مقام الألم
محمود القاعود
" الحُب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل " استدعت ذاكرته ما قرأه منذ سنوات للإمام ابن حزم ..
فى الطابق العاشر بالفندق العتيق بوسط القاهرة ، كان متعباً للغاية .. عيناه تقاومان النوم ، صفرة صارخة تكسو وجهه ، يتحرك ببطئ شديد ناحية زر الإضاءة ، أطفأ نور الغرفة ، ثم أضاء الموبايل ليري موضع السرير ، ألقي بجسده الواهن وتمدد فوق السرير .. ينظر ناحية النافذة فيطالع إضاءة خافتة قادمة من بعض العمارات العالية التى تبدو كالحة ، تطلع إلى سقف الغرفة ، اصطدمت عيناه بالظلام القاتم ، فشعر بظلمة فى الروح ، زادت من خفقان قلبه .. لكنه سرعان ما استسلم لهذا الظلام وتلك الظلمة ..
كان هذا منذ عشر سنوات أو يزيد .. هكذا بدأت الذكريات تترى وسط هذا الظلام الكئيب .. لا زال يذكر انحناءة الصفصافة وأغصانها التى تلامس جبين الترعة القديمة والشمس الذهبية التى حولت كل شئ إلى أنوار متوالدة تبعث على البهجة والفرح ..
فى البدايات كان دائما يتوقع النهايات ، صوته المبحوح فى اللقاء الأول .. مبادرة الاعتراف بالحب ، نشوة الانتصار وإحراز هدف كانت تتمناه الروح بالعيش مع من أحبت وألفت .. قُبيل الفجر فى الطريق المظلم الموازي للنيل الذى تنتشر على حافته الأشجار الكثيفة المتشابكة ، كان يمشي وحيدا يري بحار من الأنوار رغم الظلام ! وكأن قلبه صار قطعة من النور ! لا يعرف إن كانت تلك هى المكاشفات أم المشاهدات ! أم هو امتزاج روحه بروحها فنتج عن ذلك هذا النور !
رعشة خفيفة تسري فى جسده فيتقلب فى الفراش لا يلوي على شئ ، وكأن الذكري تهوي بصخرة كبيرة فوق يافوخه ، فتجعله يترنح ترنحا مؤلماً يشعره بشئ صلد في قلبه كأنه المسامير !
يغفو قليلا ثم يحملق فى سقف الغرفة.. يتناهى إلى سمعه صوت القارئ الذى كان فى العزاء الذى حضره منذ سنوات بجوار منزله :" قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً " شعر بذات الرجفة التى شعر بها وقتها لكنها هذه المرة مصحوبة برعب عظيم !
يعاوده فرحه معها فيتوقف قلبه عن الدق بصخب ، وكأن ظلام غرفته يتلاشي .. وكأن ظلمة روحه تتبدد ! رأي فى عينيها إضاءة معبرة .. لم تتحدث معه .. أراد العتاب .. لكنها أرادت الاطمئنان .. تنظر إليه بشفقة كأم تهدئ من روع طفلها .. سكنت روحه .. رغبة جامحة تدفعه للحديث مع الطيف .. فلعلها تكون هى !
النور يخبو .. وجسده ينتفض انتفاضا مؤلما .. عادت الظلمة من جديد وأدرك الحقيقة بالمعاناة ولا زال يعانى ليستمر فى مقام الألم !