الغرس الطيِّـب
صحت أم حمدان على إحساس شديد بحرارة في جسدها لاتكاد تحتملها .
كان الجو حارا في بلدها الخليجي ، وكانت عظامها التي بدأت تتهشم لاتكاد تحتمل هواء المكيفات البارد ، وكان الضيق الذي تشعر به من جراء حالتها النفسية المتأزمة يحيجها إلى هواء عليل ينعش جسدها .
كانت تعمل ليل نهار لتوفر لأولادها حاجياتهم بعدما أسلم زوجها روحه لبارئه ... وكانت تستطيع أن تدخر شيئا لأيام الدهر لكنها في هذا العام لم تستطع أن توفر شيئا، فقد أقنعها ابنها بضرورة شراء سيارة ليبحث بها عن عمل ، ولما حققت له أمنيته غدا يتأخر إلى منتصف الليل بل تجاوز ذلك إلى مابعده بكثير .
وكانت تقنع نفسها بأن ولدها لم يحِد عن الطريق السوي ، فهو حينما يعود إلى الدار يصلي ركعتين،ثم يجلس معها ليتبادلا الحديث فتطمئن إلى فكره ومسيرته في حياته، وقد تبرر له تأخره بأنه شاب لايطيق العيش منفردا، وأمه في شغل بأعمال البيت ومتطلبات الوظيفة .
وسألته مرة بعدما تأخر طويلا وقلقت عليه كثيرا ، ورأته لما عاد يتسلل خفية لئلا تستيقظ، ظنا منه أنها قد غفت : -أين كنت ؟ ولمَ تأخرت ؟
-كنت مع صديقي ؟
-ومن هذا الصديق الذي شغلك عن أمك إلى هذا الوقت المتأخر ؟
-صيني
-صيني ؟ !!...
- نعم صيني
-أتعاشر ناسا من الصين ؟!!...كيف تعرفت عليه ؟
-ألا تعرفين أنني أتقن الإنكليزية ؟
-إيه
-وهذا الصيني يعرف الإنكليزية ؟
-إيه
-ما بك يا أم ؟
-لم أكن أتصور أن تعاشر إنسانا يختلف عنا عقيدة ولغة وعادات وأخلاقا . وأين تعرفت عليه ؟
-تعرفت عليه وأنا أبحث عن عمل .
وتابع :
-وسأعمل معه في شركة تدر علينا مالا وفيرا
-وما هذه الشراكة ؟
قالتها بسخرية ، وأردفت :
-اسمع يا حمدان ، أنت لازلت شابا في مقتبل العمر لم تتجاوز الثالثة والعشرين من عمرك ، اترك هذه الألاعيب ، وتصرف كشاب مسلم واع .
-أنا لست صغيرا يا أمي ، أرجو أن تساعديني في حياتي العملية لأصير رجلا غنيا .
-اعمل كباقي الشباب ثم تزوج واستقر في أسرة لا في الشوارع هنا وهناك .
-لن أتزوج حتى أصير غنيا
-اعمل وادخر راتبك تصر غنيا
وسكت قليلا ثم قال :
-أليس عندي مال يا أماه ؟
- ولم تسأل هذا السؤال ؟
-تريدين أن تقولي لي إنني أدخره لك لتتزوج به
-نعم
-أعطني أموالي ودعيني أفعل ما أشاء
فكرت الأم مليا... لقد كانت تتنازعها عاطفتان : الخوف على ابنها الوحيد من الانحراف إن كان معه مال ، والرغبة في أن يحس برجولته ويتعلم من أخطائه مادام أنه لم يتعلم من سلوك من حوله، ولا سيما أنه قد تجاوز سن الرشد ، ولا يبدو عليه أمارات الانحراف .
وسألته : اصدقني، ماذا ستعمل؟ وأين تعرفت على صديقك الصيني ؟
-قلت لك إنني تعرفت عليه أثناء بحثي عن عمل .
-وأين التقيت به
-هو خياط يعمل في البناية التي كنت سأعمل فيها
-إيه
-وهو يريد الآن أن يفتح محلا للخياطة ولكن ليس معه مال
-هل لديك أجرة الشقة وتكاليف المحل وإقامات العاملين و...و...
-لا
- إذا كيف ستحصل على المال
-من عندك
- لا والله ، لاأضع شقاء عمري مع ولد مراهق ، وليس عندي بيت يؤويني في كبري ، سأشتري بيتا
-إذا أعطني أموالي فحسب
-هي لا تكفي لمشروعك ولذلك سوف تضيع هباء
-لا لن تضيع سأعمل ليل – نهار
-وهل المال كل شيء في الحياة ؟
وأردفت :
أنا لم أربك على المادية ، لك أن تعمل حينما تكون كبيرا واعيا ، ثم من الذي سيستأجر المحل باسمه ؟
-أنا
-ولم أنت ؟ إن هذا إنسان سيوقعك في مشكلة ثم ينسحب ليدعك مع أصحاب الديون أو الرواتب ، وسيكون مأواك السجن حتى تدفع غرامات مستحقة عليك
-سأستأجر شئتِ أم أبيت ، وسأدبر أمري .
