بوش واللغة العربية

عبد العالي زغيلط

أستاذ بقسم اللغة والأدب العربي /جامعة جيجل ــــــــــ الجزائر

[email protected]

*قصة تأخرت عن النشر

لم يكسب أبو هلال طوال حياته ثروة كبيرة ولم يجمع من المال أكثر من قوت عياله،أبو هلال رجل مغمور بين أهل القرية وإن غمر بأدبه وظرفه زملاءه ومحبيه،فوصفوه بأنه جم الأدب طلق المحيا خفيض الجناح لعارفيه، به دعابة الا أنها دعابة من يعرف مواطن الكلام ومآتي الرجال.

كان أبو هلال يُرى صباحا حاملا محفظته الجلدية المتآكلة، قاصدا مدرسته، يعلو الوقار محياه، وتشع الثقة بالنفس من عينيه، وتنضح الزراية بالدون من جوانحه،وفي المدرسة يُعَدُّ أبو هلال مرجعا لما ُأشكل عليهم من مسائل اللغة، وهو دليلهم في مجاهل التاريخ ومواقع البلدان كما أنه حادي عيسهم إلى قباب الشعراء،حاضر البديهة سريع الرد في غير ما تهور يجيبك فتحس الكلمات نفاذة ويسامرك فيريك لقمان من نفسه ...

هذا هو أبو هلال رجل ظرف وأدب ،مركوبه رجلاه والثوب جلده،يخرج من مدرسته وجموع تلامذته يحيطونه فيذكرك بعظماء المشاءين  بالعلم لا بالنميمة   الإغريق.

أبو هلال مغبوط من محبيه ،محسد الفضل من شانئيه، سيرته تكشف عن سريرته ،فبين المدرسة والمسجد والبيت تدور حياته، وبين ذخائر مكتبته تحلق روحه ،وإن زار السوق فللضرورة أحكام ومع ذلك فإنه يرى جلوسه في السوق نقيصة فيقول:

جلوسي في السوق أبيع وأشتري  *  دليل على أن الأنام قرود

وإذا أشار محدثا عن الدنيا تراها وكأن الوحوش قد حشرت فيها وأن لا مكان لكرام الناس بينهم فيقول:

أرى الدنيا تميل الى أناس  *  لئام مالنا فيهم صلاح

هذه كل حياة أبي هلال كما عرفته القرية؛ أنس ودرس وكفاح...بيد أن لأبي هلال قصة طريفة كدرت صفو حياته، وأوشكت تعصف بالدعة التي انتهت إليها أيامه فقد ظهر اسمه في لائحة الإرهاب التي ترهب بها أمريكا خصومها من الإنس والجان،بل صار رأسه مطلوبا وقد دهش كل من سمع بالخبر.

قال عنه الناس الأقاويل بالحق مرة وبالْأَرَاجِيفِ مرات ،ونعتوه بشتى الأوصاف أدناها خائن وأعلاها بطل قومي.لم يعبأ أبو هلال بأقوال الصحف فشاغله تكوين النشء ونشر العلم أما السياسة فأوكل أمرها إلى السوس ونفاها عن الخالق سبحانه ،غير أن الدعاية زادت وأمريكا جدَّت في طلبه والتهم غامضة ،فهو متهم بوصم سمعة الرئيس بوش والحط من أقدار أصدقاء أمريكا من العرب واليهود.

يقول عارفوه أن ساحته بريئة من التهم المنسوبة إليه وكل ما في الأمر أن زملاءه في العمل سألوه والجريدة بين أيديهم عن بوش الابن وسياسته في العالم وكيف سيكون حال الدنيا في ظل حكمه. وكعادته فقد أجاب أبو هلال والدعابة لا تفارقه عن مثل هذه التساؤلات التي كثيرا ما تصم الآذان وتزكم القلوب، وتعمي الأبصار فلا ترى الأمور على ما هي عليه،فتسعى التحاليل لتدخل الجمل في سم الخياط. 

قال أبو هلال وزملاؤه يحيطونه وقد ألقوا جرائدهم وألقوا سمعهم وشخصوا بأبصارهم إليه:

( الفرق بين الجماعة والبوش أن البوش هم الجماعة الكثيرة من أخلاط الناس ولا يقال لبني الأب الواحد بوش) ثم أضاف:( يقال جماعة من الحمير ولا يقال بوش من الحمير لأن الحمير كلها من جنس واحد ).

ولما أحس أبو هلال من سامعيه إنكار ما قاله فصَّل المجمل وقد أخد منهم موثقا أن يفشُوا ما سمعوه،أي نعم قال لهم:خبروا بما سمعتم في مجلسنا. 

