ملحمة الغياب ..

أيها التائهون قفوا على حافة الطريق .. أيها المُعَذبون من أشعل الحريق ؟

من قيّد يدي الغريق ؟

من رمى بكم إلى الضيق ؟

من بين الحشد المهيب ، أشار إليه بصوت جهورى .. أنتَ .. تعال إلىّ ! كست الدهشة ملامح الشاب ، مسح المكان بعينيه ثم أعاد النظر إليه موجها كلماته برهبة : أنا ؟ هل تقصدنى أنا ؟! ابتسم له ليبدد الهلع الذى احتله فجأة وقال : أجل يا ولدي .. تعال .. أليس أنت الجريح ؟ أليس أنت من زارنى فى المنام مثل الذبيح .. لم أفهم منك شيئا إلا أنك كنت تصيح .. وتنادي علىّ ..

سرت همهمة بين الحشد ، على إثرها  صرخ أحدهم : مالك لا تسمعنا رغم النداء المتكرر ؟! نظر إليهم بهدوء مشوب بومضات الرحيل : من منكم يعانى مثل هذا وأشار للشاب .. لف الصمت المكان .. اقترب الشاب منه .. فقال له  بحزم : انظر  إليهم .. أخبرهم .. قُل لهم .. تلاشت المسافة بين الواقع والخيال .. عانق الماضي الحاضر .. صدي التيه يجعله  يموج بالتحوّلات التى عاشاها فى سنى عُمُره .. تلك الأيام الغارقة فى الألم .. هذى الذكريات المنبعثة من العدم .. محور الرحى الذى يدور حوله حجر الغياب ، فيعصف بقلبه  ..

تهيأ للحديث .. حدق فى الوجوه ، ثم قال : هل تصدقون إن قلت لكم ما حدث ؟!

هتف أحد الحضور : قُل نسمع .. ثم أردف بصوت خفيض : لماذا أنت الذى وقع عليك الاختيار ؟

تابع الشاب وقد انبثق الغم من وجهه وقال بصوت مستسلم : كلهم رحلوا ! أجل .. كلهم رحلوا .. حتى هى ! تفرقت روحى بينهم .. كل واحد منهم ذهب بجزء من روحى .. أما هى .. تحشرج صوته وبدت آلام الفقد تعرقله وتمنعه من الكلام ، أمسك صاحب الظل  بيد الشاب  الباردة المرتعشة وأحكم قبضته عليها وقال له بأسي : هل اخترتُك لتقتلنى ؟! عشت ما تعيشه أنت الآن منذ خمسين سنة ..

استجمع الشاب قواه وصرخ  فى الحشد : أنا أعيش بلا روح ! كان لكلماته وقع الذهول .. ساد صمت القبور ، يقطعه بين الفينة والأخري حفيف الأشجار الذى يبعث لحنا حزينا يتماهى مع قسوة المشهد  ، فجعل الجميع يسبح فى بحار الماضي والآلام ..

تنهد صاحب الظل وكأنه قد خرج لتوّه من تحت أنقاض كتمت أنفاسه .. وابتعد قليلا عن الشاب وقال بنبرة صادقة : بالحقيقة عرفت الطريقة ! والذهاب لا يعنى فى كل الأحوال الغياب ! سنوات طويلة مرت وأنا أكافح من أجل استعادة  الروح .. وفى الاستعادة السعادة ! ثم نظر للشاب بشفقة، وأعاد النظر للحشد وصرخ فيهم : هل علمتم لماذا اخترته ؟  ثم أردف بغضب : فى شيخوختى  عرفت طريقتي .. لكن .. منذ سنوات بعيدة  كانت نهايتي ! وتابع بصوت حزين : بي شوق وتوق .. شوقٌ إليها .. وتوقٌ إليّ .. أتوق إلى نفسي التى لم تعد نفسي !  أيامنا .. حياتنا .. أحلامنا .. ساعاتنا .. اقترب من الشاب وأشار إليه موجها حديثه للحشد بصوت مرتفع : أنا مثله .. أعيش بلا روح .. أنا مثله .. أعيش بلا روح ! 

ضج المكان بالنحيب والبكاء والكلام .. ثمة سحابة من الغموض جعلت الجميع يتألم .. تعددت الرؤي والمشاهد والحكايات ، وقع أحدهم علي الأرض .. كانوا يعلمون أنه مصاب بنوبات الغياب والحنين الممض .. كان يتكلم وهو هناك .. حيث المغيب : رأيتها أول مرة .. قالت لى : لا أعلم لماذا اخترتك .. لكن ما أعلمه أنك ما كنت أبحث عنه .. رحلت فرحلتُ معها  !

آخر كان يقول : لن أبرح الأرض حتى تعود إلىّ روحى ! ثالث كان يتحدث بما يُشبه الهذيان : إنها تتراءى لى الآن !

قطع صاحب الظل الضجيج .. اسمعوا .. انتبه الجميع .. فقال لهم بنبرة ممتلئة بالشجن : إن الحُب ليس كلمات .. هو طريقة .. هو حقيقة .. هو الفناء .. هو البناء .. تتماهى العيون لتصبح عينا واحدة .. تتماهى القلوب فيكون الاحساس واحدا .. تتماهى الأرواح فتكون روحا واحدة .. يتماهى التيه فيتيه الجميع عند الذهاب .. ويكون الحضور فى ذروة الغياب  ..

أخذوا يتهامسون فيما بينهم .. بينما كان الشاب يقف فى حالة من النشوة الهادئة المفاجئة ، شاعت ابتسامة في ملامحه ، صاح أحدهم : أنت الذى اختارك من يننا .. علام تبتسم ؟!  أرسل بصره إلى السماء .. وقال لهم : أرى ما لا ترون  !

( تمت )

وسوم: 637