طعم بعد راضي .. لقد ذهب وأخذ معه الضحكات والبسمات وراحة البال ..
ـ ولكن الحياة أوسع من راضي ولا تتوقف لا على راضي ولا على غضبان ..
أهو خطيبك أم زوجك أم أخوك أم ماذا ؟؟؟
قالت :
ـ هو الأخ والصديق والحبيب والأب والزوج والولد وكل الدنيا ..
قلت لها :
ـ إذن .. احكي لي القصة من أولها ..
وقد قفز قلبي فرحاً لأن فضولي بدأ يشم له طريقاً ..
قالت :
ـ قصتي قصيرة جداً .. تخيلي يا أختي .. عشت مع راضي الراضي الله يرضى عليه ويرضيه ويرحمه سبع عشرة سنة مليئة حباً وحناناً .. أحلف بالله العظيم ما كان يؤذيني بكلمة أو نظرة أو حتى عتاب .. كنت أهمل القيام ببعض الواجبات فما أجد منه سوى نفس طيبة متسامحة تنظر بحب فأخجل من نفسي كيف أهمل ملاكاً وهبه المولى لي دون الناس ؟ كنت أرتمي بين ذراعيه أبكي على نفسي لأني لا أعرف كيف أسعده ! لا أدري ماذا أفعل لأراه مبتسماً سعيداً كالسعادة التي يمنحها لي في كل نبضة من قلبي .. تصوري لقد علمني على الصلاة فالتزمت بها وكنت إذا وجدته حزيناً لسبب ما لا أجد سوى سجادة الصلاة أصلي صلاة النافلة فأراه يبتسم سعادة بهدايتي على يده فينسى الهم ويقوم يصلي معي .. لقد علمني الالتزام بالحجاب .. لقد رأيت معه الدنيا حتى الطبيب لما قال لنا :
ـ الحمل مستحيل ..
عدت معه إلى البيت ورأيته يبكي بحرقة ويقول :
ـ لابد من الطلاق لترزقي بسند لك في الدنيا ..
قلت له وأنا أرقص كالطفلة :
ـ أنت زوجي وابني وابنتي وأهلي ومالي ودنياي وآخرتي ..
بعد كل هذه السنوات كنا نتمشى في الشارع علنا نحصل على ربطة خبز في هذه الظروف الصعبة .. لم أشعر إلا بصوت طلق ناري قوي وفجأة نظرت إليه بقربي فوجدته ملقى على الأرض يتخبط بدمائه الزكية فقد أصابه القناص في رأسه الحبيب .. أمسكته بين ذراعيّ ، صرخت وصرخت وصرخت ، بكيت وضربت رأسي وكأنني أصبت بغيبوبة فما صحوت إلا بعد الحادث بأيام ، وجن جنوني ، فقد أخذوه وألقوا عليه التراب دون أن أراه كنت أريد أن أخبره فقط أنه جنتي وحياتي .. وبعد سنوات من الحزن جاءني في الحلم يطبع قبلته الحبيبة على جبيني ويقول لي : تزوجي يا حبيبتي ..
وفعلاً تقدم لخطبتي شاب من بلدي تزوجته طاعة لربي ثم لحبيبي وقبل أيام جاءني في المنام لابس البياض الناصع اقترب مني وطبع على جبيني تلك القبلة الحبيبة وقال لي :
ـ مبارك الحمل يا حبيبتي ..
ولما فحصت وجدتني حاملاً .. هو حبيبي ومعي في كل حياتي ..
مسحت دموعاً حرى وقمت من الكرسي دون أن أنتبه على أي تفاصيل تخص شعري ..
قلت في نفسي : هو حبيبها فعلاً دائماً في الدنيا ولعلهما يجتمعان في الآخرة في الجنان ..
وسوم: العدد 626