قال أبو هلال:ألا تَرون أن أمريكا زعيمة العالم والتي ترى أن التاريخ انتهى عندها وتعلنه على لسان أحد عرافيها بالقول:(إن الإيديولوجية الوحيدة المتجانسة التي تتمتع بشرعية حقيقية في هذا العالم تظل هي الديمقراطية الحرة)

أمريكا هذه جماعة من أخلاط الناس لا يجمعها أبٌ واحدٌ ففيها الأوربيون النازحون بعد اكتشافها،وفيها الهنود الذين قُتِّلوا لسنوات طويلة ،وفيها الزنوج الذين سِيقُوا إليها عبيدا، وفيه العرب، وفيها اليهود..فهي قدر تطهى فيه كل الأعراق وتصهر فيها كل الأجناس والأديان واللغات...  أبعد هذا يلْوُونَ ألسنتهم بعراقة النسب ونَبالة الأرومة.

فما الذي يجمع بوش الرئيس بوزيره الأسْوَد ووزيره الأحمر والأصفر في بيتهم الأبيض وما الذي يوحد هؤلاء ويجعلهم عصبة واحدة؟ ألا ترون أن ليس هناك بوش أب ولا بوش ابن ولا ثالث ثلاثة، وإنما هم أخلاط من البشر تضمهم أرض واحدة، تديرها يد ملعونة يقال لها يهود أمريكا،وهي تلعب بالعالم لعب الحواة(من غير قصر).

هؤلاء الأوباش هم سادة المعمورة وأرباب الاقتصاد والسياسة والإعلام،فمن ملك مصانع أمريكا، وهوليود أمريكا،وبيتها الأبيض ودولارها الأخضر ثم رضي عنه أحفاد القردة والخنازير أصبح راعيا للسلام ولو كان من قبل راعيا للبقر،وأصبح زارعا للموت في أفغانستان والعراق والبقية تأتي...

أما مستقبل العالم فليس في ظل أمريكا بل في جحيمها، وليس على الأعمى حرج أن يرى قذائف اليهود تلقى على بقية الشرف العربي،ليس عليه حرج أن يراها ظلا ظليلا،أما الحمير التي من جنس واحد فلا يذهبن الظن بأحدكم أنها تناضل في الحزب الديمقراطي،أبدا فقد عدلت عن وصفهم بالبوش لأن في ذلك إساءة للأسياد،وخلط للأنساب والأعراق قد توقظ ابن مَسْكَوِيهْ من قبره ليطهرها.

الحمير هم جماعة فرت من معركة الحق والكرامة واستنفرت زريبتها في أم الدنيا ،وهم وإن كانوا من جنس واحد فكل حمار بنهاقه معجب وقد تعجب المتنبي من زيهم وحديثهم وأعلامهم فقال بعدما ذهب عنه الروع  وأنفض جمعهم المضحك المبكي :

حصلت بأرض مصر على عبيد **  كأن الحر بينهم يتيم

ولما آنس أبو هلال اهتمام من حوله بما يقول نشر كتاب العبر وقال لهم اقرءوا إن شئتم قول ابن خلدون فيهم:(فهم متنافسون في الرياسة وقل أن يسلم أحد الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره من أجل الحياء.فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام،فيفسد العمران وينتقض).

أغلق أبو هلال كتب العبر تاركا في جلسائه شوقا إلى المزيد، ثم أعقب قوله بأبيات للقطامي رأى فيها إجمالا لما بسطه وكلهم دهشة واستغراب.

فمن تكن الحضارة أعجبته  *    فأي رجال بادية ترانا

أغرنا من(العراق) على قبيل  *  إذا لم نجد إلا أخانا

بهذه الأبيات ختم أبو هلال تعليقه على ما جاء في الصحف من أخبار أمريكا ولم يعترض أحد أثناء حديثه،ولما أنهى قال أحد جلسائه:مذبحة في حق التراث.فشكر له أبو هلال حبه الجم للتراث وغيرته على ماضي الأمة العريق  وأجابه وقد أفلتت منه ابتسامة رغما عنه:

وكم من عائب قولا صحيحا  *    وآفته من الفهم السقيم

تبخر أبو هلال في شوارع البصرة، ولم يعثر له على أثر، استعانوا بكلاب مدربة تقتفي أثر التراث وتعرف خرائط الكلمات المتفجرة بالصدق والإباء، اعتقلوا كل الألسن التي رددت كلماته،ثم أدركوا أن أبا هلال قد مات منذ قرون وأنه كان يدرس اللغة والنحو بين البصرة وفارس، وعرفوا أن اسمه العسكري لا علاقة له بأي تنظيم "إرهابي"، وأن حديثه عن بوش لا يعدو أن يكون درسا جميلا من كتابه الفروق في اللغة،وأن هذا الدرس لم يوح من لَدُن بن لادن ولا السودان ولا من لدن أي مناوئ لأمريكا، فحذف اسمه من قائمة المغضوب عليهم وبرئت ساحة العسكري،وألصقت التهمة على اللغة العربية.