-هكذا إذا ؟
وخرج ولم يعد ليلته حتى بزغ الفجر، وكان النوم قد جافى الأم، وكانت مخيلتها تلاحقه بين الفينة والأخرى، ونفسها بين الخوف عليه والغضب من تصرفه، وكان أشد مايقلقها أن يكون هذا الصيني من رجال المخدرات، كانت الأفكار تصطرع في مخيلتها وتطاردها كثعابين قاتلة في غابة موحشة في ظلام دامس لاتعرف كيف تنجو منه ... ولم يكن أمامها إلا الدعاء، وتذكرت قوله تعالى " ادعوني أستجب لكم " وبقلب يكاد يتفطر ألما ناجت ربها :
-اللهم احفظه من كل شر وضر ، اللهم احفظه من الماكرين ، اللهم أبعد عنه أهل السوء واستعمله لما تحب وترضى يا أرحم الراحمين .
... ... ...
وفتح الباب ...
-أين كنت ؟ قل لي أين كنت ؟ ومع من قضيت ليلتك ؟
-آه يا أمي إن ظهري يؤلمني
- ولم ؟ ماذا فعلت ؟ أكنت تكسر الملح ؟
- لأنني جلست مع الصيني أحسب الأرباح ، سيكون لي في كل شهر ألفان
- أهذا الذي أسهرك إلى هذا الوقت
- دعيني أصلي الفجر أولا ثم
- ثم ماذا ؟
وأردفت :
- صل ثم نتكلم .
وأدى صلاته بين التعب والخشوع ، وجلس بعدها منهكا فقالت له :
-ألا تخاف الله من هذا التأخير وعواقبه الوخيمة ؟
-ومن قال لك عواقبه وخيمة ؟
-ألا لا أفهمك يابني .
-أنا لست ممن تظنين يا أماه ، صدقيني يا أماه أني لست من هؤلاء ، أنا لم أعمل عملا منكرا .
-حبست الأم آهاتها في حلقها ورأت أن تستمع إلى ابنها ، فلعله كان صادقا ، وشعر الابن بضيق أمه التي يحبها حبا جما، فاقترب منها وجلس إلى جوارها يمسح دمعا قد تساقط على خديها ، وقال لها :
-كفي عن البكاء ياأماه ، أرجوك لاتظني بي سوءا ، أنا رجل شاب مستقيم ، وقد ربيتني على التقوى ، لقد غرست في قلبي حب الله ورسوله فلا تتوهمي ماليس حقا .
نظرت الأم إلى ابنها مليا وقالت في نفسها :
-أيكون ابني صادقا ، ولكن أين كان في هذه الليلة ؟
وقالت له :
-اصدقني يابني ، أين كنت هذه الليلة ؟
-والله يا أم مع الصيني أحسب تكاليف المحل ، لاتخافي علي يا أماه فكلماتك وتوجيهاتك لاتبرح مخيلتي وعقلي ، وخوفي من رب العالمين يجعلني في مأمن من المفسدين .
-ولكن..
-ولكن ماذا ؟ إن الله لم يحرم علينا السعي في الليل أو في النهار .
- حماك الله ياولدي وهداك الرشد، ولما يحبه ويرضاه من القول والعمل .
... ... ...
وصحت وصحا في اليوم الثاني .. كانت منهكة من السهر وكان ، وتلت من قرآنها ماتلته ، وصلى مسرعا ثم أغفى .. ونهض بعد ساعة مثَّاقل الخطا فتوجهت الأم إلى بارئها كعادتها ليهديه سواء السبيل ...
ومر عام بطيء الخطا ... وتأكدت الأم من مسيرة ابنها ومن أحاديثه أنه لم يحد عن الطريق المستقيم، إذ كان أول عمل يقوم به عند عودته إلى البيت أن يصلي ركعتين، ثم يجلس معها ويحادثها وتحادثه، ويزداد منها ثقافة ومعرفة بالحياة... فقد كانت المطالعة شغلها، وعلمتها التجارب الكثير .
وجاءها يوماً والصينيُّ معه وقال لها :
-بشراك يا أم .
-ما الخبر ؟
-لقد أسلم
-من ؟ الصيني ؟
- أجل يا أم
وأردف :
- أوتظنين أني أجلس معه وأثرثر ؟ ألم يقل الله سبحانه عن المؤمنين " والذين هم عن اللغو معرضون ؟ ولهذا جعلت أحاديثي مما ينفع، ورأيت أن أعظم ما ينفعني وينفعه في الدنيا والآخرة أن أعلمه الإسلام ، ولهذا كنت أناقشك في كل يوم أستزيد من علمك وأعلمه .
نظرت الأم إلى ابنها مليا ونظرت إلى الصيني فرأت وجهيهما يتهللان ، وقال الصيني : " أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، الحمد لله على الإسلام .
مرت السنوات العجاف من حياتها أمام ناظريها سريعة كالبرق ، ثم بدا لها أن الزمن قد توقفت عجلته في هذه اللحظة لتستمتع بما سمعته قبل أن تزول .
وأردفت :إذاً كنت داعية لاخياطا.
-وهل يتعارض هذا مع ذاك ؟
-بارك الله بك يابني ، لقد رأيت الآن ثمرة الغرسة الطيبة كما قال تعالى ، إنها شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .
-حفظني الله بدعائك يا أم وبتوجيهاتك القيمة ،
سجدت الأم شكرا لله وقالت لابنها :
-هنيئا لك يا بني وهنيئا له ، ومن أسلم على يديه رجل فقد وجبت له الجنة .
وسوم: العدد 653