قيثارة الروح

خديجة وليد قاسم (إكليل الغار)

تنساب بثوبها الشفاف و ورقتها التي يندر أن تضاهى، مطلقة ترانيم همساتها وهي تقبّل أرضا عاشقة تستقبلها بلهفة وحنو.. أفتح نافذة عيوني على اتساعها، أطلق لأذنيّ عنان استقبال صدى ترانيمها.. لا أكتفي، ولا أرتوي..

تنفلت أصابعي عن كوب استرخاء كانت منذ هنيهة ترتشف لذّته بهدوء وانسجام.. أفكّ أزرار دفء يتلبّسني ويغريني بالبقاء.. ألقيه بعيدا..وأنطلق كشارد يضرب في منافي الأرض  أطارد هواء باردا لا يلبث أن يقبل نحوي يؤرجحني على أجنحته ليقذفني إلى حَوْمته..

شارع هجرته خطوات العابرين.. هواء بارد عليل تنتشي لمداعبته دفقات الوتين.. قطرات رهيفة ..خواطر رقيقة.. مشاعر دافئة تسترخي على شرفة قلب تداعبها ستائر أحلام عنيدة لا تجيد الصمت..ولا تأبه لتأوّهات الكدر والكبت..

أمشي الهوينى، أفتح مصراعي فؤادي لتنقية الروح من شوائب الفكر ووخزات الكدر.. ترتسم بسمتي وتزداد اتساعا، أتركها على سجيّتها، أمنحها أمانا قلّ أن تحظى به في الأماكن العامّة، وندَر أن تبقى على حالتها في حمأة الأحداث الغامّة.

ينساب شلال خواطري بديعا رقيقا لا أتقن رسمه حين ألوذ بحِمى دفتري وأستجير بدفء قلمي .. أتمنى لحظتها لو أنني أحضرت جهاز التسجيل رافعة صوت خواطري قليلا كي أحتفظ بجمالها، تلك الخواطرالمتفلتة العجيبة تلك التي  لا تُنجب إلا مرة واحدة، في لحظة واحدة،في دفقة شعورية واحدة، مهما حاولت استحضارها بعد ذلك ..أبوء بالفشل..

أستمر في سيري..تنعشني قطرة، تداعبني غيمة، يشدني سرب طيور يحلق بعيدا إلى غاية لا أدركها ولا أعلم منتهاها..

تجذب بصري أشجار الليمون والبرتقال المحملة بثمار هي إلى الدر والجواهر أقرب، وفي مكنونها أطيب ..

أتوه قليلا عن المكان الذي يمّمت شطري ، أهز كتفي بقلة اكتراث ،أبحث عن مخرج بغير لهفة،فلا يهمني أن تطول الطريق، وليس يخطف قلبي عن رحلتي ألف ومض أو بريق ..

ما بين صعود تتصعّد فيه روحي إلى علياء الجمال، ونزول أخشى به أن تزلّ قدمي مع مياه تنساب برقة ودلال، أكملت مسيري، تارة بثقة تزينها بسمة ظفَر وأخرى بكثير من حذر.

أزهار على جانبي الطريق تثرثر مع قطرات المطر الساكنة على بتلاتها، تسرّ إليها ببعض كلام،تتشاركان  مداد الوئام، أخرى تتعطش إلى المزيد فتناجي مستعطفة رهيف الغمام..

قطط شاردة تبحث عن مأوى وبعض غذاء.. طيور تتغنّى بلذيذ حداء..

لوحات تختال أمام عينيّ..ترتسم لجمالها بعض حروف دهشة وكلمات إعجاب على شفتيّ.

يوقفني بعض تساؤل هنيهة من الزمن،ترتسم علامة تعجب على دقيق فنن؛ ما الذي اختلف؟ لماذا فيض مشاعرطرق قلبي ودلف!

 نفس الأماكن، نفس الدروب، نفس الشوارع، نفس الأشجار والزهور...فأي شيء أجّج روحي؟ وأي نور أضاء خافقي وصروحي ؟!

أطرق بفكري قليلا، لأجد الردّ مرتسما على شفيف الوجدان، يتراءى لي طيفا لطيفا كحوريةٍ من جنان، هي لمسة التغيير على بساطتها ورقتها ورهافتها،هي عصا السحر القادرة على قلب حياتنا وأفكارنا، ومشاعرنا..

ليست بماديتها، التي تسعدنا برهة ثم نعود القهقرى إلى كهوف الوجع، إنما بروحانيتها، بهمساتها، بنفحاتها الربانية، تأخذنا معها طويلا إلى حدائق الفرح ومغاني الهناء، تجلو النفس وهي تصغي لقيثارة الروح تعزف مقطوعة النشوة والسرور.

تلوح لي دروب العودة باسمة أنيقة،  أتوهم أجنحة الحبور تلتصق بي، أكاد أرفرف بها لألحق سرب الطيور، أجدني  أحلق حقيقة لكن دون ريش، دون جناح، دون همهمات الآه والنواح.

أتوقف أخيرا أمام بوابة الرجوع التي ترمقني بعين حذرة متسائلة، أضع بين يديها هدايا روحي وقلبي التي ظفرت بها،  في رحلتي ،أهبها لحن ناي أصرّ على صحبتي..

أحدّق بسكينة في قوافل السرور المستلقية على أعتاب روحي .. بيد أمسح دمعتي، وبالأخرى أتلمس دفء بسمتي ...!

وسوم: العدد649